gi-angel-band-56afbae33df78cf772c7f056
Angel Musicians-Hans Memling
موسيقى

تأثير السريانية الآرامية على الموسيقى العربية

عُثر على أقدم أشكال التدوين الموسيقي في لوح مسماري في بابل 1400 قبل الميلاد

"بتعرف انو فيك تدبك عالموسيقى التراتيل المارونية السريانية؟" منذ أن كنت طفلاً، وأنا أسمع دائمًا هذه العبارة من الكثيرين، وكانت تذهلني. فكيف يمكن أن ندبك على موسيقى يفترض أن تكون وسيلة لمخاطبة الله وطريقة للاقتراب إليه؟ هل الله يحب الدبكة؟  قبل أن تحدد موقفك من الدبكة ورأي الله بها، دعنا نشرح ما هي الموسيقى السريانية، وكيف أثرت على الموسيقى العربية؟  

أولاً يجب أن نرجع للتاريخ. 

السريان هم أقدم الطوائف المسيحية، وكانوا يسمون بالآراميين، نسبة إلى آرام الإبن الخامس لسام بن نوح الجد الأعلى لجميع الشعوب السامية، ومصطلح السريان أطلقه المؤرخون اليونانيون على الآراميين، بعد أن تركوا عبادة الأوثان، واعتنقوا الديانة المسيحية في القرن الأول والثاني للميلاد.

إعلان

حسب المراجع التاريخية، تعود جذور الموسيقى السريانية الآرامية إلى زمن الميثولوجيا واستُعملت الموسيقى للعبادة والصلاة. يمكن ملاحظة جذور هذه الموسيقى ابتداءً من ملحمة جلجامش حتى الوصول إلى صدر المسيحية والعصور العربية وحتى يومنا الحاضر. 

أول ما يتعلمه الطالب في صف تاريخ الموسيقى هو أن فيثاغورس (570 - 495 ق.م) الفيلسوف وعالم الرياضيات اليوناني والموسيقي هو أب الموسيقى الحديثة وبفضله أصبح لدينا فهم للموسيقى وإدراك كيفية عمل هذه الظاهرة الموسيقية والنسب الموجودة بين النوتات. لكن تاريخيًا هذا كلام غير دقيق، فقد عُثر على أقدم أشكال التدوين الموسيقي في لوح مسماري من نيبور، في بابل 1400 قبل الميلاد. أي قبل حوالي ألف عام من فيثاغورس. يمثل هذا اللوح تعليمات مجزأة لأداء الموسيقى، وتظهر أن الموسيقى تم تأليفها بتناغم من الثلثين وأنه تمت كتابتها باستخدام مقياس موسيقي. هذه الألواح تمثل أقدم ما تم تدوينه كألحان في أي مكان في العالم.

هذا دليل واحد فقط على مدى تأثير الموسيقى الآرامية على العالم، وهناك الكثير من الأدلة على عمق هذه التأثيرات، أهمها ربما هو "آمين" و "هللويا" اللتين كانتا تستخدمان في السابق للإله "إيل" قبل أن تصبحا الآن مصطلحات شائعة تستخدمها العديد من الأديان في جميع أنحاء العالم -تشير نظريات أخرى إلى أن هذه الكلمات لها أصول مصرية أو عبرية.

بعد الميلاد، حملت الآرامية موسيقاها إلى المسيحية، فقد تضمنت معظم الطقوس التي قام بها المسيحيون الأوائل ألحاناً موسيقية انتقلت للأديان الأخرى. تشير إحدى أقدم الوثائق الرومانية أن واحدة من أقدم المخطوطات التي تتحدث عن المجتمعات المسيحية الأولى (المسيحيين الأوائل) كانت مرتبطة أيضًا بموسيقاهم، حتى أنه في القرن الأول بعد الميلاد، تم معرفة المسيحيين من اجتماعاتهم (التي تتم قبل طلوع الشمس) وكذلك من تكرار الترانيم والصلوات و الغناء.

إعلان

بحسب البعض، لم يرغب المسيحيون الأوائل في خلق دين جديد، وقال يسوع نفسه "ما جئت لانقض بل لأكمل" (متى 17:5). ولهذا يعتبر البعض أن نعتبر المسيحيين الأوائل كانوا "يهوداً إصلاحيين" وليسوا مؤسسين لـ ديانة جديدة. بمعنى أنهم لقد استمروا في الذهاب إلى المعابد والصلاة مع اليهود لمدة قرن على الأقل، وانشقاقهم الواضح جاء بعد الثورة اليهودية الثانية "حرب بار كوخبا" 132-136 ميلادي، عندما اعتبر اليهود أن بار كوخبا، الذي قاد ثورة ضد الإمبراطورية الرومانية، هو المسيح المنتظر، ولكن اتباع يسوع كان لديهم مسيحهم. 

بعد الانشقاق، أخذ أتباع يسوع هذه الألحان وغيروا كلماتها كي تطابق تعاليم يسوع وعقيدتهم بعد انشقاقهم. وقام المسيحيون بتأليف ألحان جديدة على الموسيقى اليهودية اسمها "المزامير الخاصة" وصلنا منها "يا نور بهيا" والتي تقال في صلاة الغروب و"المجد لك في مظهر النور."

اعتمد التدوين الموسيقي للمسيحيين الأوائل على الحروف الأبجدية، وهنا نصل إلى برديصان (154 - 222) العالم والفيلسوف والشاعر السرياني وأول من وضع الألحان الأولى للموسيقى السريانية، والذي يعتبر من أهم الفلاسفة والشعراء الذين كتبوا بالسريانية في العصور القديمة.

كان برديصان من المسيحيين الأوائل (الغنوصيين) الذي كان إيمانهم بـ يسوع والمسيحية مختلف كليًا عن المسيحية التي نعرفها اليوم. وبحسب تفسيرهم للتوراة، اعتبروا أن الكون المادي هو انبثاق للرب الأعلى الذي وضع الشعلة الإلهية في صلب الجسد البشري، ويمكن تحرير أو إطلاق هذه الشعلة عن طريق معرفتها، أي "أغنصتها." يعني باختصار، يمكنك أن تصل إلى الله من خلال المعرفة والعلم والبعد عن العالم المادي. لكنه اعتبر مهرطقًا وتم تدمير جميع أعماله، بما في ذلك موسيقاه واهُمل لفترة طويلة.

إعلان

تم استعادة هذا التراث المهم لـ برديصان من قبل مار أفرام السرياني (306 ـ 373) - الراهب الذي وُلد في نصيبين (ماردين-تركيا الآن) والذي يعتبر من رواد كتاب وشعراء المسيحية ويعده بعض المؤرخين واللاهوتيين أعظم من كتب القصيدة والترنيمة الدينية في الشرق المسيحي.

عثر أفرام على موسيقى برديصان، فأخذها وغير كلماتها لتناسب العقيدة المسيحية "الصحيحة" وأضافها ضمن الليتورجية المسيحية أو القداس. ولجذب الشباب إلى الكنيسة، شكَّل فرقة كورال (بنات الرها) لتقدم هذه التراتيل الجديدة في صلوات الصباح والمساء والقداس والأعياد. وطبعاً لاحقاً، ساهم العديد من البطاركة والرهبان السريان في إضافة ألحانهم إليها كذلك من أمثال بالاي القنشريني ويعقوب السروجي ورابولا في القرنين الرابع والخامس.

استعمل المسلمين ألحان البيت غازو، ووضعوا لها مفردات عربية "على قَدِّها" والتي تحولت لنا يسمى بـ القدود الحلبية

لا تزال هذه الألحان محفوظة بالكنيسة السريانية في "البيت/بيث غازو/كازو" أو كنز الألحان بالسريانية، الذي يجمع التسابيح والأناشيد الدينية، وهو يزال مصدر كثير من الألحان الكنسية التي يستخدمها السريان الأرثوذكس في صلواتهم حتى الآن. اختفت ألحان كثيرة من "البيت غازو" بعد مذابح سيفو التي شنتها قوات نظامية تابعة للدولة العثمانية عام 1915 والتي استهدفت مدنيين مسيحيين آشوريين/سريان/كلدان أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. لم يتبقى سوى حوالي ألف لحن طقسي/كَنسي حالياً.

بعد عقدين من الزمان، في عام 634 ميلادي، "فتح" المسلمون ما يعرف الآن بـ بلاد الشام. لكن حتى قبل قدوم العرب على هذه البلاد، كان التواصل التجاري والثقافي موجود بينهم وبين السريان في هذه المنطقة. فكان قيس بن ذريح، الشاعر العربي المعروف بمجنون ليلى، يقصد المناطق المسيحية في العراق وبلاد الشام ويجلب معه أنماطاً موسيقية مختلفة إلى شبه الجزيرة العربية. لكن بعد "الفتح/الغزو الإسلامي" أخذت العلاقات والتبادلات الثقافية شكلًا صلبًا أكثر، فاستعمل المسلمين ألحان البيت غازو، ووضعوا لها مفردات عربية "على قَدِّها" والتي تحولت لنا يسمى بـ القدود الحلبية. مثلاً، إذا استمعنا إلى ترتيلة "حنونو" السريانية، نلاحظ أن لها نفس لحن موشح "البلبل ناغى" الشهير الذي يُعتبر من أشهر القدود الحلبية. 

إعلان

وترتبط معظم الموسيقى الفولكلورية التقليدية من بلاد الشام ارتباطًا مباشرًا بالموسيقى الآرامية السريانية مثل الدلعونا، الزجل، الميجانا، المعنّى والعديد من الأشكال الأخرى تأتي جميعها من هذا التراث، وأسمائها لها جذور اشتقاقية سريانية، كما أن العديد من الألحان الصوفية الإسلامية لها جذور سريانية. ومن الأغاني الشعبية المعروفة التي تعتمد الإيقاع السرياني: هدوني هدوني، عينيها سحروني، فهي منظومة على الوزن السرياني السادس، وأغنية صباح الشهيرة: جيب المجوز يا عبود، ورقص أم عيون السود، منظومة على الوزن السرياني السابع، وغيرها الكثير -مزيد من التفاصيل بالأسفل.

لدى الكنائس السريانية نظام موسيقي قائم على المبادئ القديمة المعروفة اليوم بالمقام، وهناك ثمانية مقامات تستخدم في الكنيسة وتعرف هذه باسم القدمويو. لا نعرف بالضبط متى بدأ السريان استخدام هذه المصطلحات للإشارة إلى كل "مقام" سواء كان قبل العرب أو من بعدهم، لكن هناك بعض النظريات والفرضيات التي ترجح أن أصل كلمات المقامات العربية هو بالفعل آرامي- سرياني على عكس الرواية السائدة أن أصل كلمات المقامات خليط بين الفارسي التركي والعربي. وهذه بعض الأمثلة: 

-مقام الراست: يعُتبر المقام الرئيسي الأول في الموسيقى العربية، ويقال أن أصل الكلمة فارسية وتعني المستقيم. ومنذ أيامي كطالب موسيقي، لا أفهم ما هو "المستقيم" في هذا المقام، فخصائصه أثناء العزف صعودًا مختلفة عن العزف نزولاً. في المقابل، معنى الراست بالآرامية هو أدرج، قرر، ثبت، أصلح. وهو يعبر عن طبيعة هذه المقام بشكل أوضح.

إعلان

-مقام البيات: على عكس الأصول العربية للكلمة "بات" أي أدركه الليل، بات تعني في السريانية عزّى أو سلّى من "بَيا" وهذا المعنى يعطي المقام صفة موسيقية واضحة.

-مقام الحسيني: والكلمة مشتقة من الحسن والجمال في اللغة العربية، ولكنها في السريانية تعني الترفق، وقد يكون ذلك أقرب للمقام.

 -مقام أوج: وهو بالعربية "الأعلى" أما معناه باللغة التركية فهو الرأس الحاد. في الحالتين لا يبدو أن الوصف ينطبق على المقام. أوج في السريانية يعني الزهور، الريحان، الخمرة، والمعنى هنا أكثر انسجامًا مع طبيعة هذا المقام.

-مقام العجم: ويعني الغريب، الغشيم، وقد طغى معناه التركي حتى في اللغة العربية حيث يعني بلاد فارس. أما في اللغة الآرامية القديمة فمعناه رجوع، هبوط، تفريغ، وهو أقرب لطبيعة المقام.

-مقام الصبا: وتعني باللغة العربية النسيم الشمالي، وفي الآرامية تعني فرح، سرور، أراد، شاء، صفاء.

-مقام الحجاز: وهو اسم الجزيرة العربية قديمًا، حيث كانت تعرف بإسم "حج HAJ " وقد أضيف حرف الزاي إليها خلال الحكم العثماني، وقد إنتقل هذا المقام من الآراميين إلى الحجاز، فأعجب به المسلمون بحيث جعلوا الآذان معتمدًا عليه.

دراسة تأثير الآرمية السريانية على الموسيقى العربية لا يزال محصوراً في عالم الأوساط الأكاديمية. أرى أنه من المهم اعادة تقدير مزيج الموروثات والثقافات والتقاليد التي شكلت ما نحن عليه اليوم كعرب. أنا لا أعطي الفضل للسريانية والآرامية للتاريخ العربي بأكمله، فهذا سيكون سطحياً، لأن العديد من الشعوب المختلفة تُنسب أيضًا بشكل كبير إلى الهوية العربية اليوم، مثل الفرس والأتراك والأكراد وغيرهم الكثير، لكن الجانب الآرامي السرياني دائمًا ما يتم المرور عنه "مرور الكرام" عندما نتحدث عن التاريخ العربي ولا يُعطى له قيمته الكاملة. أعتقد أنه من المهم أن نقدر ونستفيد من تعدد الثقافات التي شكلت ماضينا في حياتنا اليومية، في عملنا، علاقاتنا وفننا وطبعاً موسيقانا.

أمثلة إضافية: دعونا نأخذ أمثلة على الموسيقى المشرقية الدينية والشعبية ونقارنها ببعضها لنرى أوجه الشبه. في ترنيمة لـ والدة الاله الام العذراء-( لمريم يولدت ألوهو في السريانية) وأغنية فيروز "دارة تدوري ع الداير" إذا قمنا بحساب المقاطع (syllabe) فسوف ينتهي بنا الأمر إلى نفس الرقم: 7-4-7-4 وهو ما يُعرف "بالموشح البلدي" وهو ايقاع موجود من أيام مار افرام السرياني.

وكذلك، إذا أخذنا ترنيمة "إنّي حبّة القمح" والأغنية الشعبية "جيب المجوز يا عبود" وحسبنا المقاطع، سوف ينتهي بنا الأمر إلى نفس الرقم والوزن الذي يعرف اليوم بالزجل الشامي أو القِرَّادي (مصدرها "القَردَ" أي "لجلجة اللِّسان" حيث يتلجلج اللِّسان عند غنائها لسرعة وزنها). ويرتكز هذا الوزن الموسيقي على شطرين ومجموع عدد حركات البيت بكامله هي ١٤، 7 في الشطر الأول و7 في الشطر الثاني. وهذا النمط نفسه يسمى "الوزن الإفرامي" الذي يقوم أيضًا على شطرين، وكل شطر يتألف من 7 تهجأت صوتية، 7،7 تمامًا كـ القِرَّادي.