سكان مقابر القاهرة.. حياة في كنف الموتى

جميع الصور من تصوير علي المالكي

FYI.

This story is over 5 years old.

ترفيه

سكان مقابر القاهرة.. حياة في كنف الموتى

تحتل أسر بأكملها غرفًا صغيرة كانت في الأصل استراحات لزوار المقابر قبل أن تتحول إلى مساكن احتضنت أجيالًا متعاقبة

تغلف الحياة كل شبر في قاهرة المعز، حتى المقابر، حيث اضطر كثيرون إلى مجاورة الأموات، ورأى آخرون أن الحي أبقى وأولى من الميت بكل شئ، حتى لو كان القبر نفسه. تاريخيًا أقام المصريون مقابرهم على أطراف القاهرة في الصحراء الجرداء، لكن أطراف الأمس باتت في عمق أحشاء المدينة التي لا تسأم الزحام والحياة. لم يعد سكان المقابر ظاهرة تفاجئ أبناء القاهرة، فالجميع يتعايش مع هذا الواقع سواء أصحاب المقابر أو سكانها من الأحياء. أصحاب المقابر يدركون أنهم في حاجة لمن يحمي المقابر من النهب، وسكان المقابر يجبرهم الفقر وضيق الحال إلى مجاورة الموتى طالما عجزت الدولة عن توفير مكان لهم وسط الأحياء. وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية بأعداد سكان المقابر في مصر؛ إلا أو تقديرات مصادر مختلفة تشير إلى تخطيهم المليون شخص يعيشون في كنف الموتى.

إعلان

رجلان مسنان يجلسان بين شاهدي قبرين في ساحة مسكنهما بإحدي مقابر القاهرة القديمة.

يبدو أن طريقة بناء المقابر في مصر قد سمحت بوجود هذه الظاهرة وانتشارها. والمقابر في مصر تتكون عادة من حوش (فناء) كبير، تقام عليه أسوار وبوابة حديدية، وفي الغالب لافتة رخامية يُكتب عليها اسم العائلة. في الداخل يجري دفن الموتى بطريقتين؛ الأولى ما يصطلح على تسميته بـ "الطريقة الشرعية"، أي يدفن الميت مباشرة في الرمال ويقام فوقه "شاهد قبر" يحمل الاسم، أما الطريقة الثانية فهي طريقة "الجبانات"، التي تكون عادة مكونة من غرفتين كبيرتين أسفل الأرض لدفن الموتى، وهو ما يشبه إلى حد ما المقابر الفرعونية.

في جميع الأحوال فإن أصحاب الأحواش حريصين دائما على بناء غرفتين على الأقل فوق سطح الأرض وذلك لاستقبال أسرة المتوفي، وتلقي العزاء، بجانب حمام صغير. مع مرور الوقت وزيادة الأزمات الاقتصادية تحولت هذه الغرف إلى فرصة لا تعوض للسكن، حيث تسكنها أسر كاملة تتكون من الجد والجدة والأبناء والأحفاد. وتجمع العديد من المقابر أكثر من عائلة في غرف متجاورة وحمام وحيد يتشارك الجميع فيه بنظام المناوبات في أحيان كثيرة.

قبر مفتوح تمهيدًا لاستقبال أحد الموتى وفي الخلفية حمام خشبي خاص بالأسر التي تسكن الغرف الملحقة بالمقبرة.

ناريمان السمرا – كما يسميها سكان مقابر صلاح سالم – امرأة تبلغ 66 سنة، عاشت معظمها في المقابر. تجلس ناريمان على أريكتها الوحيدة داخل غرفتها المطلة على شواهد القبور. تقول: "المنظر دا بشوفه كل يوم من يجي 60 سنة"، ثم تبتسم وتقول لي: "اقعد هنا متخافش.. اللي مات مات".
كل شيء في غرفة ناريمان شديد البساطة، ولولا ملابسها المتناثرة في المكان لاعتقدت أننا نجلس في إحدى غرف دفن الموتى. سرير صغير، ثلاثة كراسي، ومروحة، وصورة لناريمان على الحائط تذكرها بأيام الشباب. سألت ناريمان: لماذا لم تعلقي صورة زوجك؟، فقالت: "مجاليش منه غير الهم.. طلقني من 9 سنين."

إعلان

أسرة تمارس أنشطة حياتها اليومية في ساحة المقبرة التي يسكنونها (صورة الأب والأم والابن الصغير).

تدرك ناريمان التي ولدت وسط المقابر، وعاشت وتزوجت وأنجبت بين شواهد القبور، أن الحكومة التي تركتها هنا لنحو 60 عامًا لن ترحب بنقلها إلى مكان آخر أكثر آدمية، في القريب العاجل. تقول: "أنا اتولدت هنا واتجوزت هنا.. وعامله حسابي ادفن هنا.. 66 سنة ومحدش اداني شقة.. خلاص رجلي والقبر". تعيش ناريمان في غرفتين ملحقتين بإحدى المقابر يكسوهما اللون الأصفر كحال شواهد القبور، وتعيش معها ابنتها وزوجها و4 أحفاد. لا دخل ثابت، ولا تأمين صحي، ولا إعانة حكومية تساعدهم على الاستمرار في ظل ارتفاع الأسعار الذي تشهده البلاد. لدى ناريمان اثنين من الأبناء أيضًا لكنها لا تستطيع أن تضغط عليهما وتطلب المساعدة: "كل واحد فيهم عنده بيت وعيال وشايل الهم.. مقدرش أقوله اديني من قوت عيالك".
تنتظر ناريمان زوار المقابر لعلهم يرأفون بحالها، فتنال منهم ما يعينها على مصاعب الحياة، لكن الزيارات قليلة، تقول ناريمان: "الناس بقت تدفن الميت ويمشوا ولا يسألوا فيه".

أرجيلة وأكواب شاي وفاكهة، لوازم جلسة سمر بين الأموات لسكان إحدي المقابر بالقاهرة.

رغم العشرة الطويلة بين ناريمن والمقابر إلا أنها مازالت تخشى حلول الليل. تقول السيدة الستينية: "احنا بني آدمين برضه وبنخاف.. ساعات تيجي عليا أيام معرفش أنام الليل خصوصا لما ميت جديد يوصل". تحكي "ناريمان" أنها تخشى المرور بين المقابر لمدة أسبوع كامل بعد دفن أي ميت.
تتوقف عربة كارو يجرها حمار لبيع الخضراوات والفاكهة، أمام الحوش (مساحة تحيط بالمقبرة) الذي تسكنه ناريمان، يطل البائع برأسه إلى الداخل، وينادي: "يا ناريمان اديني فلوس خضار الأسبوع اللى فات"، ترد: "الجمعة الجاية يا عم بلاش فضايح". تنضم فاطمة، ابنة ناريمان، إلى الحديث وتحكي كيف انتهى بها الحال للعيش وسط المقابر حتى بعد زواجها. تقول: "كنت ساكنة في منشية ناصر (منطقة عشوائية) لكن سعر الإيجار ارتفع، فرجعت أعيش مع أمي ومعايا العيال وأبوهم بقالنا 3 سنين".

إعلان

أطفال يلهون بساحة مسكنهم وسط شواهد القبور.

تشتكي فاطمة من صعوبة الحياة وسط المقابر، وعلى حد تعبيرها، يعيش أطفالها في حالة رعب، فهم يخشون الخروج من غرفهم في الليل. وتقول: "العيال بيصحوني في عز الليل عشان اوديهم الحمام بيخافوا يمشوا وسط المقابر". في النهار ينتهي رعب الصغار من المقابر، ويتحول الفناء إلى مساحة للحياة، حيث تغسل السيدات الملابس، وأحبال الغسيل تنتشر في المكان، بينما يلهو الأطفال بين شواهد القبور، التي باتت مكانًا مفضلاً للتخفي ومفاجأة أقرانهم. فناء القبر أيضًا مساحة للأنشطة الاقتصادية للأسرة، في محاولة لزيادة الدخل، حيث تربي ابنة ناريمان بعض طيور البط والدجاج.

طيور البط التي تربيها إحدى الأسر ساكنة المقابر تتجول بين المدافن القديمة. تصوير محمد علي الدين.

رغم أن شارع صلاح سالم فقط يفصل المقابر عن معسكر الدراسة للأمن المركزي، وهو أحد أكبر معسكرات الشرطة في القاهرة، فإن سكان المقابر لا يشعرون بأي أمان. تقول فاطمة: "احنا مستباحين لأي حرامي.. ولو كلمنا الشرطة ما حدش بيعبرنا"، وتضيف: "احنا مش بنشوف الشرطة إلا لما يكون فيه تشريفة لوزير في الشارع الرئيسي، وساعتها يقولوا لنا محدش يطلع على الشارع.. ادخلوا جوا الترب". يربط شارع صلاح سالم منطقة شرق القاهرة بمناطق وسط وجنوب القاهرة، لذا يمر الجميع من هنا يوميًا، يقرأ البعض الفاتحة على أحبابه الذين رحلوا، ولا يكترث الجميع بمن مازالوا أحياء في أحواش تلك المقابر.

قطع أثاث منزلي ووسائل بين شاهدي قبر داخل إحدي مقابر القاهرة.

تسعى فاطمة وراء أي فرصة لتحسين حال أسرتها، إذ قدمت أوراقها إلى وزارة التضامن للحصول على إعانات برنامج "تكافل وكرامة"، أو كما تسميه هي "معاش السيسي". وتقول: "قدمت كل الأوراق المطلوبة من فبراير 2016، ولحد دلوقتي مخدتش حاجه"، وتضيف أن بعضًا ممن فازوا بشقق الإسكان الاجتماعي يمتلكون بيوت في مناطق أخرى، بينما لا تنطبق عليها الشروط. في حوش آخر لا يبعد كثيرًا عن حوش ناريمان السمرا، تتشابه الحكايات، وتتعدد المآسي. أمام الحوش يجلس رجل ثمانيني يدعى الحاج حنفي أمام بوابة حديدية محى الزمان لونها. ورث حنفي حراسة هذا الحوش وما بداخله من مقابر عن والده الذي كان يعمل أيضا حارسًا. بالكاد يسمعني وبالكاد يراني، لكنه يصر على ضيافتي حتى لو بين شواهد القبور.

إعلان

امرأة مسنة داخل ساحة منزلها التي هي في نفس الوقت غرفة دفن.

خلف الباب الحديدي يقيم حنفي وزوجته المسنة في غرفة ضيقة باهتة الألوان، وبلا نوافذ، بينما تعيش ابنته وطفليها في غرفة أكثر ضيقًا في الجهة المقابلة.
يشتكي "حنفي" من تهديد أصحاب المقبرة بطرده، لأنه أصبح شيخًا عجوزًا، وهم يحتاجون حارسًا جديدًا أكثر شبابًا، لكن أين سيذهب مع زوجته وابنته وأحفاده. على مقربة منه تجلس الحاجه حكيمة عبد الحكيم التي عاشت كل عمرها هنا بين المقابر، لكنها تتمنى أن تنال ابنتها وأحفادها فرصة أفضل، وحياة أكثر أمانًا "في شقة ولو اوضتين وصالة". تقول حكيمة: "السيسي قال اختاروني عشان اللى قاعدين في الترب ح اديهم شقق .. نزلنا واخترناه وكتبنا أسمائنا، وضحك علينا".

عجوز من سكان المقابر يفترش الأرض متكئًا على شاهد أحد القبور وفي الخلفية آيات قرآنية تكتب على جدران المقابر.

تتحرك كوثر حنفي عبر شواهد القبور حتى تصل إلينا، تندفع في الحديث عما تعانيه، فهي مسؤولة عن تلك الأسرة المكونة من الأب والأم واثنين من الأبناء أكبرهما يبلغ 18 سنة. لا تملك كوثر إلا العمل في مجال نظافة البيوت، وتفعل كل ما بوسعها للخروج من المقابر إلى مكان أفضل. تقول: "معايا عمرو 15 سنة، ويوسف 18 سنة .. معرفش حاجه عن والدهم اللي فجأة اختفى من 9 سنين.. كل اللى اتمناه شقة اوضتين وصالة اقعد فيها مع عيالي بدل العيشة في الجبانات". تأخذنا كوثر إلى حوش المقبرة لتعريفنا بالمكان، تقول نعيش هنا مقابل حماية المكان والحفاظ عليه من النهب، وتضيف: "الحياة وسط الجبانات وحشة مش زي ما الناس فاكرة إن اللي السكان هنا متعودين على الموت.. لا أنا وعيالي بنام واحنا خايفين". لكن خوف كوثر الأكبر الآن هو مصير عائلتها إذا ما قرر أصحاب المقبرة طرد والدها من المكان، تقول: "مش ح يبقي ليا غير الشارع".

أحد سكان المقابر في قيلولة بين جيرانه من الموتي داخل قبورهم.

حاولت كوثر التقدم بأوراقها للحصول على معاش تكافل وكرامة عبر إحدى الجمعيات الأهلية بمنطقة المقابر، لكنها فشلت في تقديم الأوراق بسبب الزحام الشديد، وتبادل الضرب والإهانات. وقالت أيضا إنها سألت عن شقق الاسكان الاجتماعي التي طرحتها الحكومة، لكنها فوجئت أن مقدمها 20 ألف جنيه "دا مبلغ مقدرش عليه ولا أقدر على أقساط الشقة". تقول كوثر، التي تعمل في تنظيف المنازل، إن جميع محاولاتها للحصول على شقة انتهت بالفشل حتى يئست من الحصول على أبسط حقوقها في هذا البلد. وتضيف: "أنا مقدرش كل يوم انزل أجرى على ورق الحكومة عشان اخد حقي.. لازم أجرى الأول على رزق عيالي، مين ح يعوضني على يوميتي وأجري".

إعلان

غرفة نوم إحدى الأسرالتي تسكن مقابر القاهرة القديمة.

احدى ساكنات المقابر تجلس أمام مسكنها (مدخل المقبرة التي تسكن) وسط المقابر المجاورة.

أطفال من سكان المقابر ينظرون إلى الكاميرا.

غسيل السكان في ساحة إحدى المقابر.

عجوز يجلس إمام إحدى المقابر وعلى اليسار شخص يتبول على حائط إحدي المقابر لعدم وجود مراحيض عمومية

جميع الصور من تصوير علي المالكي.