مصوّر إماراتيّ يسافر عبر الزمن

تصوير: حامد دوراني

FYI.

This story is over 5 years old.

صور

مصوّر إماراتيّ يسافر عبر الزمن

لا أرغب بإحتكار القصص، بل أريد مشاركتها مع الناس لأنّها ذاكرة تستحقّ الانتشار

يهمّ عمّار العطار بترتيب صناديق صغيرة ومغلّفات ورقيّة مكدسّة على مكتبه، إلى جانب أشرطة كاسيت موسيقيّة لفنّانين خليجيّين قدامى منهم طلال مدّاح وأبو بكر سالم. على مقربة منها، مجموعة من كاميراته الفيلميّة (analog) التي تتعقّب لحظات وُلدَت في الماضي وما تبقّى منها في الحاضر. يتردّد المصوّر الإماراتيّ عمّار العطّار (35 عاماً) إلى الاستديو الخاص به في "مبنى المقتنيات" التابع لمؤسّسة الشارقة للفنون، في رحلته اليوميّة بين مكان سكنه في عجمان ومحلّ عمله في دبي حيث يكرّس قدر ما استطاع من وقت فراغه لمتابعة مشروعه التصويريّ الحاليّ "عكس الزمن" الذي بدأت فكرته منذ عامين.

إعلان

"عكس الزمن" (2014 - مستمرّ) هو مشروع بحثيّ يوثّق تاريخ المصوّرين الأقدم عهدًا في دولة الإمارات. انطلق العطّار الذي يميل لفنّ "تصوير الشارع" في رحلة استكشافيّة يزور فيها الاستديوهات القديمة باحثًا عن مؤسّسيها وسيرهم الذاتيّة وأرشيفهم الفوتوغرافيّ. يحاور العطّار المصوّرين أو أبناءهم ليتعرّف إلى ذكرياتهم مع مهنة التصوير، وقصص الأشخاص والأماكن التي وثّقتها عدساتهم. كما يجمع ما تبقّى لديهم من نيجاتيف غير مفهرس وشرائح وصور كي يمسحها ويرقمنها ويضيفها إلى أرشيف "عكس الزمن" الرقميّ.

تسمية المشروع لا تأتي فقط من الرحلة "العكسيّة" التي يقوم بها العطّار في نبش ذاكرة المصوّرين، لكنّها أيضًا تعبّر عن طبيعة العمل. فبحسب العطّار "عكس" (reverse) كانت الكلمة المتعارفة للدلالة على الصور و"العكّاس" كان المصوّر. يعتقد العطّار أنّ الكلمة نُقلت من إيران لأنّ "عكس" هو المصطلح الفارسيّ لكلمة "صورة" وقد يكون مردّ ذلك لتقنيّة آلات التصوير القديمة التي كانت تحفظ الصور بشكل "معاكس" أو مقلوب عن الطبيعة. يقول العطّار أنّه استوحى فكرة مشروعه من عمل المخرج والمصوّر اللبنانيّ أكرم زعتري، الذي قدّم في فيلمه الوثائقيّ "ثمانية وعشرون ليلاً وبيت من الشعر" (2014) المصوّر هاشم المدني، مؤسّس "استديو شهرزاد" في الخمسينيّات في مدينة صيدا اللبنانيّة، لكنّ الدافع الأساسيّ في "عكس الزمن" هو فضول العطّار للتعرّف على تاريخ مهنة التصوير في دولة الإمارات، خاصّة وأنّه ليس هناك مرجع يوثّق تطوّر الفنّ الفوتوغرافي في بلده.

رجل ينظر إلى عملية بناء نفق الشندغة في دبي الذي يربط بين جانبي دبي تحت نفق الخور الذي تم إنشاؤه في عام 1974 (تصوير: سيدة بريطانية مجهولة الهوية)

تعرّف العطّار حتّى اليوم إلى حوالي 20 استديو، بعضها تأسّس على يد مصوّرين من الهند وباكستان وإيران والإمارات في ستينيّات القرن الماضي، أي قبل قيام الاتّحاد (2 ديسمبر 1971)، الذي ساهم في طفرة صناعة الصورة. يشعر العطّار أحيانًا أنّ بحثه "بدأ متأخّرًا" لأنّ بعض المصوّرين قد توفّوا أو عادوا إلى بلادههم بعد أن أغلقوا استديوهاتهم مثل عبد الله البستكي الذي عاد إلى إيران، خاصّة وأنّ مهنة التصوير بدأت بالإندثار بشكلها السابق مع توفّر الكاميرات الرقميّة والهواتف الذكيّة للعامّة. يجد العطّار متعة في أحاديثه الطويلة مع المصوّرين، فبالإضافة إلى رواياتهم الشخصيّة، يسألهم عن أنواع الكاميرات والأفلام التي كانوا يستخدمونها، ومصدرها، وعمليّة تحميض الصور السالبة، والصعوبات التي كانت تواجههم.

إعلان

في ما يلي أبرز المصوّرين الذين التقاهم عمّار في رحلته عبر الزمن حتّى اليوم:

رجل من شرطة الشارقة يجلس لأخذ صورته في استوديو هيلمن في الثمانينات (تصوير: بريم رانتام)

عبد الله مراد / الاتّحاد للأفلام الملوّنة / UCF: United Color Film
يقول العطّار أنّ عبد الله مراد هو "نقطة تحوّل في صناعة الأفلام والتصوير" في الإمارات. درس مراد في أوروبا وعاد إلى الإمارات في بداية السبعينيات ليجد أنّ المصوّرين في الإمارات كانوا يرسلون نيجاتيف الأفلام إلى لندن أو لبنان للتحميض، فينتظرون أشهرًا ليحصلوا على الصور مطبوعة، وقد لا يحصلون عليها أحيانًا. وعليه، قرر مراد أن يفتتح أوّل مختبر محليّ لمعالجة الألوان في إمارة عجمان. واجه صعوبات كثيرة، أهمّها ندرة المياه المحلّاة المستخدمة في عمليّة التحميض، فاستقدم شركة أميركيّة مدّته بجهاز لتحلية المياه داخل المختبر.

لم يؤمن أحد بمشروع مراد آنذاك، فوجد صعوبة في التمويل لأنّ التصوير لم يكن مهنة "جديّة" فاستلف من صديقه في السعوديّة، كما سخر آخرون من اختياره لعجمان مقرًّا لأنّها منطقة نائية بالنسبة للكثيرين، لكن ما ميّز خدماته أنّه كان يظهّر صورًا ملوّنة خلال 24 ساعة فقط، بعد أن كان الأمر يتطلّب شهرًا على الأقلّ. وخلال سنتين، تطوّر مشروعه، وذاع صيته في الخليج بفضل جودة الطباعة وتصحيح الألوان. راح يتعامل معه أصحاب الاستديوهات، وأصبح فيما بعد وكيلًا معتمدًا لشركة "كوداك". يقول العطّار أنّ مراد كان "نقلة نوعيّة" في مجال التصوير في الإمارات، لأنّه "غيّر مفهوم التصوير، وشجّع الكثيرين كي يبدأوا التصوير بجديّة،" وقد وصل إلى درجة من الحرفيّة فراح يصنع شرائط الأفلام بنفسه. وكان لمراد تأثيرًا ثقافيًّا واسعًا، فهو من مؤسّسي راديو وتلفزيون عجمان واستديوهات عجمان حيث صوّرت مسلسلات مصريّة وغيرها.

إعلان

اسمه محمد الدخان كان واحدا من الزوار المنتظمين لاستوديو هيلمن وكان يطلب من بريم دائما طباعة صوره ووضعها في الاستوديو، الصورة تعود لعام 1980 (تصوير: بريم رانتام)

بريم راتنام / استديو هيملن / الشارقة
بريم هو أكثر المصوّرين تعاونًا مع مشروع "عكس الزمن" وأكثرهم "شغفًا" بحسب تعبير العطّار. وقد عرض أرشيفه في الشارقة وأبوظبي، ويحضّر لمعرض في برلين بالتعاون مع مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون. بريم مصوّر هندي من كيرالا، جاء إلى الإمارات عام 1971، كان اختصاصه في مجال النفط، لكنّه عمل مع عمّه في استديو في أبوظبي، ثمّ تعاون مع يونايتد كولور فيلم وافتتح الاستديو الخاص به في الشارقة "هيملن استديو" في عام 1982. لم يكن بريم مصوّرًا عاديًّا، بل "فنّانًا" كما يقول العطّار: "كان لديه نظرة فنيّة واضحة، نراها حتّى في الصور الشمسيّة. كما كان مطّلعًا على آخر مستجدّات عالم التصوير، عبر المجلّات السياحيّة التي يشتريها من الخارج."

احتفظ بريم بما استطاع من أرشيفه، وكان منفتحًا على المشروع، فشارك أرشيفه مع العطّار، وهو بالإضافة إلى الصور الشخصيّة داخل الاستديو، يملك صورًا لمناظر طبيعيّة في الإمارات وقد وثّق معالم أبوظبي القديمة. لكنّه خسر شيئًا من الأرشيف بسبب ضيق مساحة التخزين وكثرة التنقّل. يقول العطّار إنّ قلّة الوعي هي إحدى المشاكل التي اكتشفها في بحثه: "أهمل بعض المصوّرين أو من كان يعمل لديهم توثيق قيمة الصور القديمة، فهم لا يعون الكنز الحقيقي للأرشيف فتخلّصوا منه مع الأسف."

واحدة من أولى الصور التي تم أخذها في استوديو هيملن، ويظهر بريم في أقصى اليمين يرافقه عدد من السكان المحليين، الصورة تعود لعام 1982 (تصوير: بريم رانتام)

مجهولة / بريطانيا
حصل عمّار على مجموعة بريطانيّة من الصور عبر الإنترنت، تزن 4 كيلوغرام، ولا يعرف حتّى اليوم اسم صاحبها أو صاحبتها. يظنّ العطّار أنّ المجموعة تعود إلى سيّدة بريطانيّة أتت إلى الإمارات مع زوجها بين 1972-1976. خمّن أنّها كانت تعمل في مجال الطب أو التمريض، من كثرة الصور داخل مستشفى كانت تصوّره باستمرار. وتأكّد من هويّتها الأنثويّة من إحدى الصور التي دوّنت عليها "self" أي "الذات." التفاصيل المكتوبة على الصور والشرائح ساعدت عمّار في تقفّي القصّة خارج الإطارات، فالمجموعة تتضمّن أيضًا صورًا من الأردن والسعوديّة من الستينيّات وحتّى صورًا من فلسطين لقبّة الصخرة تعود للخمسينيّات. كما أرّخت تلك المصوّرة مجهولة الهويّة مراحل بناء نفق الشندغة في دبي والخور وغيرها. وحصل العطّار على مجموعة أخرى لمصوّر بريطانيّ آخر، أتى إلى الإمارات عن طريق عُمان مع شركة بناء بريطانيّة. لديه صورة مع الملكة إليزابيث في زيارتها للإمارات لافتتاح بعض المشاريع منها برج راشد الذي صمّمه البريطانيّ جون هارس.

إعلان

الكنيسة القديمة في دبي، الصورة اخذت في أوائل السبعينات (تصوير: سيدة بريطانية مجهولة الهوية)

يصف العطّار "عكس الزمن" بـ"مشروع العمر"، لأنّه يتّبع مساقًا مختلفًا عن أعماله السابقة نذكر منها المصلّيات (2012) ومياه السبيل (2013) والصلاة (2015). يقول العطّار أنّ ما يميّز أعماله البصريّة هو "التمعّن في الموضوع أكثر من تقنيّة التصوير." القاسم المشترك بين أعماله السابقة هو الموضوع الإسلاميّ الذي يعرضه العطّار بأسلوب غير نموذجي، فهو يتعمّد طرح تساؤلات حول المعهود أو المُسلَّمات على الناظر العربي أو المسلم، ويحاول كسر الصور النمطيّة عن الثقافة الإسلاميّة بالنسبة للناظر الغربي. أمّا حلقة الوصل بين تلك المواضيع و"عكس الزمن" فهي الطابع الحميميّ للصورة وارتباط العطّار عاطفيًّا بالموضوع.

يتعدّى المشروع من كونه فوتوغرافيًّا، بل يدخل في العمل الإثنوغرافيّ أو التأريخيّ، وهو أمر لم يتوقّعه العطّار في البداية. يؤمن العطّار أنّ تأثير كلّ من الشخصيّات أعلاه يعكس التاريخ الاجتماعيّ لدولة الإمارات وعلاقتها بجيرانها وبالأخصّ الهند والبحرين وإيران وباكستان، فالتبادل التجاريّ الذي كان أساس العلاقة، مهّد لتبادل ثقافيّ وثيق ما زالت معالمه واضحة في الثقافة الإماراتيّة.

يتمنّى العطّار افتتاح مؤسّسة تعنى بحفظ الإرث الثقافي الفوتوغرافيّ الإماراتي والخليجي: "فالتاريخ المصوّر أكثر صدقًا وتخليدًا للحظة، بعكس التاريخ المدوّن الذي يسهل التلاعب به." وهو ينوي مشاركة ما جمعه في "عكس الزمن" في قاعدة بيانات إلكترونيّة مفتوحة للمهتمّين:"لا أرغب باحتكار القصص، بل أريد مشاركتها مع الناس لأنّها ذاكرة تستحقّ الانتشار."

صورة من حفل زفاف في السبعينات (تصوير: سيدة بريطانية مجهولة الهوية)

منطقة تنظيف الأسماك في سوق السمك في دبي (تصوير: سيدة بريطانية مجهولة الهوية)

بعض الرجال في مقهى قديم، الصورة من السبعينات (تصوير: سيدة بريطانية مجهولة الهوية)