14 سبتمبر 2012، لأننا مدمنون منذ سنوات نتفقد شبكات التواصل فور استيقاظنا، قرأت على فيسبوك خبر تعرّض صديقي، وجيه عجوز، لحادث سير. بدأت فوراً حملة الاتصال بهاتفه، وإرسال رسائل على "واتساب" دون جدوى، بضع دقائق مرّت قبل أن نتأكد من الخبر اليقين، وجيه توفيّ فجراً بسبب حارث سير تعرض له خلال عودته إلى المنزل.
6 أكتوبر 2019 لأننا مدمنون على الأخبار، نتفقد هواتفنا صباحاً فور استيقاظنا، قرأت خبراً على تطبيق الأخبار مفاده أن حادث سير أودى بحياة شابة على طريق سريع يربط جنوب لبنان ببيروت، وأن الشاب المرافق لها تعرض لجروح ورضوض سيئة. شعور من العجز والصمت اعتراني، شعرت حينها أنني أعرف تلك الشابة، قشعريرةٌ غريبة، حاولت تفادي فيسبوك ولكن فور تفقدي له قرأت الخبر: إنها الناشطة الشابة نادين جوني، "أم كرم"29 عاماً، التي تشاركت معها مقاعد الجامعة والدراسة، التي التقيتها مرات عديدة في شوارع بيروت، تسبقنا للمشاركة في كل تحرّك اجتماعي، تبتسم وتنشر صوراً مليئة بالحياة والألوان رغم مرارة تجاربها.
ها هي طرقات لبنان، من جديد، تسرق صديقة أُخرى، صوتٌ آخر يخمد بهدوء، وجيه الذي ناضل وصرخ بوجه الطغيان والديكتاتوريات العربية واحتفل مراراً بالربيع العربي وتسابقنا معه إلى التظاهرات، نادين التي وقفت ساعات وساعات أمام بوابات المحاكم الجعفرية في لبنان، تصرخ وتطالب بحقها بحضانة ابنها، وتحمل على أكتافها عبئ نساء الطائفة الشيعية جميعاً، لم تملّ يوماً رغم أنني تساءلت مرات عديدة كيف تتحمل شابة ووالدة في مقتبل العمر كل تلك الحملات، وكل تلك الهجمات الالكترونية التي تتعرض لها.
اختبرت نادين إجحاف المحاكم الجعفرية التي فشلت بإنصافها وإنصاف الكثير من النساء الشيعيات اللواتي وقعن ضحية أنصاف رجال ادعوا أنهم أزواج صالحين ومحبّين
نادين التزمت الشارع عندما ضجر معظمنا، التزمت فضح المتحرشين على شبكات التواصل، تكفّلت بنشر رسائل تهديد ووعيد تصل لنساء أُخريات محرومات من أطفالهن، واجهت الجيش والشرطة والأمن خلال تظاهرات بيروت، من تظاهرات أزمة النفايات للمطالبة بقانون مدني للأحوال الشخصية إلى الوقوف جنباً إلى جنب مع أمهات نساء قُتلن على أيادي أزواجهنّ، صدح صوتها في وقت خفت فيها صوت نساء أُخريات، أمام المجلس الشيعي الأعلى وملحقاته.
البارحة وخلال تعليقات مشتركة مع صديقة شاركتنا مقاعد الجامعة تذكرت اليوم الأول التي التقيت نادين به في الجامعة، كانت سنتي الأولى، ولمحت شابة من بعيد مليئة بالألوان، عرفت يومها من خلال أصدقاء مشتركين أننا نتشارك العمر نفسه تقريباً، وأنها أمّ. وصباح ذات يوم، كنت قد تأخرت فيه بالوصول إلى الجامعة حيث لم يسمح لي الدكتور المحاضر بحضور الصف، توجهت إلى الكافيتريا لأحضر القهوة، ولأنني متأخرة كالعادة اكتشفت أنني لا أملك محفظة نقودي، كانت نادين تحمل قنينة مياه وتتحدث على الهاتف، ودون تردد قامت بتغطية حسابي وجلسنا معاً للمرة الأولى.
أخبرتني يومها أنها تحضر إلى الجامعة بقدر المستطاع لأنها والدة لطفل صغير اسمه كرم، وتشاركنا خوفنا من الجامعة اللبنانية عندما قلت لها مازحةً أنني لا أملك طفلاً ولكن عندي وظيفة حصلت عليها حديثاً، وقد أضطر إلى التغيب أحياناً. جمعنا خوفنا من عدم إنصاف الجامعة بحقنا. بتنا أصدقاء على شبكات التواصل نتابع أخبار بعضنا حتى عندما غاب وجه نادين عن الجامعة، كل ذلك قبل أن تنطلق نادين بحياتها النضالية بشكل علني.
"كيف منربّي المتحرّش؟" كانت الجملة الأكثر تكراراً على صفحة نادين على فيسبوك، على الرغم من فظاعة بعض الرسائل والصور والقصص التي كانت شاركتها نادين على صفحتها، إلا أن جرأتها ساهمت بفضح معنّفين ومتحرشين ومغتصبين أحياناً
سنوات مرت وباتت الشابة العشرينية أكثر من مجرد طالبة جامعية تحضر إلى الجامعة مع ابنها الصغير أحياناً، قبل أن تقرر أن تجعل قضية حقوق المرأة والحضانة قضيتها، لأنها الأقرب لقلبها، مع حرمانها من حضانة ابنها كرم، بعد انفصالها عن زوجها، لتكتفي برؤيته ساعات قليلة أسبوعياً. قرأنا مراراً قصصها ويومياتها على فيسبوك، صُدمت أحياناً بأنها لا تزال تملك قدرة على الابتسام، والصراخ والمطالبة بحقوقها في حين أنني ضجرت أحياناً من فكرة النزول إلى الشارع بنفسي.
لأنها قضية شخصيةٌ أولاً، لأن نادين جوني اختبرت العنف الأسري، اختبرت الظلم والحرمان من طفلها، والاهم، اختبرت إجحاف المحاكم الجعفرية التي فشلت بإنصافها وإنصاف الكثير من النساء الشيعيات اللواتي وقعن ضحية أنصاف رجال ادعوا أنهم أزواج صالحين ومحبّين. قانون الأحوال الشخصية الي تستند عليه أحكام المحكمة الشرعية الجعفرية فيه الكثير من الإجحاف بحق المرأة تحديداً في أمور الطلاق والنفقة والحضانة. فالمحكمة الشرعية الجعفرية في لبنان ما تزال متمسكة باجتهادات فقهية تتعلق بالنفقة والحضانة دون النظر في المصلحة الإنسانية والنفسية للطفل حيث غالباً ما يُعطى الأب حق الحضانة فتُحرم الأم من أطفالها.
بالإضافة إلى قانون الأحوال الشخصية، كانت نادين من أوائل المطالبات بتعديل قانون يمنع زواج الأطفال. حيث لا يوجد في لبنان سن رسمي للزواج أو قانون مدني ينظم شؤون الأحوال الشخصية. بل تحدد المحاكم الدينية السن الدنيا حسب 15 قانونا للأحوال الشخصية، منها ما يسمح بزواج فتيات لا يبلغ عمرهن 15 عاماً. من شأن مشروع قانون طُرح في 28 مارس 2017 أن يحدد السن الأدنى للزواج بـ 18 سنة، بدون استثناء بحسب منظمة هيومن رايتس وواتش. كانت نادين أول من ملأ صفوف التظاهرات الأمامية، حيث شاركت بتنظيم مسيرات في شوارع بيروت ضدّ اغتصاب الفتيات وتزويج القاصرات في حملة "مين الفلتان" و "مش قبل الـ 18."
لأنها كانت تحب الحياة والفرح على الرغم من مصاعبها، والاهم لأنها كانت جريئة، بلباسها بصوتها بضحكتها بالماكياج الذي كانت تختاره والألوان التي تحبّها حتى بقصّة شعرها القصيرة التي اختارتها مؤخراً: كانت نادين رمز الفتاة التي تحب نفسها، عن قناعة وبكل تواضع. كل ذلك الحب تجلّى بالقضايا التي حملتها وبالكتابات والصور التي شاركتها مراراً خلال تواجدها ولو لساعات قليلة مع صغيرها كرم.
"كيف منربّي المتحرّش؟" كانت الجملة الأكثر تكراراً على صفحة نادين على فيسبوك، على الرغم من فظاعة بعض الرسائل والصور والقصص التي كانت شاركتها نادين على صفحتها، إلا أن جرأتها ساهمت بفضح معنّفين ومتحرشين ومغتصبين أحياناً، في حين خيّبت دولتنا وقوانيننا جهود الشابة مرات ومرات، حيث أن القوانين لم تتغير، والأشرار لا يقبعون اليوم في السجون مثلما وعدتنا القصص الخيالية الجميلة التي اعتدنا سماعها في صغرنا حيث ينتصر الحق دائماً وتعيش الفتاة بسعادة وحبّ.
أخافتني جرأة نادين في بعض الأحيان، أرسلت لها مرات عديدة رسائل قصيرة أمازحها وأقول لها: "روقي شوي شو القصة عم تصرّخي من الصبح؟" والحقيقة أن الحياة قصيرة، نعم إنها الجملة الكليشيه التي نقولها عند خسارتنا شخص مقرّب أو شخص نعرفه، حيث تدفعنا الخسارة إلى إعادة قولبة ودراسة حساباتنا، إلا أنني أيقنت البارحة أن الحياة ليست قصيرة فحسب، بل هي حقيرة وغير منصفة، وأنا، نحن غير منصفون أحياناً تجاه كُثُر. ربما لو أخذنا القليل من حمل القضية عن نادين، ربما كانت ستبتسم أكثر اليوم وهي بيننا.
الحياة غير منصفة، والقَتَلة لا يستحقّون الإنصاف
عندما سمعت بخبر حادث السير الذي تعرضت له وتفاصيله، دفعتني السيناريوهات العديدة التي فكرت بها إلى التساؤل عن دقة ما حدث: هل كانت تقود بسرعة؟ هل تعرضت سيارتها لمشكلة ما؟ هل دفع بسيارتها أحد عن سابق إصرار وتصميم؟ هل أخافت جرأتها رجل ما في مكان ما… فتصرّف؟ أم أنها "سنّة الحياة"؟ كيف تخسر شابة حياتها بتلك البساطة؟ أسئلة عديدة جالت في ذهني قبل أن أتذكر أننا في بلد معروف بطرقات الموت، حيث نستيقظ يومياً على أخبار حوادث سير تسرق أحباءنا ، وجيه قبل سنوات، والبارحة نادين .. وغداً .. من يعلم؟
الراسخ الوحيد هو أن الدولة اللبنانية مسؤولة عن الكشف عما حصل على طريق الدامور فجر الأحد، شوارع وطرقات لبنان السريعة تغرق بكاميرات المراقبة، وإن صحّ الكلام عن سيارة ضربت سيارة نادين من الخلف ولاذت بالفرار (عن طريق الخطأ أو عن سابق إصرار وتصميم)، فعلى صاحب/ة تلك السيارة أن يتكلم/تتكلم، وعلى قوى الأمن أن تلاحق المسؤول/ة. وإن صحّ الخبر ولم يعترف المسؤول: أتمنى له/ا من قلبي ألا يهنأ /تهنأ بيوم سعيد في حياته/ه، لأن الحياة غير منصفة، والقَتَلة لا يستحقّون الإنصاف.