تقابلنا مئات المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي يومياً عن العنف الأسري والمنزلي ضد المرأة، نشاهد صوراً لسيدات وفتيات ضُربن بقسوة، أو أصبحن يعانين من عاهة مستديمة بعد علاقة حب وزواج، يبدو هذا العنف واضحاً ذو آثار أليمة وملموسة على المرأة، لكن هناك نوع آخر من العنف الذي يمارسه علينا شركاؤنا الحميميون، ليس بنفس الشهرة، ولا يفسح له المجال المناسب للحديث عن آثاره الصعبة علينا كـ "نساء" وهو العنف المعنوي. كنت في الثالثة والعشرين من عمري تقريباً، أحب شاباً يكبرني ببضعة أعوام، يعمل في وظيفة مرموقة وسبق له العمل في الخارج فترة قبل عودته النهائية إلى مصر، مرت علاقتنا قبلها بالكثير من التقلبات ومحاولات الصداقة ثم محاولات الحفاظ على الحب، تركني وتركته، ولكن الحب انتصر في النهاية، وعدنا إلى علاقة جديّة، مفعمة بالأمل في النجاح والزواج.
كنت أعمل وقتها، وكنت في بدايات التحقق المهني، باحثة في حقوق الإنسان بعقد ثابت في مؤسسة تكبر كل يوم، وحلم في إتمام الدراسات العليا، أرغب في احتراف الكتابة الأدبية وأحاول أن أجد لنفسي مشروعاً ورؤية، لقد تعرفت عليه وأنا صحفية بالأصل، أنشر قطعاً تحت التدريب في بعض الجرائد المصرية، وأعمل في دار نشر مهمة، وكان فخوراً بمحاولاتي وبأني تمكنت من خلع الحجاب ضد رغبة الأهل والمجتمع، عرّفته على أصدقائي، ومجتمعي، كان معجباً بمحاولاتهم هم أيضاً ليصنعوا تغييراً، ولم يكن هو ببعيد عن الثقافة والسياسة، كان يتحدث دوماً في الشأن العام وعن نشاطه السياسي أيام الجامعة، كان مثالياً.
كنت أحبه جداً بالطبع، شروط العلاقة نفسها كانت مثالية، فنحن نعرف بعضنا جيداً، ونعرف أصدقائنا كذلك، تكافؤ من جميع الجهات تقريباً، يعرف عن أحلامي وهو جزء منها، وكنت أدعمه في اختياراته مهما كانت صعبة، حتّى بدأت الأمور في التغير قليلاً بعد سنة من السعادة الصافية. بدأ الأمر بغيرة شديدة من أصدقائي الذكور، والاتهام الدائم لي أنني معجبة بهم، وأنني سأتركه لأرتبط عاطفياً بأحدهم، وتحول هذا الأمر إلى ما يشبه الإذلال المتكرر، فأنا أستطيع فعل ذلك طوال الوقت وهو يشعر أنه مهدد، وأي تواصل معهم يهددني بأنه لن يتحمل الأمر طويلاً، والحل هو تحجيم علاقتي ببعضهم، وقطعها بالآخرين، كان يعترض على أسماء بعينها، ويتدخل في علاقتي بآخرين مطالباً بقطعها، فيما يحتفظ هو بحقه في الحفاظ على الصداقات الأنثوية في حياته، مؤكدا أنهن مجرد أصدقاء، مهما أشارت تصرفاتهن إلى عكس ذلك.
كان يتهمني دائماً أنني لا أبذل جهدًا في العلاقة كما يجب، وأنني توقفت عن الاهتمام برضاه، كنت أشتري هدايا وأحاول تعويضه عن خسائر عدم العمل ولو بشراء غداء اليوم
كنت أشعر أنني مخطئة، لا يمكن أن يكون ذكورياً وشرقياً ومحباً للتملك، بالتأكيد يؤمن بالصداقة بين الرجل والمرأة، لقد شاهدته كثيراً يتحدث عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجال في جلسات جمعت أصدقاء وغيرهم، وشاهدت معاملته لصديقاته ودعم اختياراتهن التقدميّة في الحياة، بالتأكيد أنا التي أخطأت التصرف، سأحاول تدارك الأمر. بدأ أصدقاؤه الذكور في التعليق على ملابسي وعلى صداقاتي المختلطة، يتهمونه بانعدام النخوة، وبأنه ليس رجلاً، ويتدخلون في تفاصيل علاقتنا معلقين عليها، ورغم كل مبادئه، إلا أنه بدأ فجأة يسفّه من عملي في مجال حقوق الإنسان، وتكررت محاولات التندر والسخرية في جلسات تجمع الأصدقاء من الطرفين، وقتها لم آخذ التسفيه من عملي بجديّة، كنت أعتقد أنه يداعبني، كنت أصدّق إيمانه العميق بالعدالة، وكانت سنوات من النشاط السياسي والاجتماعي، حتّى أننا انضممنا إلى حزب سياسي سوياً، فكيف يمكن أن يكون عملي مثار تحقير وتسفيه حقيقي؟ لابد أنني لا أهتم به كما يجب، يجب أن أبذل مزيداً من الجهد في العلاقة.
في هذه السنة، اختار أن يتوقف عن العمل المنتظم في الشركة الخاصة، انتظاراً لحل مشكلة أوراق رسمية تتعلّق بوضعه مع مكتب العمل، ورغم دعمي لهذا الاختيار، إلا أنه قرر أنه سيقوم بحفظ مدخراته كاملة ولن يقوم بإنفاق أي شيء منها، خوفاً من المستقبل، وأنني يجب أن أساهم في نفقاتنا نحن الاثنين، وتحول الأمر بعد قليل، إلى أنني مسؤولة تمامًا عن نفقاته اليومية عدا أشياء بسيطة، لم يكن لدي مدخرات، ولم أستطع أصلاً التفكير في الفكرة، تبخّرت أحلام السيارة بالقسط، وبدأت أحارب لكي يكون معي ما يكفيني شهرياً، ولم يكن يكفيه هذا، كان يتهمني دائماً أنني لا أبذل جهدًا في العلاقة كما يجب، وأنني توقفت عن الاهتمام برضاه، كنت أشتري هدايا وأحاول تعويضه عن خسائر عدم العمل ولو بشراء طعام اليوم، رغم تكدّس الأموال في حساباته المصرفيّة، ورغم شعوري بالفقر، إلا أنني كنت أستمع إلى كلامه عن الحب والأبدي وأصدّقه.
كنت أحبه بالفعل، واتفقنا على الزواج في نهاية العام، بدأ يتحدث مع والديه في الموضوع، في هذه الأثناء كانت لدي فرصة لأسافر إلى الخارج حتى أتم دراستي العليا، فرفض رفضًا واضحًا سفري قائلاً إنني لا يمكن أن أتركه محبوسًا في البلد لا يستطيع السفر وأذهب أنا، يجب أن أظل معه حتى ينهي مشكلته مع العمل، وأنه لا يمكنه أن ينتظرني كل هذا الوقت، فهو يحبني جداً ولا يستطيع تخيل الأيام بدوني، وأنني إذا قررت السفر، فهذا معناه أنني اخترت انهاء علاقتنا، ووافقت على الانتظار بدافع من الحب والشعور بالمسؤولية تجاه انهياره النفسي المحتمل إذا سافرت، قُلت لنفسي بالتأكيد هذه مسؤوليتي، ألم أعده أن أظل بجانبه إلى الأبد؟ أليس هذا هو الحب؟ يمكن للدراسة أن تنتظر عاماً آخر.
بدأ يقول أن جسدي أيضاً ليس جميلاً، وأنه لا يحب شكله، وأنني يجب أن أسمن قليلاً، وبعد أن زدت كيلو أو اثنين في محاولة لإرضائه، كان يتهمني بالسمنة والامتلاء ويخبرني أن جسدي أصبح قبيحًا
بعد هذا القرار أغرقني في السعادة، لكنها لم تستمر طويلاً، أيام ورفضت والدته الزواج، سيّدة تقليدية ترى في الحب قبله عيباً كبيراً وحراماً، وتتهمه أيضاً بانعدام النخوة والرجولة لإقدامه على حبي وطلب الارتباط بي رسمياً، بحجج كثيرة من ضمنها أنني لا أصلح لأكون زوجة، فأنا أريد ان أكتب كتباً وأدرس الماجيستير والدكتوراه، فلن أكون متفرغة لخدمته ورعايته، وكان هو بداخله يصدق ذلك قليلاً، فكان في كل مرة يتناقش معها، يعاملني بأسوأ الطرق الممكنة، ثم يعود ويتأسف، ويكرر أنه يحبني ولا يمكنه الحياة بدوني، في كل مرة كان يهينني، ويهين طموحي، ويهين أصدقائي، ثم يتأسف، ويحتضني قائلا أنه لا يستطيع العيش بدوني وأننا سننجح في الزواج رغماً عن الجميع، وكنت أخبر نفسي أنني استثمرت كثيراً في هذا الحب، وأنه لم يتبق إلا خطوات بسيطة حتّى نكون معاً، وأتحمّل المعارك الصغيرة التي تتحوّل إلى تراشق بالاتهامات، حتى بدأ الأمر يتطور إلى إنكار مواقفه السابقة. تعرّف على مجموعة من الأصدقاء المثقفين، وكان دائماً ما يسهر معهم وكان يدعوني للذهاب معه، هم أكثر تحرراً منه ومن أفكاره التي ظهرت مؤخراً، فما السبب؟ سألته في مرة، فأنكر أصلاً أنه يعترض على أصدقائي ومعارفي، وقال أنني أتخيّل أشياء، وأنه لم يعترض أبداً على صداقاتي ولا على مجتمعي. كنا في السيارة، وأنا أشعر بأنني على شفا الجنون، ولكني توقفت عن الحديث، قلت في نفسي ربما يحاول أن يصنع عالماً مشتركاً لنا، وبدأت في الاستعداد للاحتفال بذكرى تعارفنا، رغم الظروف، أردت أن أحتفل بالحب، ارتديت فستاناً كان اشتراه لي في أيام الصفاء، وخرجنا في مكان مناسب للسهر والاحتفال، بعد أن قام الجرسون بتسجيل طلباتنا، وجدته ينهرني ويأمرني أن أغطي شيء يغطي أكتافي وصدري! والسبب؟ لأن الجرسون ألقى نظرة علي وهو يسجل الطلبات. جن جنوني بالطبع، هل هو خطئي؟ أين إيمانك بأن المرأة من حقها أن ترتدي ما تشاء، وأن التحرش ولو بالنظر هو خطأ الرجال وليس خطأ الضحية؟ اتهمني يومها أنني أستمتع بنظرات الرجال، ولم يستطع أن يرفع عينيه في مواجهة الجرسون أو يشكوه لإدارة المكان كما كان أي شخص آخر ليفعل لو كان مكانه، وبالطبع، ذهبت إلى منزلي وأنا أبكي، وبدأت صورته في ذهني تختلف، لكن التعليق على الملابس، لم يتوقف، كان يعلّق على كل شيء أرتديه حتى لو رآه من قبل، وبدأ يقول أن جسدي أيضاً ليس جميلاً، وأنه لا يحب شكله، وأنني يجب أن أسمن قليلاً، وبعد كيلو أو اثنين أكثر في محاولة لإرضائه، كان يتهمني بالسمنة والامتلاء ويخبرني أن جسدي أصبح قبيحًا، ويشير إلى صديقات أو إلى صورهن على الإنترنت ويتغزّل في جمال أجسادهن.
بدأت أشعر أنني بالفعل لا أستطيع ارضائه مهما فعلت، وبدأت أحزاني تطفو على السطح، بدأت أفكر أن هناك شيئاً ما ليس حقيقياً في هذه العلاقة، ولكنني كنت أحبه ولا أستطيع تخيّل الحياة بدونه، كنت أتراوح بين الاكتئاب والمرض الجسدي، في مرّة قصصت شعري تماماً، طمعاً في المزيد من السيطرة على الأمور، وعندما رآني خاصمني عدّة أيام عقاباً لي على تصرفي في شَعري دون إذنه، وبدأ يشكو من أنني لا أوليه اهتماماً كافياً، وأنني يجب أن ألتزم بمواعيد العمل بالضبط، ويجب أن أعطيه كل يومي بعد هذه المواعيد، غير مسموح بعمل أي شيء آخر بدونه، وكنت أقول لنفسي، ربما لديه حق، يجب أن أبذل مجهوداً أكبر للمحافظة عليه، ألا يخوض معركة مع والدته ليقنعها بزواجه مني؟
لقد خرجت من هذه العلاقة بخوف شديد من الحب، ومن التورط مع الآخرين في علاقات جديّة، وبالطبع بعدة جروح وندوب على المستوى النفسي
كنت مستنفذة على جميع الأصعدة، لكن حريصة على البقاء بصحبته، وفي يوم ذهبنا إلى مركز تجاري لنشتري بعض المستلزمات الشخصية سوياً، أعجبني شيء في الرف الأسفل ونزلت على أقدامي لأفحصه، لأفاجئ به ينهرني ويأمرني بالانتهاء فوراً، تخيّلت أنه لا يريد أن يدفع كالعادة، فأخبرته أنني سأشتريه بنقودي، ليخبرني أن قميصي مرتفع قليلاً عن البنطلون ويجب ان أعدّله، ففعلت ذلك، وأكملت الفحص، وعندها نظرت إلى جانبي فوجئت بوجود رجل بجانبه يتأمل ظهري، فيما كان هو ينظر إليه غير قادر على الإتيان بأي فعل تجاهه بينما يقوم بتعنيفي!. وعلى الرغم من موقفه السلبي إلا أنه ظل يعاقبني على هذا اليوم لمدة أسبوع، حتى أخبرني وهو يتأسّى لحاله، أنه يحبني ولكنه لا يستطيع العيش مع حقيقة أنني أحب أن أظهر أجزاء حميمة من جسدي للناس وأنه يتعذب بسبب هذه الحقيقة. كان هذا الموقف هو لحظة التنوير بالنسبة لي، وانتهت بعده هذه العلاقة المريضة بفترة قصيرة. ولم يتوقف مرضه. أنهى العلاقة يوم عيد ميلادي إمعانًا في إيذائي نفسيًا حتى آخر لحظة، كان أصدقائي دائماً ما يرون أنني أبذل مجهودًا زائدًا في العلاقة، لكنهم لم يجرؤوا على مواجهة الحب الذي كنت أكنّه له وإيماني بأنه شخص ذو أفكار تقدميّة. لقد خرجت من هذه العلاقة بخوف شديد من الحب، ومن التورط مع الآخرين في علاقات جديّة، وبالطبع بعدة جروح وندوب على المستوى النفسي، لم أتعافى منها إلا بعدها بستة أشهر، هذا غير الخسائر الصحية والمادية والأكاديمية.
في هذه الفترة، قرأت كثيراً عن العلاقات المؤذية، وساعدت قصص النساء الناجيات على التجاوز والفِهم، وجدت أن هناك علامات واضحة لنعرف أن الشريك يمارس علينا عنفاً معنوياً، مثل إلقاء اللوم عليك في كل المشاكل التي تعتري العلاقة، ومقارنتك دائماً بآخريات ليقلل من احترامك لنفسك وشعورك بقيمتك، وتعمد إحراجك في الأماكن العامة، ومحاولة التحكم في أموالك أو أمورك المالية عموماً، فيحاول السيطرة على دخلك الشهري أو على أي عائد أو ميراث يؤول إليك، يختار دائماً ملابسك، ويأمرك بملابس معينة أو بالتخلص من أخرى، يمنعك من رؤية أصدقائك أو عائلتك، أو يحاول تحجيم علاقتك بهم، وأخيرًا يهدد بالانتحار أو بأذى نفسه حتى لا تتركيه.
بينما هذه هي العلامات التي يقرّها علم النفس، فمكتب الأمم المتحدة للمرأة، يعرّف العنف بشكل عام: "يعرّف مصطلح (العنف ضد المرأة) لأغراض هذا الإعلان، بأنه أي عمل من أعمال العنف القائم على نوع الجنس والذي يترتب عليه، أومن المحتمل أن يترتب عليه، أذى جسدي أو جنسي أو نفسي أو معاناة للمرأة، بما في ذلك التهديد بالإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في مكان عام أو في الحياة الخاصة." بما في ذلك العنف الجسدي والجنسي والنفسي. رحلة التعافي لم تكُن سهلة، وأزاحت في طريقها علاقات كان يُمكن أن تحدُث وحبًا لم يكتمل، لأني لم أكن مُهيئة نفسياً لعلاقات متوازنة، تصوّرت وقتها أني أستحق الكثير والكثير، وعلى القادم أن يقدّم ضمانات كبيرة وتضحيّات لا معنى لها سوى في داخلي، لطمأنتي تجاه المجهول القادم في صورة الحُب، والارتباط النفسي بشخص، قد يسلبني أجزاء من شخصيّتي ومن أحلامي، لكن في لحظة، لم يعد لديّ ما أخسره، لقد تهاوت صورة الحُب العظيم تحت وطأة الأذى والرغبة في الاستغلال والتملُّك، ولم يعد باقياً لي إلا نفسي لأتكئ عليها.
لقد كان أصدقائي وعائلتي خير رفيق لي في هذه الفترة، أتذكّر امتنان أمي لصلابتي النفسيّة رغم كُل ما حدث، ورحلات المشي اليومية مع أصدقائي على كورنيش النيل في محاولات للتعافي وإخراج الطاقة السلبية واستعادة الإيمان بالحياة، بالطبع لم أكن لأنجو دونهم، ودون محبّتهم. الآن عندما يحكي لي الصديقات أو السائلات عن رأيي في علاقات مشابهة، أنصحها ألا تفقد شبكة أمانها النفسي والدعم المحيط بها أولاً، وثانياً أن تذهب إلى الطبيب النفسي إذا سنحت الفرصة، وثالثاً: أن تعود إلى نفسها، دواخلها، وتسأل سؤالاً واحداً: ما هي الصورة التي تتمنين أن تكوني عليها في هذه العلاقة؟ وإلى أي مدى أثّر عليها الشريك وغيّرها؟ إجابة هذا السؤال، هي بداية تجربتك الخاصة وخلاصِك.