هدايا الاكتئاب القليلة: كيف صنع لي أغنيتي الأولى
تصوير: جاكسون رومي/فليكر

FYI.

This story is over 5 years old.

فن

هدايا الاكتئاب القليلة: كيف صنع لي أغنيتي الأولى

علمت بعد ذلك أن هناك اصطلاحاً لتشخيص هذه الحالة التي شاركني كثيرون فيها هو (اكتئاب ما بعد الثورات). الثورات غير المكتملة بالطبع

شتاء قارس، المشهد مصبوغ بألوان باهتة تشبه ألوان مدينة جوثام في أفلام مارفل، أركض بينما يتصاعد البخار من أنفي، استنشاق الهواء يزداد صعوبة وإيلاماً مع كل لحظة، أخترق صفوف الموتى الأحياء الزومبي، كما اتفق على تسميتهم، يحاولون النيل مني ليأكلوني، أدرك هذا ومع ذلك لا أخاف ذرة واحدة على العكس يغمرني شعور بالمرح، رغم أن تنفسي يزداد صعوبة لأني أغني، نعم، أغني وصوتي يخرج ليملأ الهواء من حولي، حرفياً، أستطيع أن أراه، أغني ليتحول من يعبر به الهواء الممتلئ بصوتي إلى بشري من جديد، في حين تمسك يدي اليمنى بسكين ضخم وتتحرك على إيقاع غنائي المرح لتطير رؤوس الموتى الذين نجحوا في اللحاق بي ولم يستجيبوا لغنائي بعد.

إعلان

أستيقظ لأجد أنه الصباح، غارقة في العرق برغم الجو البارد، أفكر في تدوين هذا الحلم، لا أسميه كابوساً فقد كان مسلياً برغم كل التفاصيل القاتمة وافتقد إلى الذعر المميز للكوابيس، كما إن رمزيته الطفولية أسعدتني، أن يكون لشيء أحبه كغنائي هذا الأثر على الناس هو كل ما أريده وهذا الحلم ترجم ذلك حرفياً: أن يعيد غنائي الزومبي إلى كونهم بشرا مجدداً.

الأرق الشديد كان الطريقة التي اختارها مرض الاكتئاب ليعلن عن نفسه معي. حرمني الاكتئاب من النوم العميق، أقصى مدة نوم متصلة لا تتجاوز الساعتين، أسمع خلالها كل شيء حولي بمنتهى الوضوح، بدءاً من دقات الساعة المعلقة عبر الطرف الآخر من الشقة، ومرورا بخطوات العابرين في الشارع وحتى انعكاس أضواء السيارات العابرة على نافذتي برغم الطوابق العديدة التي تفصلني عنها. يعمل عقلى خلال النوم بشكل منطقي وكأني مستيقظة، يعي ما يحوله ويحلل ما مررت به خلال اليوم و يتذكر أحداثاً بتفاصيلها بل وينبهني أنني سأستيقظ خلال اللحظات القادمة. وبالطبع لا أستطيع العودة إلى النوم بعدها مرة أخرى.

حاولت استعادة نومي المفقود بين طبيب يتعاطف معي دامعاً ويسألني (مفكرتيش في الانتحار قبل كده؟) و كأنه اقتراح لحل، وآخر لا يهمه سوى الحديث عن الجنس من أول زيارة، وأخرى تقرر أنها تريد صداقتي وأخير يريد مني تناول أربعة أدوية مرتين يومياً بين مضادات للاكتئاب ومنوم ومهدئات، كل هذا لكي أعرف أنني أعاني الاكتئاب وبعض مضاعفاته، لم يكن ذلك جديداً، كنت أعرف أنني أكثر حساسية من المعتاد، لا أعرف ما هو المعتاد وما المقياس الذي يستخدمه الناس لهذا وما اتفقوا على أنه الحد الطبيعي، ولكن مستقبلاتي الإدراكية مختلفة وقاتمة اللون. ما كان لطيفا ومواسياً إلى حد كبير هو أنني اكتشفت أن هذه الحالة يشترك الكثيرون فيها معي ويمرون بنفس التفاصيل لدرجة أن امتلكت اسماً ومنهجاً علاجياً يحاول الحد من آثارها السلبية على الروح وعملية الحياة.

إعلان

كما هو حال العديد من المصريين، أملت في حياة أفضل بعد سنين يأس طويلة قبل ثورة يناير 2011، حتى أني لم أكتف بالتواجد الميداني فيها، ولا بغناء ما نملك من إرث الأغاني الوطنية من الشيخان إمام وسيد درويش في شوارع القاهرة في أيامها وبعدها احتفالاً بما بدا لنا نجاحاً لها آنذاك، بالطبع تلك الأغاني كانت جديدة نسبياً على الشارع المصري وقتها، وأتذكر أني كنت أنقب عما يعبر عن الحالة "الثورية" التي كنا نعيشها في الأغاني المصرية الوطنية ولقلة المصنوع والموثوق منها اتجهت عوضاً إلى أغاني الرحبانية وفيروز الوطنية والتي حوت إحساساً أكثر واقعية بالنسبة لي رغم اختلاف اللهجة وعصيان بعض الكلمات على فهمي. الثورة، التي شاركت بكل حواسي فيها، حتى أنني نفذت مشروعا قصيراً مع شركاء موسيقيين من ست أغان لنقد وعرض الوضع السياسي-الاجتماعي آنذاك، وعرضته في أماكن عامة على جمهور الصدفة المتواجد، ولقيت أسئلة وردوداً شجعتني على الاستمرار.

فجرت الثورة كل شيء بداخلي، الآمال واليأس معاً وأفقدتني العدمية التي كنت اتخذتها منهجا حياتياً عن قناعة، ولكنها أيضا فجرت الاكتئاب، بكل الاحباطات والأحداث الخاصة والعامة، علمت بعد ذلك أن هناك اصطلاحاً لتشخيص هذه الحالة التي شاركني كثيرون فيها هو (اكتئاب ما بعد الثورات). الثورات غير المكتملة بالطبع. لم أكترث بالبحث كثيراً. أعرف أن اكتئابي أعمق من هذا. لا ينفيه عني أني أعمل وأنتج، وأختلط بالناس وأختبر السعادة، وإن ظلت خياراتي في الموسيقى أميل إلى الجانب القاتم، الأغاني التي تعبر عن الظلمة وتناقشها، والتي أصبحت أتذوقها دون غيرها كتجربة ذاتية ولواقعيتها الشديدة على الإطلاق.

أصبحت الأغاني السعيدة- ولا أغني الراقصة- معان من الخيال، غير واقعية، لا أستطيع سوى تحليلها موسيقياً عندما أسمعها كناقد، وإذا أعرت بالاً للكلمات دائما تغلبني السخرية. في عقلي طوال الوقت أغان لآخرين أسمعها بوضوح، تعمل في خلفية حياتي كموسيقى تصويرية لكل المواقف وهي ما يعطي البعد الرابع للأحداث، كل شيء يبدو كأنه يحدث لشخص آخر حتى يجد عقلي الأغنية أو قطعة الموسيقى المناسبة لتعمل في الخلفية. في الحقيقة يبدو هذا جنوناً لي بينما أكتبه الآن للمرة الأولى. ذائقتي في الأغاني متسعة بشكل يدهش معظم من يطلعون على قائمة تشغيل أغاني الخاصة بي في أي وقت، ومتقلبة كمزاجي. أحب الموسيقى المصنوعة جيداً، والمصنوعة بإحساس، الصادقة إذا كان هناك تسمية كهذه، المصنوعة بذاتية وتقمص شديدين. في حين يظل الهارد روك مفضلي الأول، به ثورتي على كل شيء، ولكني أخاف من الاستماع لما يقاسمه روحي ويجعلها تتلوى ألما: الفلامنكو والدووم ميتال وبعض الكلاسيكيات العربية والغير عربية. الآن وأنا أعرف ما أعاني، هناك أغان وقطع أتجنب التعرض لها تماماً رغم أني أحبها، لأني أخافها، وأعرف يقيناً أن الاستماع إليها يعني الانزلاق إلى حلقة اكتئابية جديدة أعمق.

إعلان

منذ اكتشفت أن لدي هبة موسيقية، وبدأت إيماني بها في سن متقدمة نسبياً، عملت بجد على إخراج كل ما لدي من خلال الغناء. في بلد مثل مصر هذا هو الطريق الأقصر لمزيد من الاكتئاب، فتاة -في منتصف العشرينات- تقرر أن تكون مغنية/موسيقية -مستقلة في بلد علي أن أحارب فيه كموسيقية وكموسيقية مستقلة. بعد سنتين من الغناء الاحترافي، اشتد اكتئابي. كان لدي رغبة في ترك إرث أغان صنعتها، ولم يكن لدي أغاني الخاصة بعد. بعد الثورة، سيطرت علي الرغبة في صنع أغنية تنقل كل ما اعانيه. اغاني تتحدث عن عكس اليقين، وليس عدمه، هو ما شعرت به وأنا أتصفح ديواني المفضل المعاصر للشاعر المصري محمود عزت، الذي كعادتي وبحكم ذائقتي القاتمة الممتدة إلى الشعر وضعت علامات بجانب المقاطع التي تعجبني للغاية منه وأحس انها تشبهني: -لكن دلوقتي مش رايقة، ولا ليا مزاج غير إني أتفرج على الدنيا من الشباك، وأقول بكره يمكن بكره يعجبني

لأول مرة تخرج مني الكلمات حاملة نغمتها، أتناول الجيتار-في حالة انهيار عصبي كاملة لألعب اللحن المصاحب

لا نحيب، كي يتمكن اللحن من الخروج. عندما انتهى الجزء الأول احتضنت جيتاري في صمت وأنا مازلت أبكي. نفس الحالة أكملت صنع أول أغاني، في حلقات من الانهيار والبكاء. تلقيت نصائح عديدة مختلفة أسداها لى المقربون والمتخصصون بألا تكون كل أغاني (كئيبة). لكن لمن أصنع أغاني إن لم أكن صادقة؟ في بحثي الدائم وجدت العديد من الموسيقيين الذين عانوا الاكتئاب بشكل مزمن وحاد تعاملوا معه بطرق مختلفة، الإدمان على أشكاله، المخدرات والكحول، الأدوية الموصوفة، المصحات الاستشفائية والعديد ممن أنهوا حياتهم ليضعوا له حدا و لأنهم لم يتحملوا المزيد من الحياة. أتفهم هذا تماماً. وجدت أيضا أغان عديدة صنعت بروح مماثلة وأدى انتشارها لموجات من الانتحار عبر أماكن مختلفة حتى تم منعها من الإذاعة، محاولات عديدة لقنص الإكتئاب و التعبير عنه.

وأنا أحاول صنع الأغاني التالية الخاصة بي، أدركت أني لا يجذبني إلا ذات النوع من الكلمات، الواقعي المكتئب، ولا يزورني ألحان سوى لهذه النوعية من الشعر، قد يعجبني بعض ما أصادف من كتابات حول الحب والحماس والوطن، ولكني مهما عملت جهدا لا يزورني لحن له، وإن حاولت تقمصه وترجمته يغلبني الزيف، ولا أستطيع مهما حاولت أن أغني بصدق سوى ما يأتي لحنه من المرة الأولى وأنا أقرأه، شعر المكتئبين-المدرسة الواعية في رأيي. لفت نظري صديق مقرب أن أغاني برغم الكآبة المفرطة تحوي شعاعاً صغيراً من الأمل، نفيت ذلك بشدة، ولكني أعدت النظر والسمع لأجد ما يقصد. وما وجدته لم يكن الأمل، إنها الرغبة في الحياة، والتعبير المسالم عن الصراع المستمر: أمل اليائسين (أقول بكره أقوم الصبح يمكن بكره يعجبني). هذا هو أنا، وهذه أغاني، وهذا ما أعانقه واعتنقني، وهذا كل ما أتركه إرثا.

@ShereenAbdo