Vice Illustration - 6 May 2021 - Alexandra Helou
صحة نفسية

هذه المبادرة تدعم المتابعة النفسية في الوطن العربي عن بعد وبأقل كلفة ممكنة

نحن نعيش في بقعة تتجاهل الصحة النفسية للفرد ولا توليها القدر الكافي من الاهتمام

"هل أنا بخير؟" متى كانت آخر مرة توقفتم فيها لوهلة وطرحتم هذا السؤال على أنفسكم؟ بعد مرور سنة صعبة علينا، كثيرون منا لا يشعرون أنهم بخير. وكثيرون لا يستطيعون الوصول إلى طبيب أو جهة تساعدهم في التعامل مع ما يجري في دواخلهم ويبحثون كل يوم عن سبب جديد للاستمرار.

”لطالما كنت أظهر كإنسانة قوية وشامخة، لكن مع بداية سنة ٢٠١٩ بدأت أحس بالضياع وأصبحت أبتعد عن عائلتي وأصدقائي وبدأت بطرح العديد من الأسئلة المرتبطة بهويتي كشخص. فعندما تعطي الانطباع بأنك مستقلة وقادرة على الوقوف في وجه المشاكل كيفما كانت، فإن الناس يعتادون على هذه الصورة ويرون أنه من غير اللائق لك إظهار ضعفك. مع بداية هذا العام، أصبحت أكثر وعيًا بالوصمة التي ترافق كل من يجرؤ على الحديث عن مشاعره. حتى المتابعة النفسية في منطقتنا العربية هي شكل من أشكال العيب التي لا يجب الحديث عنها أو حتى التفكير بها،" تحكي لي ديان فرح، ٣٤ عامًا، لبنانية - كندية ومؤسسة مبادرة Ask Me How I’m Really Doing - اسألني كيف حالي فعلًا. 

إعلان

Ask Me How I’m Really Doing هي منصة عربية تُعنى بفتح باب الحوار أمام كل من يبحث عن فضاء آمن لمشاركة مشاعره والحديث عن همومه بدون أحكام أو وصوم. تقول ديان: "بنيت هذه المبادرة على العديد من الأسس، أهمها تشجيع الحديث عن الصحة النفسية وفتح باب الحوار بين الناس في المنطقة العربية لفتح قلوبهم والتحدث عمّا يخالج وجدانهم من مشاعر وأحاسيس في إطار يسمح لهم بالوصول إلى أعمق نقطة في كيانهم والتمكن من النمو كأفراد داخل جماعة تحترم نفسيتهم."

فكرت ديان بإنشاء المشروع في أغسطس من السنة الماضية، مباشرة عقب انفجار مرفأ بيروت، حيث لاحظت تجاهلًا مخيفًا تجاه الصحة النفسية في الوطن العربي عمومًا ولبنان خصوصًا: "كان لبنان يعاني الأمرين بين جائحة كورونا الخانقة والأزمة الاقتصادية والمشاكل السياسية، وفوق كل هذا حدث الانفجار وأخذ معه كل ما تبقى من قوة لتجاوز هذه المحن. بحكم أنني لبنانية الأصل، العديد من أصدقائي وأفراد عائلتي تأذوا من هذا الانفجار جسديًا ومعنويًا. كانت نفسية كل اللبنانيين محطمة وتبحث عن من يلملم شتاتها تلك الفترة. طبعًا لم يكن لدى البلد حينئذ المساعدات المتوفرة الآن لمساعدة الناس على تجاوز محنهم النفسية."

إعلان

تقول ديان أنها شعرت "وكأن يداها مكبلتان ولا تقوى على فعل أي شيء للمساعدة" وخاصة أنها كانت بعيدة عن أحبائها بسبب غلق الحدود ضمن الإجراءات الاحترازية لفيروس كورونا. كانت فكرة إنشاء مشروع يهتم بالصحة النفسية في الوطن العربي تدور في ذهن ديان منذ سنوات، لكن شكلت أحداث بيروت النقطة المحورية التي جعلتها تتخذ خطوات عملية لتأسيس هذه المبادرة مع بعض الأصدقاء.

"لبنان ليس البلد الوحيد الذي كان بحاجة إلى نظام قوي ومتكامل يهتم بصحة سكانه النفسية، بل جميع الدول العربية تعاني من خصاص شديد في هذا القطاع. نحن نعيش في بقعة تتجاهل الصحة النفسية للفرد ولا توليها القدر الكافي من الاهتمام، وهذا في نظري مشكل يعيق تقدمنا على جميع الأصعدة،" تشير ديان التي يأتي مشروعها ضمن مبادرات ضرورية تتزامن مع شهر مايو للتوعية بالصحة النفسية.

الأرقام في الواقع مفزعة، يبلغ عدد الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية في العالم ما يقارب المليار، منهم ٧٥٪ لا يتلقون أي علاج في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل. ويعد الاكتئاب والقلق من أكثر المشاكل النفسية انتشارًا في العالم. أما على الصعيد العربي، فإن مصر تحتل الصدارة في حالات الانتحار التي بلغت ٣٧٩٩ حالة عام ٢٠١٦، متبوعة بالسودان ثم اليمن. أما في لبنان، فقد ساهمت الأوضاع الاقتصادية المتأزمة في البلد إلى ارتفاع حالات الانتحار بنسبة ٣٦٪ بين سنتي ٢٠١٦ و٢٠١٨، وقد تسبب انفجار بيروت برفع حدة الأزمات والاضطرابات النفسية لـ٨٦٪ من الأشخاص الذين توافدوا على مراكز "أطباء بلا حدود" بعد أغسطس من السنة الماضية.  

إعلان

أطلقت ديان مبادرة Ask Me How I’m Really Doing بمساعدة شخصين آخرين. ومنذ ذلك الحين بدأ أعضاء الفريق الذين تطوعوا للمساعدة في الارتفاع يومًا بعد يوم، بين صانعي محتوى وخبراء واستشاريين وأطباء. وعن التحديات التي واجهتها في البدايات، تخبرني دايان: "لقد تطلب الأمر العديد من التضحيات من طرفي ومن طرف الأشخاص الذين يعملون على هذا المشروع. في بادئ الأمر، كان عليّ استخدام جميع مهارات الإقناع التي لدي من أجل إيجاد متطوعين للعمل معي بدون مقابل مادي وشركاء يقبلون إعطاء المشورة الطبية بسعر أقل مما يتقاضونه عادة. كنت أعمل ليل نهار وفي وقتي الخاص حتى أستطيع تأمين أخصائيين نفسيين مستعدين للمساهمة بوقتهم وخبرتهم. لقد كان البحث عن أشخاص أكفاء وفي نفس الوقت يشاطرونني نفس درجة الاهتمام بهذا الموضوع واحدًا من أصعب الأمور التي واجهتها قبل أن يرى المشروع الضوء."

وتعتبر وصمة العيب التي يلصقها المجتمع العربي بكل من يجرؤ على كسر قواعده وزيارة أحد المعالجين النفسيين واحدة من أهم المعيقات التي تحول دون الحديث عن الأمراض النفسية والإفصاح عنها. فحسب استطلاع رأي جيل الشباب ٢٠١٩ فإن أقل من نصف المجيبين عن الاستطلاع فقط من أكدوا استعدادهم للبحث عن مساعدة نفسية إذا أحسوا بأي اضطرابات سيكولوجية. وبحسب ذات التقرير، يرى نصف الشباب العرب المتراوحة أعمارهم بين ١٨ و٢٤ سنة، أن المنطقة لا تزال تعاني من هالة التابو التي ترافق الحديث عن الصحة النفسية. 

وهذا ما أكدته لي ديان: "من أكبر العقبات التي يواجهها المشروع هي إقناع الناس بالتسجيل والبدء بحصص العلاج النفسي، لأن الأمر يتطلب قدرًا هائلًا من الشجاعة والقوة لكسر هذا الحاجز الذي بناه مجتمعنا. نحن واعون بهذه المشكلة ونحاول جاهدين العمل على تجاوزها من خلال محاولة فتح أبواب الحوار على مواقع التواصل الاجتماعي." هذه المبادرة مفتوحة في وجه جميع الشرائح العمرية من جميع أنحاء الوطن العربي، لكن تشير الأرقام الأولية على مواقع التواصل الاجتماعي، أن أغلب متابعي المشروع هم الأشخاص المتراوحة أعمارهم بين ٢٥ و٣٤ عامًا.

إعلان

يحاول المشروع تأمين حصص متابعة نفسية مع أطباء أخصائيين بأثمنة رمزية لتسهيل الولوج إلى العلاج النفسي وتعميمه على جميع الطبقات الاجتماعية. تتراوح أثمنة الحصص بين ٩٠ درهمًا إماراتيًا (٢٥ دولارًا) و٢٥٥ درهمًا إماراتيًا (٧٠ دولارًا) وهو الحد الذي تحرص المبادرة على عدم تجاوزه من أجل إبقاء الكلفة قليلة خصوصًا إذا كان الشخص ينوي القيام بأكثر من حصة.

جميع الحصص تتم حاليًا بطريقة رقمية عن بعد، وهو ما يسمح بالوصول إلى أكبر شريحة من الناس. هناك استثناءات في لبنان، حيث هناك إمكانية الحضور شخصيًا إلى بعض الحصص العلاجية بسبب الأوضاع المالية في البلد، حيث أن أغلب اللبنانيين الآن لا يُسمح لهم بالدفع عبر الانترنت. "صراحة، لقد ساعدتنا أزمة كورونا في تطبيع الحصص عن بعد. لقد أصبحت الآن المحادثات الإلكترونية والاجتماعات الافتراضية أمرًا عاديًا، وهو ما سهل علينا كسر حاجز الخوف من التحدث افتراضيًا مع شخص لا نعرفه بالضرورة،" تشير ديان: "خطوة صغيرة واحدة يمكنها أن تصنع المعجزات، خصوصًا في ظل مجتمع يضع وصمته على كل من تجرأ على البحث عن المساعدة النفسية."

نجحت ديان وفريقها في توقيع شراكات مع ثلاث منصات عربية مرموقة تهتم بالصحة النفسية في المنطقة، وهي تكلم و برايت شيفت وكونسلا وتطمح الآن إلى توسيع رقعة خدماتهم لتضم خبراء آخرين من خلفيات وجنسيات عربية مختلفة ويسعون إلى ضم معالجين وشركاء إضافيين إلى المشروع.

"ما أسعى إليه هو تعميم العلاج النفسي وتسهيل الولوج إليه للجميع. الاهتمام بالصحة النفسية لا يجب أن يكون مرتبطًا بالطبقة النخبوية التي تستطيع تأمين ثمن العلاج النفسي. جميعنا نعاني من مشاكل صحية وجميعنا لنا الحق في التمتع بمتابعة نفسية، فكما نذهب إلى الطبيب إذا أحسسنا بألم في جسدنا، علينا الذهاب إلى معالج مختص إذا دعت الضرورة لذلك. الأشخاص السعداء يصنعون مجتمعات سعيدة."

فريق Ask Me How I’m Really Doing يقوم حاليًا بسد نفقات المشروع على حسابه الخاص. هدفهم القادم هو إنشاء نموذج لمؤسسة اجتماعية تدر الدخل المادي على المبادرة من أجل خلق مورد مالي ثابت لضمان استدامة المشروع.

يمكنكم زيارة موقع المنصة هنا