مقال رأي

موقعة السوتيان -أو كيف اكتشف المتابعين أنني أرتدي حمالة صدر

تحية لكل امرأة قاومت أو مازالت تقاوم سيطرة الآخرين على جسمها. وسلامًا لمَن فقدنّ حيواتهنّ في هذه الحرب، فعلًا ومجازًا
ghadeer
غدير أحمد. الصورة مقدمة منها.

اسمي غدير أحمد. ناشطة وكاتبة نسوية وباحثة متخصصة في دراسات النساء والنوع الاجتماعي. مصرية. عمري ثلاثين عامًا. في كتاباتي ونشاطي النسوي أهتم بكل ما يتعلق بالحقوق الجسدية والجنسية للنساء. أدعم وبكل فخر حق كل امرأة في جسدها دون شرط أو قيد؛ إيمانًا منّي أن الجسد هو معركتنا الأولى كنساء.

في الفترة الأخيرة، بدأتُ خطوة صغيرة في اشتباكي النسوي مع النساء: بث حي على تطبيق انستغرام. في كل فيديو أتلقى العديد من الأسئلة والتنمر أيضًا. كان آخرها منذ أيام. كان موضوع البث عن معايير الاحترام وكيف يتم التمييز ضد النساء إن لم يلتزمنّ بها. كنت أتحدث مُرتدية بلوزة سوداء من الشيفون، يظهر من تحتها السوتيان. ثم جاء تعليق أحد المُتابعين: "هل نسيتِ ارتداء ملابسك؟ بإمكاني رؤية السوتيان." بردة فعل عفويّة منّي على هذا الاستفزاز ومحاولة وصمي بجسدي، فتحتُ أزرار البلوزة على الهواء: "لم أنسَ ارتداء ملابسي. أرتدي سوتيان. عادي!. لو بإمكانك رؤية السوتيان، فهذا لأنني أرتديه."

قامت الدنيا ولم تقعُد بين تنمر وتحرش جنسي وتهديد بالإبلاغ عني للسلطات المصرية. جدير بالذكر أن بعد هذه الموقعة، ازداد عدد متابعيني عشر آلاف متابع، أغلبهم من الرجال- الذين وللمفارقة، يتهمونني بالعهر. لكنهم ضغطوا زر المتابعة أملًا في رؤية المزيد من الفيديوهات التي سأقوم فيها بكشف أجزاء من جسمي كأني المرأة الوحيدة في العالم.

إعلان

لماذا الجسد؟
تقول الكاتبة النسوية ماريا ميس في كتابها: الأبوية وتراكم رأس المال أن أجسام النساء كانت، ومازالت، ساحات معارك ضارية على مر التاريخ. الأنظمة الأبوية، التي اعتبرت أجسام النساء ملكٌ للرجال، سحقت وسيطرت على النساء وحصرتهنّ في أدوارهنّ الإنجابية وعلّقت عليهن مفاهيم كالشرف والأخلاق بهدف الهيمنة على النساء كقوة عمل مُنتجة.

النساء قديمًا كنّ على صلات وطيدة بأجسامهنّ، يعرفنّ دورة الإباضة ويستخدمن الأعشاب في منع الحمل والإجهاض، يقمنّ بزراعة وحصد البذور والنباتات لهنّ ولأطفالهنّ وللرجال، الذين اعتمدت مساهماتهم في المجتمعات الأوليّة على الصيد الذي لم يكُن متوفرًا في كل وقت. عندما بدأ الرجال في تطوير أدوات الصيد، اكتشفوا أنها ليست لصيد الحيوانات من أجل الطعام فقط، إنما لقتل أشخاص وقبائل مجاورة والاستيلاء على الأراضي والنساء والأطفال، وهو ما ضمنَ لهم قوة عمل إضافية تساهم في تراكم ثروة لا تعتمد على الصيد كمصدر غير مستقر للغذاء، من هنا بدأت فكرة الملكية الخاصة.

تُلخص ميس بداية هيمنة الرجال على النساء منذ تلك اللحظة التاريخية التي اكتشف فيها الرجال أن بإمكانهم الاستيلاء وأسر النساء واستعبادهنّ بالعنف والاغتصاب. ثم وصم الرجال المهزومين لأنهم لم يدافعوا عن "أملاكهم" أي الأراضي والنساء. بدأ الرجال الأولين فكرة الوصم بالجسد واستخدام الاعتداء الجنسي كسلاح لإذلال النساء وذويهم من الرجال.

لاحقاً، جاءت الرأسمالية لتؤسس على ذلك وتعطي أحقية للرجال في أجسام النساء عوضًا عن سحق هؤلاء الرجال واستغلال قوة عملهم لصالحها. طورت الرأسمالية أغطية شرعية لتمكين الرجال من أجسام النساء، كمؤسسة العائلة الغيرية والتي تم حصر النساء وجنسياتهنّ فيها إلى الآن، إضافة إلى القوانين والمؤسسات الدينية التي أرست هذه الملكية. هذه المؤسسات قامت تاريخيًا على سحق أجسام النساء والسيطرة عليها لصالح الرجال ولصالح الأنظمة الاقتصادية المُتعاقبة. في الأصل، يرجع كل ذلك إلى وظيفة أجسام النساء الانتاجية- أي الإنجاب ورعاية الأطفال ورجال الأسرة. فتم استحداث مفاهيم الاحترام والأخلاق والشرف كمعايير اجتماعية يجب على النساء الالتزام بها فيما يخص أجسامهنّ وسلوكياتهنّ. أما هؤلاء اللواتي يخرجنّ عن المعايير، فيواجهنّ بالعنف والنبذ المجتمعي والوصم الأخلاقي.

إعلان

الجسد هو المعركة الأولى
كنسويات، يبدأ وعينا النسوي من سؤال الجسد. أسئلة بسيطة مثل: لماذا يفرضون عليّ الحجاب؟ لماذا تم تشويه عضوي الجنسي بجريمة الختان؟ لماذا لا أستطيع ارتداء هذا أو ذاك؟ لأسئلة أكثر تعقيدًا: لماذا يتم التحرش بي في الشارع والعمل والمنزل؟ لماذا لا يوجد نص قانوني يُجرم اغتصاب زوجي لي؟ لماذا جسمي ملكية لأسرتي وزوجي والمجتمع؟ لماذا يُجرم قانون دولتي الإجهاض؟ لماذا قد أدخل السجن لأنني رقصتُ على الإنترنت..

من هُنا تبدأ رحلة الوعي بأن استعادة سيطرتنا على أجسامنا هي أول معركة علينا خوضها كنساء. وهي حرب حقيقيّة لأنها تؤثر على كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة في حياتنا كنساء من قرار خلع الحجاب، للختان والهوس بالبكارة.. حتى حلق شعر الجسم من عدمه. إن تعرضت للتحرش بي، سيُقال: لأنك كشفتِ جسدك. لأنك رجعتِ مُتأخرة. لأنك خرجتِ من البيت. لن يُقال مثلاً أن تجريم الإجهاض هدفه منع النساء من ممارسة الجنس أو معاقبتهنّ عليه. لن يُقال أنه لا يوجد نص قانوني لتجريم العنف الأسري والاغتصاب الزوجي لأن دولنا تعتبرنا ملكية خاصة لرجال عائلاتنا. وأن هذه الدول والحكومات تُبارك العنف ضدنا بهذه الطريقة مهما وقّعت على اتفاقات لمناهضة العنف ضد النساء.

إعلان

نعم، أجسامنا هي معركتنا الأولى. في السياقات السياسية، دائمًا ما تُتهم النسويات بالتفاهة والطبقية لأنهنّ يتحدثن باستمرار عن الحقوق الجسدية والجنسية للنساء. أتذكر الاتهامات العديدة التي تلقيتها على مدار نشاطي العام في مصر. لم يرَ "الرفاق" أن معارك النساء حول حقوقهنّ الجسدية هي أول ما تمر به أي امرأة مُنخرطة في حراك سياسيّ. لم يستوعب أحد بديهية أمر كمحاربة الوصمة حول شعر الجسم أو الإجهاض، وأن مَن لا تملُك قرارًا بدائيًا كحلاقة شعر الجسم، كيف ستُقاوم نظام حاكم بأكمله قام في الأساس على الهيمنة على أجسام النساء؟ كيف يُمكننا اعادة شرح أنفسنا بأن استهداف النساء اللواتي يرقصنّ على الإنترنت أو لا تتفق سلوكياتهنّ مع المعايير الاجتماعية، هو أولاً وأخيراً استهداف سياسي وتاريخي قائم على أساس الجنس- الجسد؟

إعلان

حين فتحت أزرار بلوزتي كان في ذهني كل مرة تم وصمي فيها بجسدي. وكل مرة تم إنكار حقي فيه. كل مرة ارتديتُ الحجاب دون رغبة. كل مرة تذكرتُ ختاني. كل مرة وقفتُ أمام المرآة بالساعات أبدل ملابسي ولا أستطع ارتداء تلك البلوزة بالذات لأنها "شفافة وتظهر جسمي." كل مرة شعرتُ بالخزي إن ظهر جزء من جسمي. كل مرة تم التحرش بي بسبب أني امرأة- بسبب جسمي. كل مرة شعرت فيها بالخوف والتهديد لأنني أخالف معايير المجتمع والدولة. وكل مرة بكيت لأنني لا أشعر بأي ملكية وأحقية لجسمي. الذي هو وجود المادي في العالم كإنسانة. لازلتُ عند رأيي، معاركنا حول أجسامنا هي معركتنا الأولى. والحراكات النسوية في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، تشهد بأني لستُ الوحيدة على الجبهة.

في معركة السوتيان، أعي أن ردة فعلي هي نتاج امتيازاتي وأن هناك تبعات عنيفة لاتخاذ رد فعل كهذا منها الوصم والتنمر وحتى السجن. أعي أن النساء اللواتي لا يتمتعنّ بامتيازاتي التي راكمتها خلال السنوات الأخيرة فيما يتعلق بكوني نسوية، وباحثة أكاديمية وأنني تخلصت بنسبة كبيرة من سيطرة عائلتي على جسدي، ربما لن يقدرن على اتخاذ ردّات فعل مماثلة.

أرى استخدام امتيازاتي هنا لزامًا أخلاقيًا عليّ كنسويّة. وأنه يجب أن تتواجد نساء قادرات على خوض معارك بهذه الشراسة، لتعرف البقيّة أنهنّ لسن بمفردهن، وأن هناك مَن تدعمهنّ وعلى استعداد لتلقي ضربات عنيفة لانتزاع مساحات للنساء الأخريات.

ولأكون أمينة، ردة فعلي لم تتعلق فقط بامتيازاتي، إنما بإيماني أنني جسرًا تعبر عليه النساء نحو عالم لا يشعرن فيه بالخزي من أجسامهنّ لأي سبب. في عام ٢٠١٤، قمتُ بنشر فيديو رقص كان استخدمه صديقي السابق لابتزازي جنسيًا وتهديدي. قمتُ بنشره على صفحتي مُتحديّة الوصمة. من وقتها وأنا أنشر فيديوهات رقص شرقي على الإنترنت. كان ذلك في بداية نشاطي النسوي ولم أكُن قد راكمتُ أي امتياز مما سبق. كان حليفي الوحيد وقتها إيماني بأن أجسامنا هي معركتنا الأولى وأنني- ولو نسبيًا- مستعدة للمواجهة التي تدفع ثمنها نساء غيري من سلامتهنّ الجسدية وأمنهنّ الشخصي. كان هدفي وقتها، كما هدفي الآن: استعادة حقي في السيطرة على جسدي، وإيصال رسالة واضحة للجميع: لا يحق لأي مَن كان وصمنا بأجسامنا أو السيطرة عليها. 

أُهدي ردات فعلي خلال تلك السنوات إلى النساء الأوليّات اللواتي وقعنّ تحت سطوة السلاح والعنف واُنتزع منهنّ حقهنّ في أجسامهنّ. النساء اللواتي تم إقصائهنّ، أو ممارسة عنف ضدهنّ، أو قُتلنّ لأنهنّ وقفنّ ضد الهيمنة الأبوية والرأسمالية على أجسامهنّ. تحية لكل امرأة قاومت أو مازالت تقاوم سيطرة الآخرين على جسمها. وسلامًا لمَن فقدنّ حيواتهنّ في هذه الحرب، فعلًا ومجازًا.