رأي

الرياض: كيف تغيّرت المدينة التي نشأت بها؟

التغييرات التي وصلت وأنا أسمع عنها، كانت تتجاوز حدود الصورة التي رسمتها في مخيلتي المثقلة بالذكريات
mdl beastt

MDL Beast

يمكنك أن تشعر بذبذبات التغيير في هواء المدينة، في اللحظة التي حططت في مطار الرياض في ديسمبر 2019 شعرت بأنني في مدينة مختلفة. هذه المدينة التي عرفتها جيداً في حقبة التسعينيات وبدايات الألفية، وكنت أزورها كل عدة سنوات، بدت كصورة جديدة عن نفسها.

البداية كانت من المطار، مطار الرياض الذي أذكر منه بنائه المعماري الذي يعجبني شخصياً، كان مكاناً تسوده أجواء من الجفاء، وتغيب المرأة عنه بشكل ملحوظ. كنت تجنبًا لبعض النظرات أو التعامل "الناشف" أحرص على ارتداء عباءتي قبل نزول الطائرة. ولكن مطار الرياض الذي حططت به اليوم بلباسي نفسه الذي غادرت به دبي، كان مختلفا تماماً، تولت إجراءات الرحلة القادمة من دبي سيدات سعوديات مبتسمات، هن موظفات الحدود الجوية في مطار الرياض. لم أتوقع هذه الحفاوة واللطف في المطار الذي حططت به مرات كثيرة في حياتي. حضور المرأة الطاغي بين الموظفين لفت نظري، خاصة أن وجوده سابقًا كان يقتصر على بعض موظفات التفتيش. ببساطة، لقد كان المطار مختلف تماما عمّا آراه اليوم، تعامل لائق يدل على أن المدينة تهيء نفسها لتحمل وجه جديد وعالمي.

إعلان
1577018212703-91B91CDE-49B5-49D4-8338-9B4B764BBB9F

سيلفي المطار

التغييرات التي وصلت وأنا أسمع عنها، وأتابعها عن بعد وباهتمام، كانت تتجاوز حدود الصورة التي رسمتها في مخيلتي المثقلة بالذكريات من هذا المكان. "السعودية ببساطة لم تعد كما كانت" التغيير يطال كل شيء، تلك الشوارع والطرقات الشاحبة والمثقلة بحضور ذكوري تام، أصبحت اليوم تتغنى بمواسم من الترفيه والفعاليات الثقافية، وتسمح للمرأة بالحضور الفعّال فيها. أما التقييد على لباس المرأة بالعباءة السوداء ذات الشروط الكثيرة سابقاً، فقد بات اليوم أكثر تحرراً وانفتاحاً.

حين نشأت كان وضع طلاء الأظافر أحيانا مسبب لـ"خناقة" من المطوع في المركز التجاري، أما العباءة المفتوحة أو المزركشة والوجه المكشوف فكان يتسبب أحيانًا برحيلنا من المركز تتبعنا صيحات "غطي وجهك يا حرمة"

يقول لي أحدهم إذا أردت يمكنك الخروج بدون عباءة، لا يوجد قوانين تفرض لباس على المرأة الأجنبية في السعودية حالياً. أعود بذاكرتي لمشهد "المطاوعة" في الرياض والتضييق الذي كان حاضراً على المرأة ولباسها. حين نشأت كان وضع طلاء الأظافر أحيانا مسبب لـ"خناقة" من قبل مسؤولي الشرطة الدينية أو المطوع في المركز التجاري، أما العباءة المفتوحة أو المزركشة والوجه المكشوف، فكان يتسبب أحيانًا برحيلنا من المركز تتبعنا صيحات "غطي وجهك يا حرمة."

كطفلة نشأت في الرياض منذ 1990 وحتى 2006 في زمن لم يسمح به للمرأة بالقيادة في السعودية. لم أرى أمي أو أي إمرأة أخرى تقود إلا أثناء السفر في فترة الصيف خارج السعودية. اليوم وبعد عشرات السنين، رأيت شوارع الرياض ممتلئة بالسيدات وسيارتهن. رأيت بعض السيارات الفارهة والألوان المميزة ممتلئة بالشابات اللاتي يبدو أنهن يمرحن، يسمعن الموسيقى ويقضين أوقاتا ممتعة. شعرت أنني أتعرف من جديد على المرأة السعودية في الرياض.

إعلان

التغيير الذي شاهدته في المدينة لم يكن حصراً على قيادة المرأة أو المباني الجديدة ذات التصاميم الحديثة بل حتى إعلانات الشوارع في الرياض بات كثير منها يروج لحفلات موسيقية، في بلد كانت تعد به الأغاني والموسيٍقى من الممنوعات الصارمة، ها أنا أمشي وأرى إعلانات لحفلات يحييها دافيد غيتا وعشرات غيره ضمن مهرجان "ميدل بيست" بل حتى أن بعض المحال التجارية والمطاعم أصبحت تضع موسيقى، وهو ما كان من الممنوعات سابقاً. هذا عدا عن دور السينما التي فتحت أبوابها للمرة الأولى في الرياض منذ 35 عاماً.

1577018346441-IMG_1404

مدخل البناية التي كنت أعيش فيها بالرياض.

كم هم محظوظون من ينشؤون اليوم في الرياض، لو أنهم يعرفون أن تسليتنا كانت تقتصر على الـ بلاي ستيشن وطلب البيتزا من الخارج

قد تبدو هذه المشاهد طبيعية لمعظم المدن، لكنها ليست كذلك للرياض. نبض المدينة اختلف بشكل كامل. حتى أحاديث من التقيت بهم من سكانها بدت جديدة لي. هم مأخوذون بالتغيير. يتكلمون عنه بانبهار ويبدو شاغلهم الشاغل. يسأل أحدهم هل سمعتم بالحفلة الفلانية، ويتكلم آخر عن موسم الرياض وأخرى تتحدث عن مجيء عمرو دياب إلى هنا ثلاث مرات متتالية. الجميع يريد أن يريني شيئا ما أو يصحبني في "مشوار" ما. الجميع يبدو فخورًا بالتغيير الحاصل بمدينته وبكونه شاهداً على ذلك.

اليوم لا تحتاج لأن تكون خبيراً اقتصاديًا لترى أن قطاع الترفيه ينمو بسرعة هائلة في المدينة. فمعظم المحال أو المقاهي مكتظة بالزوار، حتى أنك لتدخل للكثير منها عليك الانتظار في الدور لمدة، وصلت في إحدى المرات خلال زيارتي إلى إحدى المقاهي إلى ساعة ونصف، وهو ما رأيته مبالغة كبيرة في الانتظار لأشرب فنجانًا من القهوة وآكل بعض الحلوى. لكن لأهل الرياض هي ليست مجرد قهوة، هي فرصة للاستمتاع بجلسة جميلة مع الأهل والأصدقاء، وهو أمر لطالما تاقوا إليه. قطاع الترفيه بأنواعه بات متاحًا وسط شهية مفتوحة وكبيرة من السكان الذين ينتمي ثلثيهم لفئة الشباب، معظمهم كان يتمنى وجود خيارات أكثر للترفيه في مدينته. خلال نشأتي في السعودية، كانت فكرة الترفيه في الرياض محصورة في المطاعم ذات الأبواب المنفصلة للعائلات وأخرى للرجال، أو المراكز التجارية (التي يمنع فيها دخول الشبان لوحدهم).

هذا الفصل كان يجبر أخي مثلًا على الخروج مع والدتي إذا أراد الذهاب إلى التسوق، كونه لن يسمح له أي رجل أمن الدخول للمركز التجاري وحده أو مع رفاقه الشبان (تخيل أن يكون خيارك الوحيد للتسوق أن تذهب مع أمك للمول). أما المطاعم فكانت غالبيتها تمتلئ بالجدران المتحركة الفاصلة بين الطاولات في القسم المخصص للعائلات، لتجعلك تشعر وكأنك خرجت من منزلك لتناول الطعام في غرفة صغيرة مغلقة. المقاهي كانت حصراً على الشبان فقط، الأمر الذي طالما شكلّ خيبة أمل لي. كم هم محظوظون من ينشؤون اليوم في الرياض، لو أنهم يعرفون أن تسليتنا كانت تقتصر على الـ بلاي ستيشن وطلب البيتزا من الخارج.

"شارع التحلية" هذا الشارع الذي كان يشكل مركزًا لاجتماع شباب المدينة كل يوم، وكان من شبه المستحيل المرور منه بالنسبة لمعظم الفتيات في الرياض، قد تغير تماماً. المقاهي ذاتها إلا أنها لم تعد مكتظة بالشباب فقط، يوجد سيدات وفتيات وحتى عائلات كاملة. شوارع وأسواق الرياض التي رأيتها اليوم، تسودها طاقة جديدة. أخبرني الجميع أيضًا عن قوانين مكافحة التحرش الجديدة والتي تفرض عقوبات تصل إلى السجن سنتين وغرامة 100 ألف ريال (26.6 ألف دولار) أو بإحدى هاتين العقوبتين، ضد كل من يرتكب جريمة تحرش. ويبدو أن هذه القوانين قد غيرت شكل حضور المرأة في الشوارع وجعلتها أكثر أمنا لها، إلى حد ما.

بالتأكيد هناك الكثير من التغيير لا زال بانتظار الرياض في السنوات القادمة، إلا أن ما يحدث اليوم هو حالة تستحق الملاحظة والتأمل. الرياض التي زرتها اليوم مختلفة تمامًا عن الصورة التي كانت محفورة في مخيلتي عن المدينة التي نشأت بها. أراها اليوم أكثر شبهًا بنفسها، وأكثر تصالحاً مع سكانها.