أربعة أعوام مرّت على تشخيصي باضطراب القلق المزمن. أربعة أعوام ولا أذكر كم عام قبلها وأنا لا أعلم بتعايشي مع هذا الاضطراب. لكني أعلم جيدًا أنه استوحش بهذه الأعوام. بدأت رحلتي مع الأدوية بالخوف حتى خفّ بالتدريج. من واقع خبرتي الشخصية، سأوضّح بعض الأمور التي ت/يختبرها المتعايشون/ات مع اضطرابات القلق المزمن.
تعايش وليس إصابة أو حرب
كمتعايشات/ين مع اضطرابات عقلية، نفضّل استخدام كلمة "تعايش" بدلًا من "إصابة" و"حرب." فالإصابة تحدث نتيجة لشيء ما، أو استجابة لمُسبب واحد، بينما الاضطرابات العقلية تراكمية، ولا تتطوّر نتيجة لحدث أو مُسبب واحد. قد يكون هناك مسببات رئيسية، لكنها معًا تُشكّل هذا التراكم، جنبًا إلى جنب مع أمور أخرى تملأ الفراغات بين كل مُسبب وآخر. ليتطور الاضطراب إلى شيء أكثر تعقيدًا وتكتلًا من "الإصابة بشيء ما."
أما كلمة "حرب" فهي كلمة غير حساسة للحالة الذهنية لمن يعيش مع هذا القلق. فالإشارة إلى الاضطرابات العقلية كأنها حرب، يجعل من عقولنا وأجسامنا ساحة لهذه الحرب، ويدفعنا للتفكير في الفوز أو الخسارة. في حين أن أغلب الاضطرابات العقلية مزمنة، ولا مجال للفوز عليها، فإن بعض المتعايشين/ات مع الاضطرابات لا يتحملون شعور الهزيمة أمامها، فقد يقبلون على إنهاء حيواتهم/ن، أو يفقدون ثقتهم في القدرة على "هزيمة" الاضطراب. أما كلمة "تعايش" فهي أكثر الكلمات حساسية حتى الآن تجاه وصف الأشخاص الذين يعانون من الاضطرابات العقلية. فهي لا تضعنا في خانة الهزيمة والنصر، ولا تختصرها في مُسبب واحد أو حدث رئيسي. التعايش هو محاولات مستمرة للنجاة كآلية دفاع أولية يلجأ إليها الإنسان للبقاء.
أشعر بأن حملًا ثقيلًا أُزيح من على صدري لو تم إلغاء موعد هام مثلاً. وقد أتعامل بشكل عادي في مواقف تستدعي التواصل المباشر والعاجل، لكني أنهار بعدها جسديًا وذهنيًا من الإرهاق
فقدان القدرة على التواصل
ضمن العديد من الاضطرابات العقلية، تعتبر اضطرابات القلق الأكثر تأثيرًا على مهارات التواصل الاجتماعي. كمُتعايشة مع الاضطراب، أكون في أغلب الوقت فاقدة لأي قدرة على التواصل بأي شكل وأي وسيلة. يرجع ذلك إلى أن العقل في اضطراب القلق يتحول إلى ميدان مزدحم من الأُفكار المتضاربة والمتسارعة، والتي تأخذ مجهودًا ذهنيًا في التعامل معها ومعالجتها واستيعابها. ينعكس المجهود الذهني على الجسم باعتباره وسيط بين الذهن والعالم الخارجي. نتيجة لذلك، قد أفقد قدرتي على ارتداء ملابسي ومقابلة صديقة عزيزة. وأشعر بأن حملًا ثقيلًا أُزيح من على صدري لو تم إلغاء موعد هام مثلاً. وقد أتعامل بشكل عادي في مواقف تستدعي التواصل المباشر والعاجل، لكني أنهار بعدها جسديًا وذهنيًا من الإرهاق. المقربون/ات منّي يتفهمون ويتفهمنّ ذلك جيدًا. لكن الأزمة أنني ناشطة، وأغلب الوقت أتلقى رسائل وتعليقات لا أجد نفسي قادرة للرد عليها أو التفاعل معها- "كما يلزم."
الخوف والفزع
في اضطراب القلق، تتحول الهواجس إلى مخاوف يومية. مخاوف لا تفارقنا كمتعايشات/ين، كأن ينقطع التيار الكهربائي أثناء عملنا على الـ "لابتوب" فلا نكتفي بتسجيل كل خطوة من عملنا خوفًا من فقدانه، بل أحيانًا نربط اللابتوب بالكهرباء في حين تكون بطاريته 100% بسبب ذلك. كأن نفكّر في وصلة كهربائية قريبة لشحن الهاتف إن رأينا بطاريته 49%. كأن ندخل دورات المياه مرة واثنتين وثلاثة قبل الخروج من المنزل، لأننا نخاف أن نشعر بالحاجة للتبول في الخارج. كأن نحلم بفقدان أعزاء، وأحباب، أو أشياء وحيواناتنا الأليفة. عندما أبوح بمخاوفي أو ببعضها، يُقال لي أنني خائفة "أكثر من اللازم."
اضطراب القلق هو الخوف من كل شيء ومن لا شيء. تزداد حدة الخوف مع وجود مُسبباته، أو تحقق أجزاء منه. في سبتمبر الماضي لم أغادر بيتي ولو لمرة واحدة لسوء الأوضاع الأمنية في مصر. ورغم أنني لم أُشارك في التظاهرات التي خرجت ضد النظام، إلا أن الخوف لم يتركني وشأني. ظللت ليالي أحلم بالقبض عليّ وعلى صديقاتي.
يزداد غضبي حدة، في كل مرة استسهل أحدهم وصمي بالغضب "أكثر من اللازم" بدلًا من إعادة النظر في مُسببات هذا الغضب
المبالغة في الفعل ورد الفعل
يميل بعض الناس إلى اتهام متعايشين/ات مع القلق المزمن بالمبالغة في تصورهم للأمور، أنهم يقولون أو يفعلون أو يشعرون أكثر من اللازم. المشكلة هنا هي أن المهمة الحرفية للقلق هو أنه يُعطينا شعورًا بأن هذا الشيء أو هذه المسألة كبيرة وتستحق درجة تفاعلنا الشديدة معها. تفاعلاتنا تلك قد يتصورها الناس مُبالغًا فيها، لكنه لا يكون كذلك بالنسبة لنا كمتعايشين/ات. هذا بخلاف أنه يحق للأشخاص أن يفعلوا/ن أو يردون فعل وُجه إليهم/ن بالطريقة الأنسب لهم/ن، سواء كانوا متعايشين/ات مع اضطراب القلق أم لا. أكثر ما يُشعرني بالضيق كمُتعايشة مع الاضطراب، هو الاتهام بالمبالغة في أفعالي، ردود أفعالي، وحتى في مشاعري. أن يُقال لي، وأن يُشار إلىّ، بأني أفعل/أشعر "أكثر من اللازم." الأمر الذي لا يستفز معايشتي للاضطراب فقط، وإنما يستفز نسويتي أيضًا.
بين النسوية واضطراب القلق المزمن
عندما نقول: "هذا الفعل/الشعور أكثر من اللازم" يجب أن نسأل أنفسنا: مَن يُحدد "اللازم"؟ ما هي الأُسس التي يُحدد وفقها "اللازم"؟ "اللازم" هو معيار اجتماعي، حددته نظم اجتماعية عبر التاريخ لتضمن أن أفراد مجتمعاتها لن يفعلوا شيء غير مسموح لهم/ن به. هو استراتيجية لاحتواء الأفراد، أي تحجيمهم، وتوقُّع ردود أفعالهم/ن. هو أسلوب لتسير الأمور كما يُراد لها، لا كما نُريدها أن تسير. في الالتزام بـ"اللازم" التزام بالسائد، وبالمقبول اجتماعيًا، طواعية أو إكراهًا.
حينما أُتهم بأني غاضبة أكثر من اللازم، يأتي في بالي أمران أساسيان: ثانيهما هو تعايشي مع اضطراب القلق المليء بشكوك وتساؤلات عمّا إن كان ما أشعر به يستدعي الغضب، أو أنه أقل حدة مما يبدو لي بسبب الاضطراب. وأولهما، هو اقتناعي بأنه لا شخص مجبر على الشعور بشيء ما وفقًا لما يُحدد له من حوله، ووفقًا لما يُقبل منه. أشدد هنا على مشاعر النساء وأفعالهن باعتبارها موصومة بالمبالغة طيلة الوقت. ولا يُخفى على أحد اتهام النساء بالدراما مثلًا. هنا يتجلى وصمي كامرأة، وكنسوية، وكمُتعايشة مع اضطراب القلق. وهنا أيضًا يزداد غضبي حدة، في كل مرة استسهل أحدهم وصمي بالغضب "أكثر من اللازم" بدلًا من إعادة النظر في مُسببات هذا الغضب. أو وصمي بأني متعايشة مع اضطراب القلق لذلك أنا غاضبة طيلة الوقت، ولا يصح حكمي على الأشياء.
ما نتعرض له كنساء يُحتّم علينا أن نخرج عن "اللازم" أن نرفضه، وأن نُحاربه. وهذا للمرة الثانية لا شأن له باضطرابات عقلية. لذلك، تعتبر مدرسة النسوية التقاطعية الاضطرابات العقلية أمرًا نسويًا خالصًا، وتضع أحقية الأشخاص في أن يُفهموا، ويُقبلوا كما همّ، وألا يُجبروا على التظاهر بما ليس فيهم، حتى لا يُوصموا بأنهم "أكثر من اللازم." هناك أشخاص قرروا بوعي أو بلاوعي أن يتحدّوا "اللازم"، أو ببساطة ألا يكونوه.