Vice Infographic Updated
رأي

"القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ" هل لا تزال هذه المقولة صالحة؟

نحن نحتاج إلى نهضة اجتماعية وثقافية شاملة

"القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ." مقولة كثيراً ما كنا نرددها بفخر، كانت المدن العربية تبدو وكأنها تُكمل بعضها البعض. أتذكر الأيام التي كان والدي يصحبنا فيها لزيارة معرض بغداد الدولي للكتاب، كان المعرض يشهد ازدحامًا وتكدسًا كأنه حفلة مجانية لأحد مشاهير الفن، كان ذلك قبل الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ وكانت بقايا من مقولة عميد الأدب العربي طه حسين لا تزال قابلة للتطبيق، عندما كانت القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.

إعلان

المشهد اليوم مختلف تمامًا عن الماضي، لدرجة تبدو معها المقارنة كأن صدمة أصابت عجلة الحركة الثقافية في عالمنا العربي فتوقفت عن الدوران أو بدأت تدور عكسًيا أو تتراجع للخلف. ومع أنه لا توجد إحصائيات دقيقة من مؤسسات معتمدة بالنسبة لأعداد الكتب المكتوبة والمطبوعة المقروءة حسب قاعدة طه حسين، إلا أن هناك تراجع ملحوظ في عدد إصدارات دور النشر العربية من الكتب والمؤلفات الجديدة والجيدة، فضلا عن قلة عدد المناسبات الثقافية والمهرجانات الأدبية المقامة في العواصم العربية.

إضافة إلى كل ذلك، قلة عدد ساعات القراءة السنوية للمواطن العربي مقارنة ببقية شعوب العالم. بحسب تقارير، فأن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويًا بينما لا يتعدى المتوسط العربي 6 دقائق وحسب إحصاءات منظمة اليونسكو، لا يتجاوز متوسط القراءة الحرة للطفل العربي بضع دقائق في السنة، مقابل 12 ألف دقيقة في العالم الغربي- طبعاً هذا لا يعني أن كل ما يقرأه الغربي أو الأوروبي هو ذو قيمة فكرية بالضرورة.

من الصعب الحصول على معلومات حول صناعة الكتاب العربي، بالعادة تقوم الدول بتوفير بيانات حول قطاع النشر فيها، لا ينطبق هذا الأمر على العالم العربي.  بحسب القليل من البيانات المنشورة، فإن العالم العربي الذي يبلغ عدد سكانه 366 مليون نسمة، ينتج ما بين 15،000 و18،000 عنوان جديد بشكل سنويّ، ويتراوح عدد النسخ للكتاب الواحد ما بين ألف وثلاثة آلاف نسخة. بالمقارنة، يعادل عدد الكتب التي تنتجها كل المنطقة العربية الكتب التي تصدر في أوكرانيا (42.22 مليون نسمة) خلال عام واحد.

تنتج الدول العربية 1.1% فقط من معدل الإنتاج العالمي للكتاب، أي يصدر الناشرون العرب سنويا كتابًا واحدًا لكل ربع مليون شخص في العالم العربي، مقابل كتاب لكل خمسة آلاف شخص في الغرب. 

إعلان

لا شك أن هناك تدني في معدلات القراءة في العالم ككل، ولكن العالم العربي حالة خاصة، حيث شهدت المنطقة الكثير من الاضطرابات وتشرّد مئات الآلاف بسبب الحروب، وارتفعت معدلات البطالة والفقر، وتراجع الإقبال على التعليم، هكذا بالإضافة إلى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كـ"فضاء" جديد لنقل وتبادل المعلومات.

إحتلال العراق والحروب بأشكالها المختلفة التي شهدها العالم العربي لاحقًا، غيّرت مسار الحياة وركنت شعوبنا في زاوية ضيقة من الاهتمام في القراءة جعلت هذه المقولة الشهيرة تبدو وكأنها تتحدث عن مدن أخرى لا تشبه مدننا. الأحوال الاقتصادية المضطربة حوّلت المواطن الذي يعيش في بلد منكوب بويلات الحرب لا تسمح له بالتفكير بتطوير الذات والمعرفة والثقافة، ذلك بخلاف ما كانت عليه الحياة الثقافية بدايات ومنتصف القرن الماضي، الذي شهد صحوة ثقافية عربية واسعة ترافقت مع احتفاء شعبي ورسمي واسعين بالأدباء والكتاب حول العالم العربي. كان هناك انتشار واسع للصالونات الأدبية مثل صالون الأدبية اللبنانية مي زيادة في مصر وصالون الجواهري في بغداد وصالون مصطفى بابي الحلبي في سوريا وغيرها الكثير.

في العراق، تحت حكم الرئيس السابق صدام حسين، كان من السهل أن تنتهي بالسجن في حال عُثر على كتاب ديني أو سياسي معك. آه كتاب وليس حزام ناسف أو مخدرات

خلال تلك الفترة، كانت بيروت تطبع، ومصر تكتب وبغداد تقرأ، كانت المجلات الأدبية والدوريات توزع عبر الاشتراكات البريدية لمختلف الدول العربية، وكان من الممتع متابعة المقالات والردود المختلفة والخلافات الحادة بين الكتاب والأدباء حول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ضمن المجلات والصحف، كان ذلك قبل مشاهير السوشيال ميديا، إذ كانت المقالات الثرية بالمعلومات المفيدة وعنصر التشويق والانتظار لحين صدور العدد الجديد من المجلة أو الصحيفة التي تحتوي ردودًا أو مقالات جديدة.

اللوم كل اللوم يقع أولاً على الأنظمة العربية المستبدة التي قامت بالكثير من التضييقات الأمنية والتشديدات على المؤلفين والمفكرين، وتم سجنهم وتهديدهم. في العراق، تحت حكم الرئيس السابق صدام حسين، كان من السهل أن تنتهي بالسجن في حال عُثر على كتاب ديني أو سياسي معك. آه كتاب وليس حزام ناسف أو مخدرات. والأمر يزداد سوء في الوقت الحالي، فهناك اعتقالات ومحاكمات يتعرض لها الصحفيون والكتاب والأدباء في مختلف الدول العربية. في ظل القمع السياسي والثقافي والإجتماعي وارتفاع تكلفة النشر والطباعة، والقرصنة الإلكترونية للكتب، لا يبدو أن صناعة الكتب ستتعافى في هذه المدن، ولكن ربما سيحل محلها مدن أخرى، مدن قاردة علي توفير مساحات من الانفتاح فيما يخص حركة النشر والأمان، والتقبل الشعبي لمختلف الآراء خاصة فيما يتعلق بالأفكار الدينية والأطروحات المتعلقة بالسياسة الخارجية، أو الكتابات التي تتناول الحرية الجنسية والمثلية والمرأة.

ببساطة، نحن نحتاج إلى نهضة اجتماعية وثقافية شاملة تبدأ بالمنصات الإعلامية والحكومات أولًا، لدعم الكتاب والأدباء ودور النشر، وإعادة إحياء وتعزيز دور الثقافة والمعرفة، وزيادة الدعم المادي للجوائز الأدبية، ورفع الرقابة المشددة عن المؤلفات وتعزيز الفكر النقدي والمختلف. هذه أمور أساسية لا بد منها لإعادة إحياء النهضة الثقافية العربية، وحتى ذلك الحين، فإن القراءة تبقى مسؤولية فردية في المقام الأول، خاصة في ظل توفر وتعدد وسائل القراءة مع التقدم التكنولوجي.

حسناً، لنترك الهاتف المتحرك قليلاً، ونقوم بإعداد مشروب دافئ، ونبدأ بقراءة كتاب لم نستطع إيجاد الوقت لقراءته، هذا ما أدعوكم جميعا لفعله مباشرة، كما سأفعل الآن.