مراجعة

المسيح: أزمات العالم الحديث في مونودراما دينية-سياسية

المسلسل أشبه بقصة من سلسلة قصص الوعظ الديني تُغلّف الرجوع إلى الدين كملاذ ومهرب من واقع غير محتمل سياسيًا واقتصاديًا
messiah-netflix

أطلقت شبكة إنتاج "نتفليكس" هذا الشهر مسلسل: "Messiah" والذي أثار الكثير من الجدل قبل حتى عرضه. يتحدث المسلسل عن حياة شاب أطلق عليه الجمهور لقب "المسيح" لهيئته وشعره الطويل ومعجزاته المزعومة من إعادة الحياة لطفل قتل برصاص الجيش الإسرائيلي، إلى إيقاف إعصار مُدمّر في تكساس، وانتهاءً بقيامه بالمشي على الماء.

يرجع بدء إنتاج المسلسل إلى نهاية عام 2017 لكاتبه ميشيل باتروني بالتعاون مع مارك برنت وروما داوني، والمعروف عنهم التعاون في إنتاج أعمال دينية مسيحية. وقد تم التصوير بعدة مدن منها المكسيك، واشنطن، والأردن. قبل انطلاق المسلسل بعام واحد، تظاهر عدة نشطاء في الأردن ضد "نتفليكس" لقيامها بتصوير مشاهد في الأردن على أنها تل أبيب، حيث تم وضع لافتات لأسماء الشوارع بالعبريّة، مما اُعتبر بأنه تطبيعً مع إسرائيل. ومع بدء بث المسلسل في العالم العربي، قام نشطاء بتوقيع عريضة لمنع عرضه واصفينه "ببروباغندا شريرة ضد الإسلام" في حين طلبت الهيئة الملكية الأردنية للأفلام (التي تم تصوير لقطات المسلسل في الأردن بموافقتها) بوقف بث المسلسل.

إعلان

فريق المسلسل يضم مجموعة من الممثلين العرب من أصول أجنبية على رأسهم "مهدي دهبي" دور المسيح، وهو ممثل بلجيكي من أصل تونسي، مع الممثل التونسي فارس الأندلسي في دور سامر، و سيد العالمي وهو ممثل شاب من أصول عربية في دور جبريل- لاجئان سوريّان. تدور حبكة المسلسل بين مجموعة شخصيات رئيسية منها الممثلة الأمريكية "ميشيل موناغن" في دور عميلة الاستخبارات الأمريكية إيفا غيلر التي تتبع شخصية المسيح مُتشككة بأنه "إرهابي." الشك الذي يُشاركها فيه الممثل الإسرائيلي الفرنسي "تومر سيسلي" في دور عميل وكالة الاستخبارات الإسرائيلية- أفيرام دهان. فيما يؤدي الممثل الأمريكي "جون أورتز" دور القِس فيلكس.

فلسفة الإيمان والسياسة
المسلسل قصّة مبنيّة على شخصية "المسيح الدجال" في الإسلام، والذي وُوصف بكونه كاذبًا ويدعو الناس للإيمان به مُبرهنًا على نبّوته بالمعجزات، وشخصية "عدو المسيح" (antichrist) في المسيحية والذي وُوصف أيضًا بالكذب والدجل. لذلك، اعتبرته الغالبية مسلسلًا يستخدم الدين استخدامًا مُسيئًا في حبكته الدرامية. يعتمد المسلسل على الديالوج أو المحادثات بين شخصية المسيح وشخصيات أخرى، يتحدث من خلالها عن فلسفة التوحيد والإنسانية باستخدام اللغة التي تناسب الموقف، فهو يتحدث بالعربية (وإن كانت ركيكة) والإنجليزية والعبرية والفارسية. من غير الواضح إلى أي عقيدة إبراهيمية ينتمي هذا "المسيح." فالمسلمين يتبعونه، اليهود يتبعونه، المسيحيون يتبعونه، والملحدون يتبعونه. هو أشبه بقصة من سلسلة قصص الوعظ الديني التي يقدمها مُنتجيه، تُغلّف الرجوع إلى الدين كملاذ ومهرب من واقع غير محتمل سياسيًا واقتصاديًا.

فرار اللاجئين الفلسطينيين من سوريا ومنعهم من دخول بلادهم المحتلة، قد يتشابه مع محاولة دخولك في أمريكا دون أوراق رسمية أو حتى منعك من الدخول مع أنك تحمل كل الأوراق المطلوبة. جميعها حدود تقيد حركة الإنسان لدوافع سياسية وأخرى عنصرية، ويدعو "المسيح" إلى الوقوف ضدها لأن الأرض ملك للجميع، دعوة سبقه إليها العديد من النشطاء والأكاديميون/ات. لكن ما يجعل مِن "المسيح" ظاهرة، ليس خطابته وليس ما يقوله. ما يجعله كذلك هو أنه يدعو إلى –الله- بلا تصنيف ولا تحديد مَن هو هذا –الله-، وأنه يُثبت مرارًا أنه موصول به ويُنفذ ما يُريده بممارسة حيلة أو أمر خارق.

إعلان

من تبعوا "المسيح" في المسلسل، ليسوا مسلوبي الإرادة تمامًا، هم غير راضين عن حيواتهم/ن بشكل أو بآخر، ويحتاجون إلى "مُخلّص" أو مُنقذ، لشعورهم أن أي شيء قد يفعلونه لن يُغير واقع

قد يكون هناك تفسيرًا لذلك، وهو أن البشر يميلون إلى ما يجدونه خارق، أو إلهي. يتّوقون إلى تدخل إلهي يوقِف الحروب، إلى شيء يمكنهم ادعاء العجز أمامه، فلا يُقاومون شيء بعد الآن ويستسلمون له. الاستسلام هو جوهر الإيمان، هو ركيزة العقائد الدينية. مَن تبعوا "المسيح" في المسلسل، ليسوا مسلوبي الإرادة تمامًا، هم غير راضين عن حيواتهم/ن بشكل أو بآخر، ويحتاجون إلى "مُخلّص" أو مُنقذ، لشعورهم أن أي شيء قد يفعلونه لن يُغير واقع.

هذا الشعور قد يكون نتيجة حتمية لسياسات العالم الحديث التي تعنى بالحدود وبالحروب على حساب الإنسان. ظهر ذلك في مشاهد الحرب في سوريا، الاعتداءات على الفلسطينيين وحبس اللاجئين مراكز الاحتجاز الأمريكية. إتباع شخص يبدو وكأنه مُنقذ مُنتظَر، هو هروب من واقع غير قابل للتغيير على المدى القصير، وهو ترك كل صراع اقتصادي وسياسي وراءنا والسعي وراء ما يُعتقد أنه أفضل. لقد أرجعنا المسلسل لنقطة التبشير بالدين كخلاص من مشكلات الدنيا، وكقبول لأوضاع قاهرة. وهنا، قبل نبتغي رضا الله، هل نحن راضون وراضيات عنه؟ والأهم من ذلك، كيف يُمكننا تغيير واقع يقهرنا، بأدوات لا يملكها شخص واحد، ولا يستخدمها شخص واحد. بمعنى آخر، كيف يُمكننا جميعًا أن نكون المسيح.

1579435652727-messiah_106_unit_04899r

يؤدي دور المسيح، الممثل البلجيكي من أصل تونسي مهدي دهبي. جميع الصور من Netflix

صراع أجيال ولكلٌ منّا أتباعه
يُمكننا فهم صراع الأجيال في المسلسل بفلسفة كل شخصية وفئتها العمرية. بطل المسلسل شاب صغير، لديه فلسفة ضد الحرب، وعن الخلاص ونهاية التاريخ، يُصدقه الأصغر ويعتبره الأكبر سنًا ملعون، أو مسيح دجال. عندما يُقرر مجموعة من المُقيمين على حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة التوجّه للأردن، يبقى جبريل الشاب السوري الذي تبع المسيح من أول لحظة، ويرحل سامر الذي شكك فيه.

إعلان

الفرق العمري بين جبريل وسامر ليس كبيرًا، لكن علاقتهما قوية. يمشي كل منهما في اتجاه، فيخترق جبريل الحدود عبورًا للأراضي المحتلة ويحتضنه إمام مسجد كهل يحاول تجنيده، ويدخل سامر الأردن بطريقة غير رسمية ويحتضنه رجل دين أربعيني يؤثر عليه بالفكر الجهادي. في ولاية تكساس، يكون الصراع بين قِس الكنيسة وابنته ريبيكا التي تريد الهروب من المنزل مهما كلفها الأمر. ويكون صراع رئيس الولايات المتحدة مع "المسيح" كشاب صغير وغير ذا خبرة فيما يخص السياسة والحرب. عندما نشاهد المسلسل، يُمكن أن نرى الأحداث كصراع بين أجيال ترى نفسها أكبر وأعقل وأكثر فهمًا، وأخرى مليئة بالعنفوان راغبة أن يُسمع صوتها وأن يُحترم ويؤخذ به.

يستعرض المسلسل أيضًا فكرة "التبعية"، فتُذكر أكثر من مرة كل حلقة. لداعش أتباع، للولد الصغير الذي شفاه المسيح أتباع، لرئيس الولايات المتحدة أتباع، ولريبيكا على "إنستغرام" أتباع

يستعرض المسلسل أيضًا فكرة "التبعية"، فتُذكر أكثر من مرة كل حلقة. لداعش أتباع، وللأسد أتباع؛ لفلسطين أتباع، وللجيش الإسرائيلي المُحتل أتباع؛ للولد الصغير الذي شفاه المسيح أتباع، وللمسيح نفسه أتباع؛ لكاهن الكنيسة أتباع، ولإمام المسجد أتباع؛ لرئيس الولايات المتحدة أتباع، ولريبيكا على "إنستغرام" أتباع.

زوايا نقاشية وكليشيهيات
في هذا المسلسل، تُدان الولايات المتحدة الأمريكية على الشاشة لارتكابها جرائم ضد الإنسانية، وتُذكر بالاسم. لكنه مشهد واحد ضمن عشر حلقات من المسلسل تُتخيل فيها الولايات المتحدة مسرحًا أساسيًا للأحداث. فالشاب الذي يجذب نظر الكثيرين/ات، يتحول إلى أيقونة عالمية في أمريكا. الشاب الذي ولد في إيران وظهر أولًا في سوريا ثم فلسطين ثم الأردن، يذهب لأمريكا للتبشير برسالته. ولا تحتل فيه الشخصيات العربية مساحة كبيرة على الشاشة، ولا يتحدث المسيح نفسه بالعربية سوى مرات قليلة. مازالت نتفليكس تعتبر أمريكا مهدًا للسياسات العالمية، وأنها بلد الحريات، رغم ما تمت إدانتها به. كأن الرسالة: فلو استمر "المسيح" في وجوده داخل إيران أو المنطقة العربية، لانتهى أمره مُفجِرًا مثل سامر، أو مُفجّرًا مثل جبريل.

إعلان
1579435834993-messiah-netflix-review

ميشيل موناغن في دور عميلة الاستخبارات الأمريكية إيفا غيلر.

هناك كليشية في إظهار الأديان الإبراهيمية الثلاثة فقط، وتجاهل للعقائد التي تدعو إلى التوحيد دون أن تتبع المذهب الإبراهيمي، ما يعكس عقيدة كاتبي المسلسل أنفسهم. في مشهد التفجير أيضًا كليشية عن الفكر الجهادي. فعميل الاستخبارات الإسرائيلي يرقُد بجانب اللاجئ السوري بلا حركة. هناك نقاش آخر عن الإجهاض، نستطيع من خلاله قراءة أهمية الإبقاء على عيادات الإجهاض مفتوحة، والتي حاليًا تقود حربًا ضارية ضد السياسات الأمريكية. هناك أيضًا إشارة لعلاقة حب مثلية بين جبريل وسامر، لكنها مفتوحة للتفسير بأنها صداقة قوية فقط، فـ"نتفليكس" لا تستفز جمهورها العربي الذي مازال يعتبر المثلية الجنسية جريمة تستوجب العقاب؛ إما لأنها شبكة إنتاج هادفة للربح، أو لقناعتها أن المنطقة العربية "غير مؤهلة" للحديث عن الهويات والميول الجنسية، رغم ازدهار الحراك الكويري في المنطقة.

تقول نادين صايغ، باحثة دكتوراه أردنية وكاتبة مهتمة بسياسات الشرق الأوسط، في مقال لها بأن المسلسل قصة استشراقية "تُتخيل فيها المنطقة العربية بنمطية مُكررة، ويُدمج فيها مشاهد العنف ضد الفلسطينيين مُعتادة في نشرات أخبار بلا سياق، كأنها خلفية للأحداث، وتعتبره تطبيعًا مع هذا العنف." وتُدين صايغ الرؤية الغربية للمنطقة كمهد للنزاعات المُسلحة و"الإرهاب" الذي تتعاون أمريكا مع إسرائيل لإيقافه، في تعاون بيّن بين سياسة البلدين. فيما يتم أنسنة عملاء وكالات الاستخبارات، بما في ذلك قتلة الأطفال وقائدي التعذيب مثل أفيرام.

يتم أنسنة عملاء وكالات الاستخبارات، بما في ذلك قتلة الأطفال وقائدي التعذيب مثل أفيرام، حيث نرى جانبًا "مؤنسن" لاسرائيلي مُنتهك، يحاول جرنا للتعاطف معه حتى بعد قتله لطفل فلسطيني كانتقام من والده

هذا ليس غريباً في الأفلام والمسلسلات الغربية، فالعربي (أو العدو) بالعادة يتم اختزاله ببعد واحد، فيما يتم إعطاء الشخصيات الأخرى أبعاداً أوسع. هذا يبدو واضحاً في في علاقة رجل الاستخبارات الإسرائيلي أفيرام مع ابنته وزوجته وحتى رب عمله، حيث نرى جانبًا "مؤنسن" لاسرائيلي مُنتهك، يحاول جرنا للتعاطف معه حتى بعد قتله لطفل فلسطيني كانتقام من والده.

أما إيفا، فتفقد آخر فرصة لها في إنجاب طفل/ة من زوجها الراحل، وتطمئن باستمرار على شخص ذو صلة قرابة مع مُشرفها السابق. لكنها هي هي إيفا التي تراقب المسيح في غرفة نومه، وتتبعه عبر البلدان بخاصية التعرف على الوجوه، دون اعتبار لسيادة البلدان التي تتبعه خلالها. إيفا التي نراها مع والدها، عميل استخبارات سابق أيضًا، تتعامل برفق، هي نفسها التي تعتقد أن شخص ما "إرهابيًا" وعلى صلة سياسية بروسيا وإيران لأنه دخل الولايات المتحدة الأمريكية دون تأشيرة دخول. تلك المشاهد ليست مشاهد إنسانية، إنما هي مشاهد مؤنسنة خصيصًا لنرى جوانب أخرى من أشخاص مُنتهكين، يبدو فيها الانتهاك كهامش لا تُبنى عليه الانطباعات.