شاهدت مؤخراً مقطعاً من برنامج المواهب الذي يعرض على شاشة إم بي سي (آرابس غوت تالنت) لفنان سوري قام بتشكيل لوحة فنية بالحجارة تصوّر اللجوء السوري، اللوحة كانت جميلة ومعبرة، ولا يوجد لدي شك بأن الرجل موهوب بالفعل. لكن لدي كل الشكوك في ردة الفعل الموحدة لأعضاء لجنة التحكيم (علي جابر، أحمد حلمي ونجوى كرم) ومقدمي البرنامج (ريا أبي راشد وقصي خضر) الذين إنهمروا بالبكاء لشدة تأثرهم باللوحة. شكوكي هذه مبنية على كثير من التجارب السابقة التي تم فيها استغلال القضايا السياسية من أجل زيادة نسبة المشاهدة والانتشار لهذه البرامج ومن أجل الحصول على مكاسب تجارية، ولربما سياسية.
لم ينته الموضوع بإنتهاء العرض والحلقة، فقد اشتعلت مواقع التواصل الإجتماعي فيما بعد لنقاش مدى أخلاقية ما قام به المشترك السوري المعروف باسم نزار علي بدر، فهو قدم لوحة لتجسد اللجوء السوري، بينما هو "يدعم من تسبب في هذا اللجوء" على حسب ما نشر رواد مواقع التواصل الإجتماعي من منشورات لبدر يدعم فيها الرئيس السوري بشّار الأسد. وبالتأكيد، هذه الجلبة لا تصب في مصلحة أحد، إلا البرنامج الذي يريد أن يستفيد من أي شيء قد يجعل هذا الفيديو يكتسح صفحات فيسبوك وتويتر، وبالتالي يقدم دعايّة مجانية لهذا الموسم الذي لا يزال في بداياته.
أنا لا أذكر معظم المواهب التي رأيتها في السنوات السابقة من برامج الهوّاة، لكنني بالطبع أذكر جميع من ارتبطت أسمائهم بأسماء بلادهم ذات القضايا الشائكة. فأنا مثلاً أذكر جيداً الفلسطيني عمّار حسن الذي نافس على لقب سوبر ستار في موسمه الثاني، فقد كان عمّار الاسم الفلسطيني الأول الذي لمع في مثل هذه البرامج. جرت نقاشات عديدة في حينها عن حجم الإهتمام الذي حظي به عمّار، وعمّا إذا كانت مثل هذه البرامج هي طريقة جديدة للترويج لقضايا سياسية وإنسانية مثل قضية الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. في عام 2007، احتل اسم العراقية شذى حسون التي فازت بلقب ستار أكاديمي الذي عرض على قناة LBC عناوين الصحافة المحلية والعالمية، ذلك لأن حسّون نجحت في توحيد الشعب العراقي على اختلاف أطيافه و مذاهبه في التصويت لها، وكانت قضية حسون أيضا تشبه قضية الفلسطيني عمّار حسن، فكلا الشعبين كانا يتوقان لشيء ينتصر لحقوقهم المسلوبة، فأتت هذه البرامج وقدمت لهم ما بدا بديلاً عن إنتصارٍ حقيقي.
أيضاً، المشترك عمار محمد اليمني الذي تأهل لنهائيات برنامج آراب أيدول في موسمه الرابع، حيث بكينا جميعا مع عمار وهو يغني ويتذكر ما يجري في اليمن. ولا داعي للحديث عن فائدة التوظيف السياسي للقضية اليمنية في برنامج يعرض على شاشة سعودية، فعلى الرغم من أن الإم بي سي تعرض بالغالب فيديوهات مباشرة لجماهير المشتركين بلادهم، إلا أن الحلقة حينها عرضت فيديوهات "لجماهير عمّار في السعودية" ولم تذكر أي شيء عن معجبينه في بلده الأم. كانت هذه هي المرة الأولى التي لا يتم استغلال السياسة فيها فحسب، بل استغلالها وما يتماشى مع مصالح من يملك المحطات التي تعرض هذه البرامج.
قصة محمد عساف تم استغلالها بشكل مفرط في الحلقات الأخيرة من الموسم، حتى أنني أذكر النكات التي انطلقت في وقتها، إحداها قالت أنه أخيراً "تم إعلان دولة فلسطينية ولكن على مسرح أراب ايدول"
لا تقوم إدارة هذه البرامج غالباً بإعداد تقارير مصورة قبل أن يقوم المشترك بأدائه الأول، ولكنها تفعل ذلك دائماً في الحالات التي تجلب هذه التقارير بالتأكيد مزيدا من المشاهدات، وخاصة لأصحاب التجارب الشخصية المميزة، وخاصة الذين حضروا من مناطق أنهكها النزاع. سبق لي وأن اطلعت على أوراق الإعداد لإحدى هذه البرامج، يقوم موظفي هذه البرامج بتحديد نوع المقابلة التي ستقوم اللجنة بها مع المشتركين، فلا شيء عفوي هناك. فإن كانت هناك قصة مميزة، تكتب على جانب اسم المشترك حتى يتسنى للجنة أن تسأل الأسئلة المناسبة للشخصية، وإلا فقد كتب بجانب أسماء الأشخاص بدون القصص المميزة "مقابلة عادية." فمثلاً، في فقرة فرقة التخت الشرقي الموسيقية التي أتت من قطاع غزة المحاصر، تم تحضير تقرير مطول عن قصف اسرائيلي استهدف مدرسة الموسيقى التي يدرس فيها الأطفال الذين أسسوا هذه الفرقة. وحصل حينها الأطفال على ما يعرف بالـ "باز الدهبي" الذي يقدم للمواهب الإستثنائية فقط.
هذا يعني أن السياسة لا يجب بالضرورة أن تقصى عن برامج المواهب، فبالنسبة لفرقة التخت الشرقي مثلاً، يعتبر قصف مدرستهم الموسيقية هو جزء مهم من التحدي الذي يواجهه مليوني فلسطيني في قطاع غزة، ولا يمكن انتزاع هكذا تفصيل من السياق العام للقصة. أيضاً، تجربة الفلسطيني محمد عسّاف ببرنامج "أرب آيدول" الذي نجح رغم الحصار الإسرائيلي المصري المفروض على قطاع غزة، أن يخرج إلى مصر وأن يصل إلى التجارب الأولى ثم إلى النهائيات ثم إلى اللقب، كانت من أفضل قصص النجاح التي يمكن أن يرويها شخص عن الإصرار على الحياة رغم محاولات القتل. ولكن حتى هذه القضية، تم استغلالها بشكل مفرط في الحلقات الأخيرة من الموسم، حتى أنني أذكر النكات التي انطلقت في وقتها، إحداها قالت أنه أخيراً "تم إعلان دولة فلسطينية ولكن على مسرح أراب ايدول." لا أنفي أنني شعرت بفرحة شديدة عند فوز عسّاف باللقب لأنه يمثل قصة من آلاف القصص لأشخاص طموحين قابعين في سجن اسمه قطاع غزة، لكنني كنت أحب أن تكون القضية الفلسطينية حاضرة بوزنها الحقيقي والذي هو موجود أصلاً، لا بمحاولة القائمين على البرنامج بإستخدامها لأغراض تجارية.
لا أحد ينكر أن طريق الوصول إلى الجمهورهو أسرع كثيراً عن طريق برامج الهواة، خاصة مع الجمهور الكبير لهذه البرامج التي هي عالمية في الأصل. لكن هذا يعتبر سلاح ذو حدّين، حيث أن الوصول السهل إلى القمة، يحتاج إلى كثير من العمل للمحافظة عليها. لكن هذه البرامج التي تعمل كل ما بوسعها للحصول على مشاهدات أكبر، لكن معظم هذه المواهب التي يتم الاحتفاء بها تختفي بانتهاء عرض هذه البرامج. لا يعني هذا أنه يجب على تلك البرامج بالضرورة تقديم أي شيء بعد إنتهاء العرض، لكن هذا يؤكد أن الهدف من هذه البرامج هو الحصول على مكاسب تجارية، وليس بالضرورة مساعدة أصحاب المواهب الحقيقية فيما بعد.
أن الاستغلال السياسي لبعض المواهب ليس أسوأ ما يحدث، بل استغلال بعض الأشخاص غير الموهوبين للتنمر عليهم وجعلهم مادة للسخرية هو أيضًا يحتاج الوقوف عنده كثيرًا
إن أكثر ما يزعج في الاستغلال السياسي لقضايا سياسية وغالباً إنسانية لبعض المشتركين، أنها لا تتوقف عن كونها استغلال تجاري لقضايا إنسانية، وفي بعض الأحيان يكون البعد السياسي في بعض الفقرات حاضراً أكثر من الموهبة نفسها. ويجب أن نذكر هنا أن الاستغلال السياسي لبعض المواهب ليس أسوأ ما يحدث، بل استغلال بعض الأشخاص غير الموهوبين للتنمر عليهم وجعلهم مادة للسخرية هو أيضا يحتاج الوقوف عنده كثيراً. لكن القاسم المشترك بين جميع أنواع الاستغلال للمشتركين، هو السعي وراء تحقيق مكاسب تجارية على حساب أوجاع الناس وخصوصيتهم.