expat guilt 2-01
تعليقات القراء

لماذا يشعر المغتربون بالذنب وتأنيب الضمير طوال الوقت؟

"ماذا لو؟" سؤال المغترب الأزلي

"عندما أشاهد لبنان من مسافة بعيدة، لم أعد متأكدة من شعوري تجاهه بعد الآن، أشعر بالذنب لكنني ممتنة لأنني تركته." ما تقوله رزان حنا، لبنانية غادرت وطنها حين كانت تبلغ 24 عامًا في مقال لها بعنوان "مغتربو لبنان وعقدة الذنب" قد يختصر شعور كثير من المغتربين بعد حادثة تفجير مرفأ بيروت.

الشعور بالذنب أمر صعب، إنه كمادة لاصقة لا تستطيع نزعها مهما حاولت، ومهما تجاهلتها سترافقك في الكثير من مراحل حياتك كمهاجر أو مغترب. قد تحاول التعايش مع هذا الشعور بالذنب، ولكنه في أحيان كثيرة قد يشل حركتك ويمنعك من الاستمتاع بها. إنه صوت ضميرك الداخلي الذي يستيقظ فيك في كل مشكلة تمر بها بلدك أو أهلك، ويشعرك بالذنب لكونك اخترت أن تعيش في مكان آمن أو وضع مريح، بينما أهلك يعيشون الخوف والقلق.

إعلان

طبعاً، الغربة ليست خيار سهل. هناك الكثير من العوامل التي تدفع الناس لترك بلدانهم بما في ذلك الاضطراب الاقتصادي، والضغوط السكانية، والاضطهاد والعنصرية، أو الحرمان من الحقوق السياسية، وعوامل الجذب-وهي العوامل التي تجذب المهاجرين في بلد آخر غير بلدهم الأم، بما في ذلك الأجور الأعلى، وفرص العمل، والحرية السياسية أو الدينية أو الجنسية.

كل من عاش بالغربة قد يعلم هذا الشعور الذي يسمى بـ expat guilt أو ذنب المغتربين وهو شعور ستعيشه بطريقة أو بأخرى. قد يكون الشعور بالذنب بسبب الابتعاد عن الآباء المتقدمين في السن، أو تربية أطفالك في بلد آخر، أو فقدان العلاقات مع الأصدقاء، أو فقدان الصلة بقضايا بلدك الأم.

كل مغترب يمر بالعادة بمراحل متشابهة. بعد أن يجتاز كل من يفكر بالاغتراب المرحلة الأولى، وهي دراسة قراره جيدًا والتمعن بالأسباب التي تدفعه لفعل ذلك والتنبؤ بالتغيرات الجذرية التي ستطرأ على حياته، يحزم حقائبه ويودع أهله وأصدقائه وذكرياته بحلوها ومرها، ويصل إلى البلد الآخر. قد يظن البعض أن مرحلة العذاب قد انتهت عند هذا الحد. أخذ قرار السفر أو الهجرة، هو الأصعب أليس كذلك؟

القرار صعب، ولكن في اللحظة التي يترك فيها المغترب بلده، سيكتشف أنه سيعيش مع تأنيب ضمير وشعور متواصل بالذنب، وسيسأل نفسه عشرات المرات، هذه الأسئلة: هل كان يتوجب علي فعلًا الرحيل، ماذا لو بقيت هناك؟ ماذا لو لم أغادر؟ ماذا لو أصاب أحدهم سوءًا بينما أنا بعيد؟.. وقد يتراكم شعور المغترب بالذنب لدرجة قد لا يستطيع حتى التحدث إلى أقرب الأشخاص إليه، وقد يظل بعيدًا لفترة ما عن وسائل التواصل الاجتماعي، لأنه يشعر بأنه غير قادر على مشاركة تفاصيل حياته الجديدة مع أي شخص. هو شعور بالحنين إلى الوطن دائماً يشاركه الكثير من الذنب، وقد يأتي الشعور بالذنب على شكل نوبات متعددة أي أنه لا يميل إلى الثبات على حالة معينة، بل قد يفاجئك في كثير من الأحيان لدرجة قد لا تتمكن من النجاة منه، وقد يدفع البعض بالنهاية للعودة إلى بلدانهم الأصلية، على الرغم من أن وضعهم في البلد الجديد قد يكون أفضل.

إعلان

الأشخاص الذين يمرون في حالة تأنيب الضمير يذهبون للأطباء ويشكون من آلام موضعية لا يوجد أي سبب صحي لها. ولكن في الحقيقة، حالتهم النفسية والشعور الدائم بالذنب يشعرهم بالمرض والألم

هذا الشعور بالذنب حقيقي ويعيشه ملايين الأشخاص حول العالم، ويعاني منه المغتربين والمهاجرين. يقول الدكتور نظير حمد، وهو طبيب نفسي مقيم في باريس، أن تأنيب الضمير الذي يشعر به المهاجر بعد استقراره يكون لعدة أسباب، غالباً ما تكون متصلة بعقدة ذنب تجاه من تركهم خلفه ويضيف: "هذا الشعور قد يصبح هاجساً لدى اللاجئ أو المهاجر، فيبدأ بإدانة نفسه لأنه لم يبق مع أحبائه وتركهم للخطر. كما يشعر بالذنب تجاه أوطانهم متسائلين عما كانوا سيقدمونه في حال بقائهم فيها. هذه تساؤلات عاطفية ولكنها خالية من الموضوعية. معظم الحالات التي أقابلها ممن يمرون في حالة تأنيب الضمير يذهبون للأطباء ويشكون من آلام موضعية لا يوجد أي سبب صحي لها. ولكن في الحقيقة، حالتهم النفسية والشعور الدائم بالذنب يشعرهم بالمرض والألم."

في الواقع، تشير الدراسات إلى أن المغتربين أكثر عرضة للمعاناة من مشاكل الصحة النفسية، من أولئك الذين يبقون في بلدهم الأصلي، فهم معرضون بشكل خاص لخطر الإصابة بالقلق والاكتئاب بعد الانتقال إلى بلد جديد. هذا قد يتجلى بشعور الخوف والهلع والفزع الذي يتسلل لقلوبهم إن رن هاتفهم في ساعة متأخرة من الليل، في هذه اللحظة شيء واحد فقط  يدور في ذهنهم "ماذا جرى لعائلتي؟" هذا الإحساس يتفاقم وقد يصل إلى ذروته في حال أصيب أحد الأصدقاء أو أفراد العائلة بسوء. المغترب البعيد دائم المحاولة في إعداد نفسه نفسيًا لجميع السيناريوهات المحتملة، ولكن على الرغم من ذلك، فإن كونه بعيداً يجعل وقع أي خبر يتعلق بالعائلة أو البلد أقسى وأصعب، وسيشعر أنه "يجب" أن يكون هناك، وأنه لو كان هناك فقد يتمكن من فعل شيء، بالإضافة إلى شعوره بأن قد خذل من يحب لأنه لم يتمكن من التواجد معهم في اللحظات الصعبة.

إعلان

صحيح أن لدينا العديد من وسائل الإتصال التي يمكننا استخدامها للتواصل مع من نحب بأي وقت، لكن بالنسبة للمغترب فإن المكالمات ومحادثات الفيديو قد تكون فعلًا رائعة، لكنها لا تحل محل احتضان صديق أو لمة العيلة. الاغتراب يعني فقدان الكثير من المناسبات في حياة أحبائه، كحفلات الزفاف والولادات وأعياد الميلاد، بل حتى تفويت الأشياء السيئة يصبح سيئاً بشكل مضاعف. فعلى سبيل المثال حينما انتشر فيروس كورونا هذا العام، كان لذلك وقع كبير على حياة كل المغتربين فهم قلقون حيال عائلاتهم أن يصابوا به وهم بعيدون لا يستطيعون المساعدة، وقلقون حيال أنفسهم أن يصابوا به وهم وحيدون لا يوجد من يهتم بهم، وقلقون أيضًا حيال شعور عائلتهم بالقلق تجاههم.

في المقابل، يشعر المغتربون بأنهم لا يستطيعون قول الكثير لأصدقائهم وعائلاتهم في الوطن سواء عن وضعهم النفسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، حتى إن كانت حياته هو أيضًا كمغترب صعبة للغاية، كي لا يشعرهم بالقلق، أو كي لا يبدو ضعيفاً أو فاشلاً بنظرهم، وهذا يزيد من العبء النفسي على المغترب.

يشعر المغتربون بأنهم لا يستطيعون قول الكثير لأصدقائهم وعائلاتهم في الوطن كي لا يشعرهم بالقلق، أو كي لا يبدو ضعيفاً أو فاشلاً بنظرهم

بحسب الخبراء، يمر جميع المغتربين في خمسة مراحل خلال حياتهم الغربة. في المرحلة الأولى، ستشعر بالراحة والحماسة للتعرف على هذا البلد الجديد، وستقنع نفسك بأن هذا هو الخيار الأفضل، ستتحدث مع عائلتك وأصدقائك طوال الوقت وتخبرهم عن الأشخاص الذين تعرفت عليهم أو الأماكن الجديدة التي اكتشفتها. بعد فترة ستدخل المرحلة الثانية، وستشعر بالضغط لإنجاز كل شيء مثل الحصول على رخصة قيادة، والحاجة إلى معرفة مكان إصلاح الأشياء وكيفية التعامل مع الوكالات الحكومية. هنا ستبدأ بالشعور بالغربة، فلسنوات كنت معتادًا على كيفية عمل الأشياء وأنت الآن في مكان مختلف تمامًا، وعليك تعلم كل شيء من البداية. قد تشعر بالاستمتاع وأنت تجرب جميع الأطعمة المحلية، ولكنك ستفتقد العديد من الأكلات التي تطبخها لك والدتك أو والدك.

في المرحلة الثالثة ستشعر أنك مررت عن كل شيء وتأقلمت، هناك دائمًا إنجازات صغيرة تأتي مع حياة المغتربين. قد تكون هذه هي المرة الأولى التي تجري فيها محادثة بلغة أخرى، أو تشعر بقبول كامل في منطقتك. لقد مررت عن الصعوبات وتعلمت الحياة في مكان مختلف، أنت تعرف الآن أين تتسوق وأين تلتقي أصدقائك وما هي الأماكن التي تحبها. أصبحت الحياة أسهل بالنسبة لك، وأصبح لديك روتينك اليومي. بعد مرور الوقت، ستدخل في المرحلة الرابعة وتبدأ في احتضان العديد من العادات المحلية وتقضي وقتًا أقل في التفكير في العودة إلى بلدك السابق، قد تعتاد على أشياء مثل العيش بأقل المتاح، أو تغيير إدراكك للوقت. لقد مررت حقًا بجميع مراحل حياة المغتربين وأصبح لديك الكثير من القواسم المشتركة مع جيرانك وأصدقائك في هذا البلد الجديد.

في المرحلة الخامسة ستكشف أنك تغيرت، وستجد نفسك "غريبًا" عن بلدك الأصلي، فأنت لم تشارك في المظاهرات التي شهدتها بلدك مثلاً، لم تعد تعرف سعر كيلو البندورة هناك، أو كيف تدفع فاتورة الكهرباء، أو تلوم نفسك لأن أولادك لا يتحدثون لغتهم الأم بطلاقة. في هذه المرحلة، قد تدخل في نوبة متواصلة من تأنيب الضمير والإحساس بالذنب، وقد تراجع خياراتك، وقد تصل إلى أسوأ اكتشاف، وهو أنك أصبحت غريبًا في وطنك إضافة إلى غربتك في الغربة.

ولكن عقدة الذنب هذه لا يجب أن توقف حياتك. تذكر أن الغربة لها مساوئها وفوائدها كما كل شيء آخر، الأمر ليس أبيض أو أسود، نحن نعيش في المنطقة الرمادية، معظم الوقت. للمرور عن هذا الشعور المستمر بالذنب عليك أن تفكر جيدًا بالبدائل التي كانت لديك قبل قرار السفر والهجرة. عليك أن توازن بين الخسارات والربح، هل لديك فرص جيدة لبناء الحياة التي تريدها إذا بقيت في وطنك؟ صحيح، أنه لن يفوتك عيد ميلاد أحدهم وسيكبر أطفالك في حضن أسرتك وستهتم بوالديك، لكن بالمقابل قد توفر الهجرة فرصة لحياة أفضل لك ولهم. الحنين للبلد لن يفارقك، "الغربة مرة، لو حلوها بالسكر ما تحلا بالمرة" كما تقول الأغنية، ولكن حياة المغتربين لا تزال حياة، لا يزال لديك عمل والتزامات، فلا تدع مشاعر الذنب تشل حركتك وتبقيك في فقاعة المغتربين.

ثقف نفسك حول المكان الذي تعيش فيه، وتعرف على تاريخه وثقافته، حتى تقلل من شعورك بالغربة تجاهه. حاول التأقلم، اخلق عالمًا يشبهك، وعش حياة كاملة غير منقوصة. القليل من الشعور بالذنب أمر جيد، ولكن ليس إذا كان يسيطر على قراراتك أو يتحكم بحوارك الداخلي. وتذكر أيضًا أنك قد اتخذت هذا القرار، لأنك أردت بداية جديدة، وهذا حقك. تقبل الذنب وكن صادقًا بشأنه، وتحدث مع أحبائك على الدوام، وحاول أن تبقي نفسك مطلعًا على ما يجري في بلدك الأم، ولا تتوقف عن زيارته، ليس عليك أن تقارن أو تقرر من تحب أكثر، أو أي البلدين قَدم لك أكثر. المقارنة بين بلد وآخر دائمًا ظالمة.