مرأة

وفاة نوال السعداوي: بين عقاب إلهي، شفاعة نسوية وخذلان سياسي

"الناس الي عارفة مين هيدخل الجنة ومين داخل النار أرجوكم ممكن متحرقولناش الأحداث"
نوال السعداوي

نوال السعداوي. 

لا يلبث أن يموت المرء حتى تنهال جملة من الأحكام عليه، جيد، سيء، كافر، مؤمن، في الجنة، في النار… اعتدنا على تصنيف البشر دون الانتباه إلى أننا بهذا نتعدى على الحكم الإلهي الذي لا يعرفه سواه، وإن كان من الطبيعي إثارة هذه المسألة فور وفاة أي شخص عادي فما بالكم بعد رحيل شخصية كثيراً ما وصفت بالجدلية، ألا وهي الكاتبة الكبيرة نوال السعداوي، التي توفيت يوم الأحد عن عمر يناهز 90 عاماً. 

تقول السعداوي في كتاب لها: "قائمة الموتى، كلمتان مفزعتان، كانتا تجريان على ألسنة الناس في السنين الأخيرة، هناك قوى مجهولة تتحدث بلسان الله وتمسك في يدها الرشاشات والقنابل تطارد أي انسان يكتب شيئًا يختلف عما يقولون تحكم عليه بالكفر أو الردة عن الإسلام تضع اسمه في قائمة الموتى، وتنفذ الحكم بالرصاص ثم تهرب." وكأنها في نصها هذا، تيقن جيدًا الاختلاف الذي سينشب فور مغادرتها، وكيف لا،  وهي ذات فهم عميق وإدراك واسع للعقلية العربية أسيرة العادات والتقاليد. 

إعلان

من هي نوال السعداوي؟
ولدت السعداوي في قرية كفر طحلة عام 1931، وهي الثانية من بين تسعة أطفال، وكتبت روايتها الأولى عن عمر يناهز 13 عامًا. كانت الكاتبة غزيرة الإنتاج، فقد انتجت حوالي ٥٠ كتاباً وترجمت أعمالها لعدة لغات. وتعتبر نوال ناشطة نسوية رائدة أحدثت ثورة في المناقشات حول النوع الاجتماعي في المجتمعات المحافظة بشدة، ولعل ذلك يرجع إلى خلافها مع التقاليد منذ صغرها. عندما كانت طفلة حاولت جدتها تزويجها في سن العاشرة رغم إعرابها عن عدم رغبتها بذلك، فما كان أمامها من خيار إلا أن تأكل الباذنجان النيئ لتغير لون أسنانها. وعلى الرغم من تشجيع والديها للتعليم، إلا أنها أدركت في سن مبكرة أن الإناث أقل قيمة من الذكور، فكانت جدتها دائمة الترديد لجملة بقيت محفورة في ذاكرتها "الصبي يساوي 15 فتاة على الأقل ... الفتيات آفة."

في كتابها الوجه الخفي لحواء وصفت خضوعها في سن السادسة للختان المؤلم على أرضية الحمام، مما لعب دورًا في قيامها بحملة ضد تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية (الختان) طوال حياتها، واعتبرتها أداة تستخدم لقمع النساء، وحتى بعدما تم حظر تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية في مصر عام 2008، استمرت السعداوي بإدانة استمرار انتشاره.

إعلان

تخرجت السعداوي بدرجة البكالوريوس في الطب من جامعة القاهرة عام 1955 وعملت كطبيبة، وتخصصت في الطب النفسي، ثم شغلت منصب مديرة الصحة العامة في الحكومة المصرية، لكنها أُقيلت في عام 1972 بعد نشر كتابها "المرأة والجنس" الذي انتقد ختان الإناث والقمع الجنسي للمرأة، بالإضافة إلى إغلاق مجلتها عام 1973. إلا أن هذا كله لم يوقفها عن التحدث أو الكتابة، ففي عام 1975، نشرت رواية "امرأة عند نقطة الصفر" وهي رواية تستند إلى قصة واقعية لامرأة محكوم عليها بالإعدام كانت قد التقت بها وتعتبر من أهم رواياتها وأكثرها تأثيراً. في سبتمبر 1981، تم القبض على السعداوي كجزء من اعتقال المعارضين في عهد الرئيس أنور السادات واحتجزت في السجن لمدة ثلاثة أشهر، قامت خلالها بكتابة مذكراتها على ورق التواليت، مستخدمة قلم حواجب تم تهريبه لها.

بعد اغتيال الرئيس السادات، تم أطلق سراحها، لكن عملها تعرض للرقابة وتم حظر كتبها، وفي السنوات التي تلت ذلك، تلقت تهديدات بالقتل من الأصوليين الدينيين، وتم خضوعها للمحاكمة، وفي النهاية تم نفيها إلى الولايات المتحدة. لم تتوقف السعداوي عن توجيه هجماتها، انتقدت الحجاب وطالبت بحظر النقاب واعتبرت أنه "لا يعبر عن الأخلاق" وأكدت في الوقت ذاته على موقفها الرافض للملابس الكاشفة والماكياج ومحاولة تسليع المرأة. عادت السعداوي إلى بلدها عام 1996 وترشحت كمرشحة رئاسية في انتخابات 2004 وشاركت في ثورة يناير ضد الرئيس حسني مبارك.

إعلان

كانت السعداوي ضد حكم الإخوان المسلمين، بعد ثورة يناير عام ٢٠١١،  ولا ينسى أحد حديثها بأنها "رأت هيلاي كلينتون شخصيًا في ميدان التحرير، توزع الدولارات.. دولارات أمريكية لشباب صغير في السن، كي ينتخبوا الأخوان المسلمين." وأيدت لاحقاً نظام عبد الفتاح السيسي، حيث قالت  في مقابلة لها مع بي بي سي "أنها تراه أفضل بمليون مرة من كل من السادات ومبارك،" وحينما سألتها المذيعة عن السبب أجابت "أنا أحكم على نفسي، قبل ثورة 2011 تحت حكم السادات ومبارك كنت ممنوعة من الكتابة، بعيش في المنفى داخل مصر وخارجها، دلوقتي أنا بكتب بالأهرام."

هذه المقابلات تسببت بهجوم واسع وصدمة كبيرة، فاعتبرها الكثيرون أنها شخصية متناقضة تؤيد حكم مستبد بينما كانت طيلة مسيرتها تنادي بالعدالة والمساواة، حيث يعد السيسي مسؤولًا عن واحدة من أبرز الانتهاكات ضد المرأة في قضية "الكشوف العذرية" والتي أجرى من خلالها الضباط كشف تناسلي لفتيات معتقلات بميدان التحرير عام 2011 دون إذن قضائي أو حتى إشراف طبي، وقد برر فعلته هذه بأنه اضطر إلى ذلك كي لا يقال أن الجيش تعدى على عرض الفتيات، بالإضافة إلى الكثير من الانتهاكات الأخرى.

إعلان

نوال السعداوي بين محب وكاره ومع وضد
شهدت وفاة السعداوي جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وانقسم المتابعون بين من اعتبرها من الكاتبات النسويات الأكثر تأثيراً في العالم العربي وأنها تصدت بشجاعة للمجتمع الذكوري التقليدي، وبين من اعتبر موتها "عقاب إلهي" ولا يجوز الترحم عليها وغيرها من التعليقات الشامتة التي تسابقت بإصدار أحكام متعلقة بمصيرها الأخروي، وحتى وصل الأمر لتنظيم غرف نقاش على كلوب هاوس عن "هل يجوز الترحم على السعداوي" وأخرى عن "هل تابعت غرفة هل يجوز الترحم على نوال السعداوي،" كما تشير حنان في تغريدة.

نشرت الممثلة المصرية رانيا يوسف عبر صفحتها على تويتر تغريدة قائلًة: "الناس الي عارفة مين هيدخل الجنة ومين داخل النار أرجوكم ممكن متحرقولناش الأحداث." وعلقت أيضًا الصحافية اللبنانية ليال حداد عبر تويتر:"حاملي مفاتيح الجنة، وزعوا اليوم بطاقات الدخول ولا بعد؟" وفيما رأى الداعية محمد علي أن "موت الملحدين عبادة" هاجمه الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر قائلًا: "إذا كانت الشماتة في الموت عبادة، فالعبادة دي تخصك أنت متخصش ربنا."

إعلان

واستفزت هذه الأحكام المسبقة الناقد الإعلامي باسم يوسف حيث كتب عبر صفحته على فيسبوك: "كالعادة يموت واحد او واحدة وتنصب الافراح لموتهم عشان ده عقاب إلهي، أو يمرضون فيفرح المؤمنون لان ده انتقام إلهي. زي ما بتحصل حرايق أو زلازل في بلاد "الكفر" فيأخذها المؤمنون علامة أن الله يسخر جنوده ضد اعداء الاسلام، وكأن أهل الإسلام مخلدون لا يمرضون ولا يموتون لا يتعذبون، وكأن بلاد المسلمين لا يصيبها زلازل ولا اوبئة و لا مصائب... لكن طبعا الجمباز العقلي كفيل انه يخليك تشوف ده عقاب، بس ده ابتلاء، سوبر ماركت فتاوى وتبريرات جاهزة لكل شئ."

الدكتور محمد الباز، رئيس مجلسي إدارة وتحرير جريدة "الدستور" اعتبر أن "الله يحب الكاتبة نوال السعداوي لأنها توفيت في اليوم الذي أصدر فيه مجلس الشيوخ قانون بتغليظ عقوبة ختان الإناث،" موضحًا أن ختان الإناث من القضايا التي تصدت لها نوال السعداوي بقوة خلال مسيرتها- وتضمن القانون عقوبة السجن المشدد إذا كان من أجرى الختان طبيبًا أو مُزاولًا لمهنة التمريض.

وتحدثت كثيرات عن دور السعداوي في تشكيل وعيهن، وقالت الرسامة روند: "نوال السعداوي بتضل هي أول شخص أثّر عليي بكتبو، وخلاني اتمرد ع كتير اشيا بحياتي من عمر صغير، حتى لو ما كانت السوبر هيرو اللي أنا كان بدي ياه، بس كانت محرّضة أولى ومهمة بحياتي." واعتبرت الكاتبة أمل الحارثي أن الأيام ستثبت أن فكر السعداوي لن يموت وغردت باقتباس للكاتبة المصرية "جريمتي الكبرى، أنني امرأة حرّة في زمن لا يريدون فيه إلا الجواري والعبيد، ولدت بعقل يفكر في زمن يحاولون فيه إلغاء العقل. ستثبت الأيام أن فكر نوال السعداوي لن يموت."

إعلان

واعتبرت رشا أنه "لولا نوال السعداوي كان استمر ختان النساء في مصر وخارجها وزواج القاصرات والانجاب العشوائي وتحجيب النساء بالأكراه. استطاعت تغير قوانين الأحوال الشخصية المستمدة بالكامل من الفقه.. تأثير هذا التغير امتد لدساتير وقوانين دول ثانية تقتبس تشتريعاتها من مصر." فيما قالت سوزان أن "السعداوي غيرت افكار الكثير ولها تأثير كبير على النساء وكيف يتمردون ويكسرون القالب الذي يريد المجتمع الذكوري وضعهم به… لذلك الكثير يكرهونها لانها قللت من شأنهم ومن سلطتهم وكشفت ايضاً بعد موتهم زيف شعاراتهم الدينية."

لا نوال ولا غيرها فوق النقد، ومواقفها لا تُبرر

في الجانب الآخر، لم يستطع البعض تجاوز خبر رحيلها دون ذكر موقفها السياسي المؤيد لنظام السيسي، ففي عدة تغريدات عبر تويتر قالت النسوية الفلسطينية فداء الزعانين: "ما فينا نمر عن مواقف نوال السعداوي السياسية مرور الكرام وحتى مواقف أُخرى غير تأييد حُكم العسكر في مصر وكل ما جلبه هذا الحكم من ويلات على نساء مصر والأقليات الجندرية.. إذا بدنا نحكي فقط من هالمنظور، ما فينا نعبر عنه وكأنه شيء هامشي. شو النسوية غير أداة تغيير، سياسية اجتماعية."

وأضافت "صحيح، نوال قدمت الكثير، وساهمت مساهمات عظيمة غيرت حياة نساء كثيرات وشكلت جزء من وعيهن وذاكرتهن، وحرضتهن على الانتفاض على الأبوية، لكن لا نوال ولا غيرها فوق النقد، ومواقفها لا تُبرر.. هي إختارت الإصطفاف مع مؤسسة عسكرية قمعية بتستخدم السلطة الدينية لتثبيت سلطتها وقمع الشعب، مؤسسة عسكرية يمنية محافظة بتعمل كشوف عذرية، بتحبس وتعذب الأقليات الجندرية، بتسن قوانين تمييزية بتشوف النساء ناقصات الأهلية وأغلبها من الشريعة."

إعلان

كما اعتبر عبد الرحمن عياش في بوست طويل على فيسبوك أن "نوال السعداوي الله يرحمها كانت مجرمة.. أن موقفها السياسي مش نقاش هامشي، وأنها دعمت السيسي بكل طاقتها رغم/بعد كشوف العذرية، وهي الرؤية المضادة تماماً للي نوال عاشت تقول أنها بتدافع عنه." وأضاف: "لم تكن صادقة مع اللي كانت بتدعو له ولم تكن متسقة مع ما كتبته عن الحرية."

وهناك من كان أكثر حيادية، واعتبر أن تاريخ السعداوي أكثر تأثيراً من اختصاره بموقفها السياسي، واعتبرت سيدة القطط التي تصف نفسها بنسوية غاضبة، أن الخلاف حول موقف السعداوي سياسياً لا يقلل من دورها النسوي: "لا نختلف بكل تأكيد حول تأييدها الديكتاتورية لكن مستحيل ننكر تأثيرها الواسع على النسوية العربية و يكفيها نضالها ضد تشويه الأعضاء التناسلية للإناث." وقالت بسمة الحسيني، "أن السعداوي شخصية حسب التعبير الإنجليزي "مثيرة للجدل" ورغم إن معنديش احترام ولا تقبل لمواقفها السياسية، ولا أنا من المعجبين جداً بكتاباتها، بس يحسب لها شجاعتها وسبقها إلى نسف ثوابت اجتماعية متخلفة.  كل المجتمعات بتحتاج للنوع ده من مشعلي الحرائق.  ربنا يرحمها."

أنا بنت الله وتفكيري حر

فيما قال الكاتب والروائي شادي لويس بطرس في بوست آخر أنه على الرغم من وجود عشرات الأسباب لانتقاد السعداوي وأن مواقفها السياسية كانت "مخجلة جداً لو ما كنتش عار مصفي" ولكن في المقابل، هناك عدد كبير "من الستات والرجالة اللي تغيرت حياتهم بالكامل أو أخذوا قرارات مصيرية ونظرتهم للعالم وشعورهم بقيمتهم تحولت بشكل جوهري واتقبلت رأساً على عقب.. بسبب نوال كشخص وكسيرة وكنص… وهذه حالة استثنائية بالفعل وانجاز فيه الكثير من البطولة." 

واعتبر الكاتب اللبناني وسام سعادة، أن نقد السعداوي واختيار التركيز على مواقفها السياسية لا يخلو من انتقائية ذكورية: "ولو كيف ما برمتها، بس اقرا امرأة ضد نوال السعداوي، شو ما كانت فكرتها، بحس بوجهة نظرها. المنطلق، القلق، الموقف، يللي عم تستند عليه. وبس اقرا "ذكر" ضد السعداوي بموتتها بحسو، بمعظم الحالات، ميزوجين لا راح ولا اجا. انو مش علينا يا مان، ما كلنا بنعرف وقت بدنا نكون ميزوجين كيف بنقعد نأدلجها للقصة."

لا خلاف على تأثير السعداوي الطويل والحقيقي وهذا ما تؤكد عليه النقاشات الدائرة حالياً، وهي نقاشات صحية وضرورية ومهمة لتكسير القوالب الجاهزة والمثالية عند الحديث عن شخصيات عامة أياً كانت.

"أنا بنت الله وتفكيري حر" هذه التغريدة التي انتشرت على حساب السعداوي قبل إعلان وفاتها، قد تؤكد بالنهاية بأنها فخورة بنفسها وبما قدمته، وأن رأينا فيها "آخر همها."