رأي

هل النيوزيلنديين شعب طيب ونحن أشرار؟.. نعم!

البشر نتاج الظرف والبيئة لا الديانة أو اللون أو الجنسية.. والتسامح والعفو والكرم لا علاقة لهم بتعاليم الإسلام أو المسيحية أو أي ديانة
التسامح

pixabay

"أفضل شيء هو العفو والكرم والحب والتعاطف والتصرف بشكل إيجابي." هذه هي كلمات فريد أحمد، زوج حُسنة أحمد التي قتلت في هجوم كرايست تشيرش بنيوزيلندا. أثناء الهجوم على مسجد كرايست تشيرش، قامت حُسنة أحمد بإنقاذ الأطفال ثم النساء، أخرجتهم من المسجد ثم عادت لتُخرج زوجها القعيد، ثم عادت بعدها مرة أخرى لموقع الحادث للتأكد من أن جميع الأطفال والنساء قد خرجوا حسبما أخبرت زوجها مؤكدة أنها ستعود له على الفور. لكنها لم تعد.

إعلان

علم فريد أن زوجته قتلت أثناء قيامها بعملية الإنقاذ، ثم كما رأينا من ردة الفعل النيوزيلندية بدءًا من رئيسة الوزراء وحتى المواطن العادي. ثم حضر الرجل (فريد) جنازة زوجته وسأله أحد المذيعين: ماذا تقول للقاتل؟ فأجاب:"أقول له بأنني أحبه كشخص، أقول له أنه أمامه فرصة كبيرة ليكون شخص كريم وطيب، يساعد الناس بدلا من أن يدمر حياتهم، وأتمنى له أن يتصرف بشكل إيجابي، أنا أصلي من أجله، ولا أحمل له أي ضغينة."

يبدو أن تصرف فريد أحمد، كمهاجر ينتمي إلى أقلية مسلمة في بلاد غربية، ليس بمستغرب أو استثنائي. فهناك حادث شهير لمهاجر ماليزي في الولايات المتحدة، سامح قاتل ابنه واحتضنه في المحكمة، وهناك المرأة التي تكفلت بتعليم وتحسين ظروف قاتل ابنها الذي قتله بغرض السرقة، وغيرها من الحوادث الشهيرة.

يتصرف هؤلاء المهاجرون المسلمون بهذا القدر من التسامح، ويعلقون على تصرفهم بإن هذه هي تعاليم الإسلام الحقيقية. طبعا أنا وأنتم نعرف حاجات تانية، نحن هنا في هذه البقعة من العالم نتحدث عن الإعدام في ميدان عام، والقصاص، والسخرية من "الحكوكيين" الذين يطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام، تلك السخرية التي تصل إلى حد الاتهام بالكفر، وإقران هذه المطالبة بفتح باب الحرية الجنسية ونشر "الشذوذ" وتدمير المجتمع وحروب الجيل الرابع وموضوع كبير كده، وعادة أيضًا ما يعلق أنصار عقوبة الإعدام، والتعزير، والتعذيب، وجدع الأنوف، وتقليع العينين، بأن هذه هي تعاليم الإسلام.

وما بين تصرفات بعض الأقليات المسلمة في العالم الغربي، التي تحاول أن تحافظ على وجودها ومصالحها، وبين أغلبية في عالم ثالث تعاني من رهاب المؤامرة والغضب من سوء الأحوال المقترن بالخوف واليأس والمؤدي بالضرورة إلى الشعور بإن الله يعاقبنا على ذنوبنا وتخلينا عن دينه، احتارت "تعاليم الإسلام"، هل هي سمحة ولا مش سمحة؟

إعلان

إذن عودة بنا إلى المقارنة التي تمت، رغمًا عنا، بين سلوك الحكومة والأغلبية في نيوزيلندا عقب الهجوم، وبين سلوك الحكومة والأغلبية في بلادنا عقب كل هجوم يحدث على الكنائس، وردة فعل أهالي الضحايا. الحقيقة أنه لا فارق كبير، ظاهريًا، بين ردة فعل الأقلية المسيحية في مصر مثلا، وبين ردة فعل الأقلية المسلمة في نيوزيلندا. كلاهمها ينطلق من مبدأ التسامح، إلا أنك من الصعب أن تجد مسيحيًا مصريًا يحتضن الإرهابي في المحكمة، أو يطالب بوقف إعدامه، أو حتى من غير أهالي الضحايا من المسيحيين. هذا مسلك فوق طاقة المقيمين هنا في هذه البقعة الحزينة من العالم. إلا أن الأقلية المسيحية في مصر عادة ما تقول بأنها: تصلي من أجل الإرهابي، لإن هذه هي تعاليم المسيح.

وبمناسبة تعاليم المسيح، فقد تحول إيراني إلى الديانة المسيحية وطلب اللجوء إلى بريطانيا، معللاً طلبه بأن المسيحية ديانة تسامح وسلام، فأجابته السفارة البريطانية بأن المسيحية لا ديانة تسامح ولا سلام ولا حاجة، وذيلت ردها بآيات من الكتاب المقدس، ثم رفضت طلبه للجوء على أساس يعني"إذا كنت جاي لنا عشان مسيحيين فاحنا مش مسيحيين، وإذا كنت جاي عشان المسيحية ديانة سلام فهي مش ديانة سلام ولم ورقك وامشي من هنا."

هنا يجدر بنا توضيح أن ربط المجموعات البشرية وسلوكها وتقاليدها وفهمها للحياة، بما في ذلك المعتقدات، بديانة أو جنسية أو لون، هو أغبى شيء يقترفه الإنسان قاطبة.. البشر هم نتاج الظرف والبيئة، لا الديانة أو اللون أو الجنسية، والتسامح والعفو والكرم، لا علاقة لها بتعاليم الإسلام أو المسيحية أو البوذية أو اليهودية أو البهائية أو أي ديانة كانت، كما أن التطرف والغضب والرغبة في الانتقام ليس لهم علاقة بتلك الأديان المذكورة وغير المذكورة، أنت تفهم النص من واقع تكوينك الفكري الناشئ عن بيئتك. فثقافة الأقلية تقرب المجموعات البشرية أكثر من الديانات والجنسيات واللون والعرق، والعدالة أو الظلم يخلقان سلوكاً لدى بني البشر متشابه إلى حد كبير، والتعاطف أو الوصم يضفون على الإنسان صفات مشتركة.

إعلان

فريد وحُسنة، ينتميان إلى أقلية في مجتمع تعلو فيه قيمة القانون وتحترم فيه قيمة الإنسانية وتعتبر فيه قيمة المساواة ديانة مقدسة في حد ذاتها لا مجال لمناقشتها، إذن، فمن الطبيعي أن تتصرف حُسنة، رحمها الله، بشهامة دون أن تفكر في أنها أثنى، وأن النساء عليهن الاختباء والاختفاء، وأن عملية الإنقاذ هذه "شغلانة الرجالة"، لأنها مواطن في مجتمع يساوي بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. كما أن فريد أحمد، سواء سامح الجاني أم لم يسامحه، هو يعلم تمام العلم أنه سيلقى عقابه، ويعلم أنه لا مكان للصلح العرفي، ويعلم أنه لا يوصم بالإرهاب لمجرد أنه مسلم، ويعلم أنه مقبول اجتماعيًا، ويريد أن يصبح مقبولًا أكثر، وهو محاط بحب وتعاطف وتضامن وضمان أن الجاني سيحاكم محاكمة عادلة. كل ذلك، إلى جانب شعوره بأنه منتم إلى أقلية يرغب في تحسين صورتها، ساعده على أن يكون إنسانًا أفضل، أكثر تسامحًا، مكتف بما أصابه من حزن، فلا يزيد على نفسه إيذاء الغل والغضب والحقد والرغبة في الانتقام.

هو ليس في صراع مع المجتمع الذي يشترك معه في مصلحة واحدة، وهي محاربة تنامي الاتجاه اليمني فيه، ولا يشعر بمؤامرة تحاك ضده، لم يقل أحد بأن زوجته لا يجوز الترحم عليها لإنها ستدخل النار، لا يشعر بكذب عبارات التضامن، كما أنه شخص حر، يستطيع أن يقول ما يشاء وقتما يشاء أينما شاء، ويستطيع أن يبني مسجدًا له في كل شارع دون أن يشعر بالخطر أو الاحتقار، ويستطيع أن يصلي في بيته مع أصدقائه دون أن يخرج "المؤمنون" من صلاة الأحد لإشعال النار فيه. اطمئن للعدالة فأصبح متسامحًا.

على الجانب الآخر، نحن نعيش هنا في مجتمعات لا داعي للإسهاب في وصفها، أنا عارفة، وأنت عارف، وأنا عارفة إن انت عارف، وأنت عارف أن أنا عارفة أن أنت عارف، وكلها عارفة بعضيها. هناك أغلبية بائسة، تعاني من قهر، وظلم، وفقر، وجهل، وتخلف، وإسكات، وتريد أن تشعر بإن لها قيمة ما، ولو عن طريق ممارسة القمع والقهر على من هو أضعف، أو أقل عددًا. وهناك أقلية تشعر بالخطر الدائم، تمر عليها الأعياد تحت ضغط وتوتر وخوف من انتهاء اليوم بمذبحة، لا تشعر بتضامن حقيقي عقب كل هجوم، بل تشعر بأن الأغلبية تتضامن "من ورا قلبها" حفاظًا على سمعتها، أو على استقرار البلاد، والدليل، أن هذه الأغلبية، وفي خضم هذا التضامن، عادة ما تتجنب "الترحم" على الضحايا، أو وصفهم بالشهداء، لإنهم طبعا كفار وحيروحوا النار زي ما كلنا عارفين.

أرسلت هذه الأغلبية قد ضحايا الأقلية إلى جحيم السماء في خيالها لإنها لا تملك إخراج نفسها من الجحيم الذي تعيشه على الأرض، فلم تجد سوى من هو أقل منها عددًا لتمارس عليهم ما يمارس عليها، وحاجة كده آخر أمراض نفسية؛ إلا أن هذه الأقلية، شأنها شأن كل الأقليات في العالم، تخشى على نفسها الفناء، وتريد الحفاظ على وجودها، مما يدفعها إلى تبني موقف متسامح "من ورا قلبها برضه" لإن في هذا الموقف لا مجال للتسامح، لا ثقة في المحاسبة، لا إيمان بالعدالة، لا محيط محب أو متعاطف، لا إنسانية، لا مساواة، فمن أين يأتي التسامح القلبي الحقيقي؟

من واقع هذه الأمراض النفسية المذكورة آنفًا تأتي المطالبات بالإعدامات في ميدان عام، والسخرية من "الحكوكيين" والتشفي، والشماتة، والكراهية، والغضب، والرغبة في الانتقام. قال لي أحد الأصدقاء: "النيوزيلنديين شعب طيب." فأجبته: وهم عايزين يعيشوا العيشة دي وما يبقوش طيبين ليه؟ ما عندهمش إحساس؟ وأنت عايزنا نعيش العيشة دي وما نبقاش أشرار ليه؟ ما عندناش دم؟!