رأي

وفاة مرسي.. تساؤلات حول الكراهية والسياسة والأخلاق

ثنائية الشهادة والخلود/ الخيانة والهلاك تتعاظم في ظروف مثل التي نعيشها في منطقتنا العربية

"سُئلت أيضاً عن الخوف من ذوي البشرة البيضاء. أعلم أن الناس توقعوا مني أن أصب جم غضبي على البِيِض. إلا أنني لم أحمل أي ضغينة تجاههم. في سجني، غضبي تجاه البِيِض تقلص، بينما كراهيتي للنظام تصاعدت. أردتُ أن ترى جنوب أفريقيا أنني أحببتُ حتى أعدائي بينما كرهتُ النظام الذي جعلنا ضد بعضنا البعض." من كتاب السيرة الذاتية لنيلسون مانديلا النسخة الإنجليزية

رحل الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي منذ ساعات لعالم آخر، وهنا علت الأصوات لتصنع له صراطاً يمر عليه إما للجنة شهيدًا أو للنار إرهابياً جاسوسـًا. رحيل يكشف عن عورات وندوب غائرة في ثقافتنا الشعبية تجاه تعاملها مع الموت. فكلما رحلت إحدى الشخصيات العامة دار نفس الجدل حول دخوله الجنة أو النار وكأن كلُ منا صار قاضياً يحكم في أمر يعلمه يقينـًا.. نفس الثقافة الدائرية، لا تجدد نفسها.

إعلان

اللحظة التي يتوقف فيها الزمن عندما يموت أحدنا، يتوقف العقل وتظهر الأحاسيس تجاه هذا الشخص سواء بالحب أو الكراهية. حالة التسامي الأخلاقي تجاه هيبة الموت واحترامه لا تنطبق على الجميع. فإن اقتنع بعضنا بعبارة (لا شماتة في الموت)، فهناك آخرون لا يدركون معناها أو قيمتها. وعليه، تلح التساؤلات في الأذهان.. هل يمكن لشخص أن يتسامح ولا يشمت في مقتل من قتل والده مثلًا؟ هل يمكن أن تتسامح عائلة مرسي مثلًا مع السلطات المصرية حال موت أحد رجالها، بعد أن تسببوا في تدهور الحالة الصحية لمحمد مرسي مما أدى لوفاته (حسب روايتهم)؟ هل يمكن أن يتسامح أهل أحد ضحايا مذبحة محاكمة بورسعيد في 2013 مع وفاة مرسي ويطلب له الرحمة؟

ثنائية الشهادة والخلود/ الخيانة والهلاك تتعاظم في ظروف مثل التي نعيشها في منطقتنا العربية من فقر وقمع سياسي وجهل وكراهية. كراهية تصنعها النظم الحاكمة التي تتغذى فتحيا على الانقسام والتشرذم. الانقسام العميق الذي حدث بعد 3 يوليو 2013 وكانت نتائجه واضحة للقاصي والداني، قد خفتت بعد ذلك بمرور السنوات أو بمعنى أدق كُمِمت. واليوم يظهر الانقسام مرة أخرى وكأنه بعث جديد لما حدث في 2013 لكن انقسام اليوم بعد وفاة مرسي، ظاهره الرحمة وباطنه الكراهية.

وفاة محمد مرسي بعد أن وقع مغشياً عليه في المحكمة أدى إلى موجة واسعة من التعاطف والحث على عدم الشماتة. التقارير التي صدرت منذ عامين من خلال منظمة هيومان رايتس ووتش - المحجوب موقعها الإلكتروني في مصر- أشارت إلى تدهور حالة الرئيس الأسبق محمد مرسي وذلك في تصريح جو ستورك، نائب مدير المنظمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الذي قال فيه إن "السلطات المصرية انتهكت حقوق الرئيس الأسبق محمد مرسي، وربما تتدخل في مسألة تلقيه العلاج الملائم[…]علاج مرسي يمثل نافذة للظروف البشعة التي يعاني منها آلاف المعتقلين السياسيين في مصر."

إعلان

من يرسم تصوراتنا عن العدو؟ هل نكرههم لأنهم أضرونا بشكل شخصي؟ أم نكرههم لأن الدولة التي نعيش فيها قالت لنا أنهم الأعداء؟

تنص جميع المواثيق الدولية على أن التعامل الإنساني مع من هم خاضعين لسلطة تأديبية، حق السجين في الرعاية الصحية لا يختلف عن حق أسرى الحروب في التعامل الإنساني المنصوص عليه في اتفاقية جنيف، فقد وضعت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة شروطاً واضحة فيما يتعلق بذلك، فنصت على توفير الخدمات الطبية لكل سجين، ووجوب توفير سجون متخصصة لمن يحتاجون عناية متخصصة أو نقلهم لمستشفيات مدنية. كما حَظَرت قواعد الحياة في السجون العقوبة الجسدية أو الوضع في زنزانة حظرًا كليًا. كما انطبق الحظر على العقوبة التي قد تلحق الأذى الجسدي أو العقلي بالسجين، وأن دور طبيب السجن مطالبة مدير السجن بوقف مثل هذه الممارسات. ويبدو أن كل السطور السابقة اعتبرتُ هباءً منثورًا في مصر تجاه الحالة الصحية للرئيس الراحل، الذي كان محتجزاً في السجن الانفرادي بصورة دائمة. الإهمال الطبي لعب دورًا في وفاة الرجل، وحاله لا يختلف كثيرًا عن آلاف المعتقلين السياسيين الذين وصل عددهم إلى 60 ألف معتقل أو يزيد حسب تقارير منظمة هيومان رايتس ووتش. هل فكر أحدنا في شعور ذوي المعتقلين بعد سماعهم خبر وفاة مرسي؟

الشماتة في الموت مبعثها الكراهية التي تجعلنا نبرر الحياة الطويلة التي يعيشها من نكرههم أنها عذاب وابتلاء في الدنيا، وموتهم بالتأكيد سيكون مرحلة جديدة من العذاب. تخيلوا مثلًا أن تعلن الأخبار في يوم ما عن موت جورج بوش الابن؟ ماذا سيقول الناس في وطننا العربي عن الرجل الذي مات؟ الكراهية التي تقلصت لدى نيلسون مانديلا تجاه أصحاب البشرة البيضاء توجهت لكيان آخر، النظام الحاكم في البلاد. تساؤلات جديدة هنا: هل نوجه كراهيتنا من الأشخاص إلى النظم الحاكمة التي تقمعنا؟ وما النظم الحاكمة؟ أليست أشخاصاً يحكمون؟ كيف نتعامل مع موت من نكرههم؟ مع موت أعدائنا؟ ومن يرسم تصوراتنا عن العدو؟ هل نكرههم لأنهم أضرونا بشكل شخصي؟ أم نكرههم لأن الدولة التي نعيش فيها قالت لنا أنهم الأعداء؟ هل نترحم على من سودوا حياتنا ونشروا الفقر والفساد والجهل؟ هل نترحم على مَن كانوا سبباً مباشرًا في قتل أشقائنا واعتقالهم؟

أتذكر عندما قتل الأمريكيون صدام حسين في صباح أول أيام عيد الأضحي عام 2006.. تحول ذلك العيد لمأتم .. بكاه العرب.. لعنوا أمريكا وشنقها رجل مسلم يوم عيده. وحتى اليوم مازال العرب منشقين حول صدام، أكان ديكتاتورًا قاتلًا أم كان زعيماً وطنياً؟ المعضلة التاريخية في العالم العربي أن السياسي والديني متشابكان ومشتبكان. فالتعامل مع الميت على المستوى السياسي يتداخل مع الدين بشكل مربك ومخيف. إذ ندعو له بالرحمة وفي نفس الوقت نلعن أيام حكمه. بعيداً عن عدم طريقة التعامل معه في السجن، فإن محمد مرسي لم يكن رئيسـًا منتخباً لمصر لمدة عام فقط، بل كان نتاج تفاعلات سياسية وتاريخية ممتدة منذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين عام 1928. كان نتاج صراعات على الحكم وكرسيه، صراعات باسم الدين ورفع راية الحق والعدل، لكن مَن انتصر فيها؟

موته ليس انتصارًا لخصومه السياسيين، فشماتتهم اليوم قد تنقلب عليهم يوم تأتيهم لحظة الموت التي لا مفر منها

موت مرسي يأتي في توقيت يعيش المصريون أثناءه غلاء معتاد في الأسعار ومعدل فقر وصل لـ 27.8٪ وفق تقارير رسمية، أي حوالي ربع سكان مصر فقراء. غلاء الأسعار من المتوقع أن يرتفع في ظل تكهنات بزيادة أسعار المحروقات خلال الأيام القادمة. كذلك تنظيم بطولة أمم أفريقيا لكرة القدم، مما يعني وجود حالة من الاستنفار الأمني الشديد خاصة مع ازدياد نسبة السياح خلال الأسابيع التالية. هذا السياق يأتي في ظل وجود قطاع كبير من المصريين انتخب مرسي منذ 7 سنوات ومازال لدى كثير منه الأمل في عودته للسلطة مرة أخرى. الكل يتساءل حالياً، إن كان هذا الأمل الضائع سيتحول لرد فعل عنيف على الأرض بسبب موت رئيسهم الشرعي؟ وإن حدث هذا، هل ستتعامل الدولة بهوادة معهم؟

الأمر أكبر من موت شخص بعينه. الأمر يتعلق بمدى رؤيتنا للعالم من خلال هذا الشخص أثناء حياته وكيف نرى العالم بعد موته. موت مرسي لن يضعه في منزلة الشهداء والصديقين مهما كتب مُحبوه، فنحن لا نعلم ماذا يحدث معه في العالم الآخر. كذلك موته ليس انتصارًا لخصومه السياسيين، فشماتتهم اليوم قد تنقلب عليهم يوم تأتيهم لحظة الموت التي لا مفر منها. الموت لحظة تنكشف فيها مدى قدرتنا على العودة للنقطة الأولى في تعاملنا مع الآخرين.. مدى استطاعتنا أن نكون أكثر تسامحاً أو نرفض الأمر كله. الموت ليس إلا مرآة للميلاد، لكن الفارق أن الميلاد صفحته بيضاء.