سخرية، ألقاب مهينة، تعليقات محرجة، تعنيف، أو عنصرية بسبب العرق أو الأصل أو المظهر، أكيد أن الكثيرين منّا عاشوا، ولو لمرة واحدة على الأقل، مثل هذه المضايقات والمواقف العدوانية، وربما أدّت بالبعض إلى الإصابة اضطربات نفسية كالاكتئاب، وفي حالات أخرى إلى الانتحار. وتشير أرقام اليونسكو لسنة 2017 إلى تعرّض ربع مليار طفل في العالم للتنمر، وخاصة منهم الأطفال الذين يتحدّرون من أوساط فقيرة ومهمشة أو ينتمون لأقليات عرقية أو لغوية أو دينية. التطور التكنولوجي الذي نعيشه وظهور مواقع التواصل الاجتماعي لم يساعد في الانفتاح على الآخر على العكس، اتخذ التنمر منحى جديد لتنتقل نفس التصرفات من تحرش أو تخويف أو استفزاز نفسي ومادي والملاحقة إلى الإنترنت بما يُسمّى بظاهرة "التنمر الإلكتروني." وتشير أرقام جمعية "منع القسوة على الأطفال" البريطانية إلى أن التنمر الإلكتروني ارتفع بنسبة 88% خلال السنوات الخمس الماضية.
العالم العربي مليء بقصص التنمر والعنصرية التي تحدث يوميا في المدارس، في الشارع، وحتى بين الأهل والأصدقاء، ولا تنتهي هذه التصرفات بوصولنا إلى التعليم العالي أو بتقلّد مراكز مهمة في الدولة، كما هو الحال مع بسام، 27 عاماً، موظف في وزارة الاقتصاد والتخطيط بالمملكة العربية السعودية، والذي يقول إن لون بشرته الداكن كان سببا في تعميق معاناته في كثير من مراحل حياته، وتحديداً خلال سنوات المدرسة: "عادة ما كان يقال لي "طرش بحر أو من بقايا حجاج" وكنت أتألم كثيراً عند سماع هذه العبارة، فهي تُقال عادة للتنقيص من غير السعوديين، ويُشار بها إلى أولئك الذين قدموا إلى المملكة لأداء العمرة أو الحج، ثم استقروا في منطقة الحجاز (غرب البلاد) و تجنسوا فيما بعد."
يستحيل مثلاً أن يتزوّج شخص مثلي بفتاة قبلية "بنت حمايل" أو حتى أن يفكّر في الأمر، كنت سأواجه رفضاً قاطعاً من أسرتها وعشيرتها، بل سأتعرّض للسخرية والطرد، حتى ولو كنت ثريا ولديّ أملاك ومشاريع
ولد بسام في مدينة الطائف لكنه نشأ وترعرع في القصيم، ونظراً إلى لون بشرته الداكن فقد كان ضحية معاملة سيئة من الكثيرين، والذين كانوا يطلقون عليه ألقاباً عنصرية: "لم يكن ممكناً لي أن أجد أصدقاءً في مرحلة المتوسط والثانوية، لأنني "حبشي" أو هكذا كان يُقال عنّي، وفي كل مرة كنت أختلف في الرأي مع أحدهم وتشتدّ حدة الحوار بيننا، يقول لي "تخسى يالطرش أو يالخال" (أسود البشرة)." وعلى الرغم من تحسّن نظرة المجتمع اليوم "بحكم منصبه الوظيفي" حسب تعبير بسّام، إلا أنه لا زال يعتبر نفسه "مواطنا من الدرجة الثانية" ويشرح ذلك قائلا: "يستحيل مثلاً أن يتزوّج شخص مثلي بفتاة قبلية "بنت حمايل" أو حتى أن يفكّر في الأمر، كنت سأواجه رفضاً قاطعاً من أسرتها وعشيرتها، بل سأتعرّض للسخرية والطرد، حتى ولو كنت ثريا ولديّ أملاك ومشاريع."
محمد سيدي أعبيدي، 34 عاماً، تقني كهربائي من موريتانيا، يعلم جيداً جداً حجم العنصرية التي قد يواجهها شخص عربي ذو بشرة داكنة أو كما يطلق عليهم في بلاده "الحراطين"، أي العبيد السابقون، والذين يشكلون نسبة مهمة من إجمالي سكان موريتانيا، حسب تقارير حقوقية محلية. وقد رسم مؤشر منظمة WALK FREE العالمية، الصادر أواخر يوليو الماضي، صورة قاتمة عن وضعية الحراطين في البلاد، حيث أشار إلى أن 90 ألف موريتاني هم من ضحايا العبودية، رغم أن الدولة سنّت في 2015 قوانين تحارب العبودية والتعذيب، وتصل فيها العقوبات إلى عشر سنوات سجناً نافذة وغرامات مالية تُقدر بـ 14 ألف دولار. يقول محمد أن "الحراطين" محرومون من التملك العقاري في الأرياف رغم اعتمادهم على الزراعة كثيراَ في معيشتهم، كما أن الأغلبية الساحقة منهم تعاني من الأمية والفقر المدقع وتعيش في سكن غير لائق، ولا يمكنهم تقلّد أي منصب مهم بسهولة في مؤسسات الدولة.
"سكان موريتانيا ينقسمون إلى عرب بيض (البيظان) وعرب سُمر (الحراطين)، ويُنظر الى الحراطين دائماً بدونية، لأن عقلية "الأسياد البيض" ما زالت مستمرة منذ قرون." بهذه العبارات حدثنا محمد عن الطبقية التي تسود المجتمع الموريتاني، ثم مضى مستشهداً بموقف عاشه قبل سنوات مضت: "باعتباري "حرطانيا" كنت من المحظوظين الذين تلقوا تعليماً في مدرسة عمومية مخصصة لأمثالنا، وهي بالمناسبة تفتقر إلى أبسط المقومات. لكن في 2003، حُرمت من اجتياز امتحان الباكالوريا (الثانوية العامة) لمجرد أنني كنت "الحرطاني" الوحيد بين المترشحين "البيظان" تلك السنة. لقد أخفت عني إدارة المؤسسة الوصل الذي يسمح لي بدخول قاعة الامتحان، ربما لم يرغبوا في أن يجاورهم حرطاني."
في الكويت، العنصرية لا تتعلق بلون البشرة فقط، بل يتعدى ذلك للتركيز على أصل أصلك، كما هو الحال مع البدون أو عديمي الجنسية الذين يتوزعون في عدد من الدول الخليجية، وهم أشخاص لا يحملون أي جنسية ولا أي وثائق تثبت انتمائهم للبلد الذي يقيمون فيه. ويقدّر عدد البدون اليوم في الكويت بـ 100 ألف شخص حسب تقرير حديث لهيومن رايتس ووتش. وتعود جذور مشكلتهم إلى خمسينيات القرن الماضي، حينما كان الجهل وقلة الوعي والتحول السريع نحو التمدن بعد استقلال البلاد، أسبابا في إهمال بعض قبائل البدو الرحل طلب الحصول على الجنسية. واعتبرتهم الحكومة إنهم مواطنو دول أخرى هاجروا إلى الكويت بعد اكتشاف النفط أو يخفون هويتهم الأصلية، وأن "مساحة البلاد وظروفها والخوف من الإخلال بالتركيبة العرقية والطائفية بالبلاد" لا تسمح للكويت بالتجنيس الواسع النطاق لكل من يرغب في ذلك.
نعاني من غياب فرص العمل والتعليم ومن الرعاية الصحية وجميع أشكال الدعم والإعانة، كما نعيش في منازل تشبه المخيمات تتمركز في أحياء محدّدة لأننا ممنوعون من التملك
وفي الوقت الذي تعمل فيه الحكومة الكويتية على إيجاد حلول جذرية لقضية البدون، لا زال العديدون منهم يعانون من التمييز والإقصاء بشكل كبير كما يوضح، خالد الظفيري، 39 عاطل عن العمل من الكويت: "لا نستطيع الحصول على جنسية ولا على أوراق ثبوتية رغم إقامتنا في البلاد منذ سنوات طويلة ولا نعرف وطنا آخر غيره. وكأي "بدون" آخر، فأنا أعاني من غياب فرص العمل والتعليم ومن الرعاية الصحية وجميع أشكال الدعم والإعانة، كما نعيش في منازل تشبه المخيمات تتمركز في أحياء محدّدة لأننا ممنوعون من التملك. صحيح أن الأمر سياسي بالدرجة الأولى، لكننا نعاني أيضاً من ظلم المجتمع، ينادوننا بعبارات جدّ مسيئة، أعتذر عن ذكرها، ولعلّها من الأمور التي ساهمت في إرتفاع معدلات الانتحار والإصابة بالأمراض النفسية في أوساط البدون، حسب علمي."
يقول خالد إن الأمر لا يقف هنا فحسب، فالبدون غير قادرون على المشاركة في المسابقات، أو الانضمام إلى الفرق الرياضية أيضاً، كما لا يمكن لأطفالهم تلقي التطعيمات والعلاج بشكل قانوني لأنهم غير معترف بهم. "مقابر الدولة لا تستقبل موتانا، ومحرومون من توثيق شهادات الوفاة والزواج والميلاد، نحن نعيش هنا كالأشباح."
لا تنتهي مشاكل البعض بالحصول على الجنسية أو بتقبّل اختلاف لون البشرة، فالتنمر بات يلقي بظلاله على جميع التفاصيل، انطلاقاً من شكل الجسم وصولا إلى طريقة الكلام واللغة. وقد تكون حالة المغربية آية فالي، 14 عاماً، هي واحدة من الحالات الأصعب التي تظهر مدى قسوة المجتمع وعدم تعاطفه مع الآخرين. مجرّد أن تبحث عن الطالبة المغربية في خانة البحث على google، ستقفز إليك عشرات مقاطع الفيديو والمقالات الصحافية التي نقلت قصتها، ومعاناتها مع سمنتها المفرطة، وكانت سبباً في طردها من مقاعد الدراسة. يقول خالد فالي، والد آية في حديث مع VICE عربية: تزن ابنتي 200 كلغ، بسبب مشاكل صحية وراثية جعلت وزنها يتضاعف بشكل كبير منذ ولادتها، وبما أنه لم يتم تشخيص المرض مبكراً، استعصى علينا علاجها الآن، ما جعلها تعيش حياة غير طبيعية."
تعرضت آية للسخرية وكان التلاميذ يضربونها ويعمدون إلى إسقاطها أرضاً، أما بعض الفتيات فقد كن يهربن منها، ويصفنها بالمعاقة
وعن مسألة حرمان ابنته من التعليم، يحكي خالد: "غادرت آية المدرسة قسراً بعد سنتين فقط من التحاقها بها، لقد طردتها إدارة المؤسسة لأن حجمها ووزنها الزائد يُخيف زملاءها التلاميذ. تعرضت آية للسخرية وكان التلاميذ يضربونها ويعمدون إلى إسقاطها أرضاً، أما بعض الفتيات فقد كن يهربن منها، ويصفنها بالمعاقة." يضيف خالد أنه حاول تسجيل آية في مدارس أخرى، لكنهم كانوا يرفضونها ويتذرعون بحجج مختلفة: "هناك من يقول إن حجمها يخيف التلاميذ وسيؤثر على نفسيتهم، ويقول آخرون إن عليها أن تدرس في فصل "انفرادي" فيما يشكّك البعض في أحقيتها بدخول المدرسة ويطالبوننا بإجراء اختبار أو TEST ليعرفوا إن كانت المدرسة مناسبة لها،" يضيف خالد ولكنه يشير إلى أن قصة طرد آية من المدرسة دفعت بالعديد من الأطباء في المغرب بعرض علاجها ومتابعتها مجاناً ولكن لم يحصل تحسين ملحوظ على صحتها حتى الآن.
حالة آية ليست فردية ولا معزولة عمّا يقع كل يوم، فالمدارس لم تعد قادرة على ضمان بيئة تعليمية آمنة، ولا السيطرة على استفحال ظواهر بحمولات سلبية كالتنمر، والتي من شأنها أن تؤثر على مردود التلاميذ ونفسيتهم، وتُسبب لهم مشاكل عاطفية وسلوكية وخيمة على المدى الطويل. بالنسبة لدعاء، 29 عاماً، مسؤولة مبيعات من مصر، فهي تعلم جيدا حجم الآثار الوخيمة التي يخلّفها التنمر على ضحاياه، من خلال ما تعرّض له ابنها ذو 7 سنوات من طرف زملائه في المدرسة، كالبصق عليه، وسرقة أدواته وتكسيرها، وإسقاطه أرضا وضربه بعنف، لا لشيء سوى أنه كان مسالماً وسلبياً جدا أمام الاعتداءات التي تعرّض لها.
كما وصل الأمر بهم في إحدى المرات لأن "يعايروه بيا أنا عشان مش محجبة" على حدّ تعبير دعاء والتي اكتشفت بالصدفة ما يعيشه ابنها بعد رؤيتها لعلامات زرقاء متفرقة على جسده أثناء تحميمه، "لقد صعقت مما رأيت وبدأت أربط الوقائع ببعضها، لأستنتج في الأخير سبب تظاهر ابني بالتعب والمرض لكي لا يذهب إلى المدرسة، وسر تبوله اللاإرادي ليلا، والكوابيس المرعبة التي تراوده، فضلا عن تدهور علاماته في الصف." ذهبت دعاء لتبليغ ناظرة المدرسة بما رأت، وأبدت هذه الأخيرة تأثرها وغضبها من الواقعة، لكنها حينما نادت على الطفلين المتنمرين لتوبيخهما، أنكرا، وقالت لها ببساطة "أكيد هما ما كانوش يقصدو ده لعب عيال بس.. عموما أنا هقولهم ما يجوش جنب إبنك تاني." في نهاية الأمر، لم تجد دعاء أي حل أمامها سوى تغيير مدرسة ابنها، وتسجيله في صف رياضة "التايكواندو" حتى يتمكّن لاحقا من الدفاع عن نفسه ويعزز ثقته بنفسه.
لن أنسى معلمة الرياضيات التي كانت تستدعيني عنوة إلى السبورة لأشرح لزملائي إحدى القواعد، علماً أنها كانت تعلم بتلعثمي وضعفي باللغة الهولندية
خديجة، 24 عاماً، عانت في طفولتها من التأتأة لمدة اثنا عشر عاماً، لكن مشكلتها ستتفاقم بمجرّد انتقالها للعيش مع والديها في هولندا دون أن تتقن اللغة. تقول الطالبة المغربية المقيمة في هولندا عن تجربتها: "لا زالت تحضرني ذكريات سيئة عن تلك الفترة، لن أنسى معلمة الرياضيات التي كانت تستدعيني عنوة إلى السبورة لأشرح لزملائي إحدى القواعد، علماً أنها كانت تعلم بتلعثمي وضعفي باللغة الهولندية. كان التلاميذ يتهامسون حولي حينما أقف أمامهم ويسخرون مني كلمّا حاولت التكلم. انتشرت قصتي بسرعة داخل المؤسسة التي كنت أتابع تعليمي بها، وكنت أحس خلال الفسحة أن الكلّ يحدّق بي ويستهزئ مني، كنت منطوية ووحيدة بلا صديقات."
مع التطور التكنولوجي الحاصل والإقبال المتزايد على مواقع التواصل الاجتماعي، اتخّذ التنمرّ أشكالا جديدة بعد انتقاله إلى العالم الافتراضي، إذ لم تعد الإساءة تقتصر على الأشخاص المحيطين بالضحية، بل بات الأمر مفتوحا أمام الغرباء أيضاً، مع إمكانية إخفاء هويتهم. أنس رضوان، 30 عاماً، صحافي من المغرب عاش نفس التجربة مع موقع "صراحة"، الذي يُتيح لمستخدميه معرفة آراء الناس بهم، إذ يكفي الواحد أن ينشئ حسابا على هذا الموقع وينشر الرابط على صفحته، ليُمكّن غيره من أن يتركوا له تعليقا أو رسالة دون الكشف عن هويتهم. يقول أنس: "شخصياً، تعرضت مرارا للعديد من الشتائم والتعليقات السلبية التي لا أجد لها مبررا معقولا، خاصة تلك التي تُبخس من قيمة مجهوداتي المهنية أو تهاجمني شخصيا، ربما هم أشخاص يرغبون في هزّ ثقتي بنفسي أو تزعجهم مهنتي" ثم يضيف "الأمر ازداد بشكل كبير لما استعملت موقع صراحة، حيث تلقيت فيه الكثير من الرسائل التي تتضمن إساءات كبيرة، من أشخاص مجهولين.
يرى أنس أن هؤلاء الأشخاص يفتقدون لقوة الشخصية وللشجاعة الكافية لمواجهتك، ويؤكد أن الشتائم والتعليقات السلبية لن تغيّر في حياتك شيئاً وأن نصيحته لمن تعرض للتنمر هو محاولة المرور عنها والإيمان أن المشكلة بالمتنمرين وليس فيه: "صحيح أنني تضايقت في البداية، لكنني اقتنعت أن آراء الآخرين لن تغير شيئاً في حياتي اذا لم أسمح لهم بذلك، وبالتالي كان لزاما علي أن اتخذها محفزا للمضي قدما في حياتي وعدم الوقوف عليها."