VICE ILLUSTRATION
صحة نفسية

ماذا يحدث في عقل شخص يعيش مع اضطراب تبدد الشخصية

"أنا لست حقيقية" الأمر يُشبه أنني أجلس في مؤخرة رأسي فعلًا وأشاهد نفسي والعالم من بعيد

أشعر وكأنني مراقب خارجي لأفكاري ومشاعري وأجزاء من جسمي، كما لو كنت أطفو في الهواء فوق نفسي. أشعر وكأنني أراقب حياتي من خلال لوح زجاجي أو ضباب كثيف. أرى حياتي منفصلة عني، وكأنني أشاهد فيلماً، وما يحدث ليس لي علاقة بي. أشعر بأنني إنسان آلي، غير قادر على التحكم تماماً في كلامي وحركاتي. أشعر  بخدر عاطفي أو جسدي وتبدو أطرافي مشوهة.

هذه هي بعض المشاعر التي يصفها الأشخاص الذين يعانون من اضطراب تبدد الشخصية أو الاغتراب عن الواقع. كثير منا قد مر بهذه المشاعر في وقت من حياته حيث يشعرون بالانفصال أو الاغتراب عن كل ما حولهم. ولكن بالنسبة لمن يعيشون مع هذا الاضطراب، تستمر هذه المشاعر في الحدوث باستمرار أو لا تختفي أبداً.

إعلان

اضطراب الآنية، اغتراب الواقع، تبدد الشخصية، Depersonalization Disorder كلها أسماء لاضطراب واحد، يتم شمله بالعادة تحت حالات الانفصام والتي تنطوي على اضطرابات أو انهيار في الوعي، الإدراك والذاكرة. الفرق بين تبدد الشخصية والاضطرابات الذهانية هو الوعي. يعرف الأشخاص المصابون باضطراب تبدد الشخصية أن مشاعر الانفصال ليست حقيقية، فيما يعتقد الأشخاص المصابون باضطراب ذهاني psychotic disorder أن مشاعرهم حقيقة.

تتسبب النوبات المستمرة والمتكررة من تبدد الشخصية أو الاغتراب عن الواقع أو كليهما في الضيق ومشاكل في الأداء في العمل أو المدرسة أو في مجالات أخرى. خلال هذه  النوبات تدرك أن إحساسك بالانفصال هو مجرد شعور وليس حقيقة. قد ينظر البعض إلى المرآة ولا يمكنهم التعرف على انعكاس صورتهم. يشعر البعض أن حواسهم مخدرة ومفقودة، وقد يرون أطرافهم متضخمة أو منكمشة. "يشعر الآخرون أن ذكرياتهم ليست ذكرياتهم  أو يشعرون بعدم المشاعر تجاهه هذه الذكريات. يرى بعض الأشخاص الأشياء من حولهم ضبابية وتصبح تصورات الوقت والمسافة غير واضحة أو غير مستقرة."

وحسب عيادة مايو كلينيك الأمريكية فإن السبب الدقيق لاضطراب تبدد الشخصية والغربة عن الواقع غير مفهوم جيدًا. قد يكون بعض الأشخاص أكثر عرضة من غيرهم لتجربة تبدد الشخصية والغربة عن الواقع، ربما بسبب عوامل وراثية وبيئية، وقد ترتبط أعراض اضطراب الاغتراب عن الواقع وتبدد الشخصية بصدمة الطفولة أو تجارب أو أحداث أخرى تسبب ضغطًا عاطفيًا شديدًا أو صدمة.

إعلان

 شيرين أحمد، 33 عامًا، حاصلة على بكالوريوس تجارة وأم لطفلين، تم تشخيصها بـ اضطراب تبدد الشخصية منذ أكثر من ثلاث سنوات، بعد معاناتها مع الاكتئاب نتيجة لوفاة والدها المرتبطة به كثيرًا. حدثتني شيرين عن حياتها مع هذا الاضطراب.

البداية
بدأ الأمر معي في عام 2018 بعد فترة من وفاة والدي، كنت أعاني من آلام شديدة ومتفرقة أشعر بها في كل جسدي وكأنني تعرضت لضرب شديد، بعد كشوفات متكررة شخصني الأطباء أن ما لدي سببه نفسي وليس عضوي -لأن كل شيء عضوي في جسدي سليم. وهنا بدأت رحلتي مع الأطباء النفسيين. كنت أعاني من وسواس انتحار قوي واكتئاب حاد جدًا، ووصف لي طبيبي أدوية وعلاجات مضادة للاكتئاب خففت فعلًا من وسواس الانتحار وقليلًا من الاكتئاب ولكن بمرور الوقت تم تشخيصي باضطراب الآنية أو تبدد الشخصية في ٢٠١٩.

 أشعر أنني مثل الكمبيوتر الذي يُغلق فجأة
قد استيقظ أحياناً من النوم ولا أعرف أين أنا؟ لا أعرف إذا كنت أنا مستيقظة أم نائمة؟ أقرص يدي، أحاول شد شعري وأغمض عيناي لأشعر بجسدي، لأنني قد أكون نائمة ولا أعرف إن كنت مستيقظة أم لا، فأنا على السرير وعيناي مغلقتين ولكني أفكر وأعي بكل شيء ولا أستطيع تحديد إذا كنت مستيقظة أم لا؟ أشعر أحياناً وكأنني داخل زجاجة أرى الأشياء ولكني لا أشعر بها فعليًا، كأنني أشاهدها ولست جزءًا منها. في تلك النوبات أشعر أفقد أي إحساس صريح أو مباشر بالواقع الذي أعيشه، وكأن الحياة فقدت لونها وصخبها تماماً.

من الممكن أن أتحدث معك وفجأة أفصل، وأشعر بأن من يتحدث معي غير حقيقي أو ربما أشك في المحادثة التي بيننا وأشعر وكأنها لم تحدث. في بعض الأيام، أشعر أنني مثل الكمبيوتر الذي يُغلق فجأة. في الأيام الصعبة، أفكر في الانتحار، لأنني لا أرى أن هناك فرق سيحدث، فأنا لا أشعر بأنني على قيد الحياة أصلًا.

إعلان

جافة وخالية من أي مشاعر
قبل المرض كُنت شخص مرح مقبل على الحياة، لا أحب السكون أو الصمت وأتحرك كثيرًا واتفاعل مع الجميع، أفرح كثيرًا للتفاصيل السعيدة التي تحدث لي، ويمكنني أن أنهار من الألم إن سمعت أخبارًا مؤلمة. الآن، لا أخرج من البيت لمدة شهور، ولا أرغب في الاحتكاك بالعالم الخارجي أبدًا لأنني أجد صعوبة في تصديقه. 

من الممكن أن أكون سعيدة جدًا مثلًا، وبعد دقيقة حرفيًا أشعر بلا مبالاة كبيرة. لدي طفلين، طفلي الثاني لم أشعر بفرحة ولادته أو الخطوة الأولى، أو الكلمة الأولى، أشعر بأنني جافة وخالية من أي مشاعر. مؤخراً، علمت أن أحد الصديقات العزيزة علي أُصيبت بكورونا وهي مريضة جداً ويمكن أن أفقدها، تأثرت لبضع دقائق ثم نسيت الموضوع، كأن شيئًا لم يكن، في السابق كان من الممكن أن أنهار وأبكي كثيرًا. من الصعب التركيز في العمل كذلك، إن حاولت أن ألتحق بأي وظيفة لا أشعر بالرغبة بالنجاح والشعور بالتقدم عوضًا عن المسؤولية. 

الفرق بين الاكتئاب وتبدد الشخصية
تم تشخيصي باكتئاب حاد ملازم له وسواس انتحار، وإن حاولت أن أوصف الفرق بين ذلك وبين اضطراب تبدد الشخصية، يمكنني القول أنني في الاكتئاب أقضي اليوم كله في البكاء والحزن وليس لدي رغبة في فعل أي شيء، بالإضافة إلى وجود الوسواس الذي يمكنني ترجمته على أن هناك شيئًا في عقلي يقنعني بالانتحار طوال الوقت -هذا الوسواس لا يلازم كل مصابي الاكتئاب.

 أما اضطراب تبدد الشخصية فيمكن تلخيصه في جملة واحدة "أنا لست حقيقية" الأمر يُشبه أنني أجلس في مؤخرة رأسي فعلًا وأشاهد نفسي والعالم من بعيد، أشعر كأنني لا أشارك فيما يحدث أو أنتمي إليه، كالمراقب الذي يرى الأشياء عن بُعد. بعض الأطباء يفسرون اضطراب تبدد الشخصية على أنه عرض من أعراض الاكتئاب يلازم المكتئب فترة أقصاها سنة ويمضي، ولكن تجربتي أثبتت عكس ذلك فأنا مصابة منذ أكثر من أربعة سنوات.

إعلان

أنسى بسرعة
كل المواقف لدي متساوية لا أشعر لا بالفرح الشديد أو الحزن الشديد. في محيطي المحدود الذي أتعامل معه قلة يعرفون طبيعة مرضي، منهم زوجي الذي لا يعترف من الأساس بفكرة المرض النفسي وكذلك أهلي، وذلك يشكل عبئًا بالطبع. أفكر كثيرًا في الطلاق، ولكني أتراجع عن أخذ الفكرة بجدية بسبب أولادي ورعايتهما. لا أحمل أي مشاعر كراهية أو سعادة تجاه زوجي، ولكن تربطني مشاعر حب كبيرة لأولادي وخوف عليهم من أن أؤذي نفسي وأكون غير موجودة في حياتهما. 

ولكن ربما الأمر الجيد للعيش مع هذا الاضطراب، هو أنني أنسى بسرعة، حتى في حال حدوث شجار كبير، أنسى ما حدث مباشرة، وهذا مرتبط بطبيعة الاضطراب، وانفصالي عن الأفكار والعواطف، لذلك قد لا أتعرف على هذه الذكريات على أنها ذكرياتي وقد تبدو تفاصيلها غائمة أو ضبابية.

رحلتي مع العلاج
خلال رحلتي المرضية، تواصلت مع الكثير من الأطباء، وكان هناك الكثير من النظريات. البعض يركز على معالجة الاكتئاب، باعتباره مشكلة أكبر من الاضطراب نفسه. لا يوجد دواء لاضطراب تبدد الشخصية. لكن الأدوية التي تستخدم في علاج الاكتئاب أو القلق يمكن أن تساعد. وهناك العلاج السلوكي المعرفي الذي يركز على تغيير أنماط التفكير والمشاعر والسلوكيات. وقد يساعد العلاج بالفن أو الموسيقى وتقنيات التأمل والاسترخاء في تهدئة ردود أفعال جسدك. وفي بعض الأحيان، يختفي الاضطراب من تلقاء نفسه.

واحدة من الأطباء نصحني بتجاهل ما أشعر به وأن أتعامل مع مشاعر الانفصال عن الواقع وكأنها جزء طبيعي من شخصيتي. وأخبرني آخر أن كل ما يتم معالجتي به من أدوية لا تفيد ولست بحاجة لها. من ضمن العلاجات السلوكية التي اتبعتها محاولة إعادة التركيز على تفاصيل عامة بعيداً عن ما يجري في داخلي، مثل شغل نفسي بمتابعة مسلسل، أو النظر على الحائط أو الاستماع للموسيقى والحل الأفضل دوماً هو النوم.