IMG_8721
مرأة

الاغتصاب الزوجي وأزمة التشريع في البلدان العربية

العقبة في إقرار قوانين وعقوبات جنائية على كل زوج أجبر زوجته على ممارسة الجنس، هم المشرعون الرجال أنفسهم

يُعد الاغتصاب جريمة جنائية في المواثيق الدولية تستلزم عقابًا على الجناة دون التفات لصلة القرابة التي تربطهم بالضحايا. لكنّ القوانين المحلية في المنطقة العربية تتحايل في ذِكر لفظ "اغتصاب" كما في مصر، أو في تعريفه الجنائي كما في لبنان وتونس، بشكل يسمح لبعض المعتدين الإفلات من العقاب أو إيجاد ثغرات لتخفيف العقوبات الجنائية.

أما إن أضفنا نعتًا لكلمة الاغتصاب وأصبح "اغتصاب زوجي" وقصدنا به إكراه الزوجات على ممارسة الجنس دون رضاهنّ، فإن الأمور تتطور من التحايل على الألفاظ القانونية إلى رفضًا صريحًا في الاعتراف بوجود تلك الجريمة في الأساس. أغلب مشاريع قوانين مناهضة العنف ضد النساء والتي قدّمتها مجموعات مدنية وحقوقية ونسوية إلى مجالس النوّاب العربيّة، يتم حذف الأبواب المُخصصة بالاغتصاب الزوجي منها، وتصبح العقبة في إقرار قوانين وعقوبات جنائية على كل زوج أجبر زوجته على ممارسة الجنس، هم المشرعون الرجال أنفسهم.

إعلان

بنظر هؤلاء المشرعين ورجال الدين، تعتبر عقود الزواج بمثابة عقود تنقل ملكيّة أجسام النساء من العائلة إلى الزوج، وأنها موافقة أبديّة على ممارسة النساء للجنس دون اعتبار لرغباتهنّ الشخصية وموافقاتهنّ على الفعل. ورغم أن بعض الزيجات تتم دون موافقة النساء في مناطق عدة من بلداننا العربية. إلا أن ملكيّة الزوج لجسد زوجته سارية طالما أن هناك عقد زواج. وللعجب أن هذه العقود نفسها لا تضمن ملكية النساء لأجسام الرجال؛ فهي ليست مُتبادلة. إنما اتجاه واحد يُرسي الاستحقاقات الجنسية في يد الأزواج وينتزع حقوق الزوجات.

من هذه الاستحقاقات الجنسية، اعتبار أن ممارسة الجنس حق أصيل للزوج. أي أن الجنس متمحور حول الرجل والنساء مجرد أدوات استمتاع جنسي للرجال. ولذلك، فإن مع كل مرّة ذُكر فيها "الاغتصاب الزوجي" تُرفع الحواجب دهشة وكأن الاغتصاب لا يحدث إلا للغرباء. أما الزوجات، فهم ملكية للرجال يفعلون بهنّ ما شاءوا.

عدم وجود قانون لتجريم الاغتصاب الزوجي ظهر بأبشع صوره في ٢٠١٨ مع حادثة السودانية نورا حسين، التي كانت تبلغ من العمر ١٩ عاماً عندما تم الحكم عليها بالإعدام لقتلها زوجها المغتصب. ولكن وبعد الكثير  من المطالبات من الهيئات الحقوقية، تم إلغاء حكم الإعدام واستبداله بالسجن لمدة خمس سنوات. وكانت نورا قد أجبرت على الزواج من ابن عمها قبل أن تتجاوز 16 من عمرها، وعندما رفضت معاشرته جنسياً بعد الزواج، قام باغتصابها بمساعدة أقاربه. وفي اليوم التالي عندما حاول اغتصابها مجدداً، طعنته حتى الموت.

هذه الحادثة تؤكد مرة بعد أخرى أن عدم تجريم اغتصاب الزوج لزوجته هو جريمة في حق النساء. على الرغم من أن قضية نورا فتحت النقاش حول الاغتصاب الزوجي، إلا أنه لم يتم تجريمها بَعد في السودان، كما الحال في كل من لبنان، مصر وتونس والبلدان العربية الأخرى.

إعلان

لبنان
يُجرم قانون العقوبات اللبناني لعام ١٩٤٣ الاغتصاب في مواده (٥٠٣-٥٠٦). وعلى الرغم من تسمية الباب بـ"الاغتصاب" إلا أن المواد لا تستخدم لفظ اغتصاب وتستعيض عنه بألفاظ ذات دلالات دينية مثل، الجماع. يُناقض المُشرع اللبناني نفسه في عدم اعتبار بند الرضائية أصيلًا في تعريف الاغتصاب، لأن لفظ "جماع" يحوي في طيّاته موافقة الأطراف المُشتركة في الفعل، وهو ما يتناقض مع مفهومي الإكراه والإجبار.

في المادة ٥٠٣، يستثني المشرع اللبناني حدوث الاغتصاب بين الأزواج، فيقول نصًا: "مَن أكره غير زوجه على الجماع." في تلك المادة بالتحديد والتي تُسبب استنفارًا بين المجموعات النسوية اللبنانيّة، يُبيح المشرّع اغتصاب الزوج لزوجته، ويعتبر وجود عقد الزواج بين طرفين هو انتفاء لحدوث فعل الاغتصاب.

يُفيد برنامج الأمم المُتحدة الإنمائي في دراسة عن عدالة النوع الاجتماعي في لبنان، أن إصرار المُشرعين على وجود نصوصًا تستثني الأزواج من العقوبة الجنائية لاغتصاب الزوجات مثل "الحق الزوجي" هو تشريع للجريمة، وليس فقط تحايلًا على الألفاظ القانونية.

تقدّمت مؤسسة كفى اللبنانية بمشروع قانون مناهضة العنف ضد النساء لمجلس النوّاب اللبناني والذي تضمّن بابًا مُخصصًا للاغتصاب وتجريم الاغتصاب الزوجي. تم إقرار القانون عام ٢٠١٤ إلا أنه تم حذف الاغتصاب الزوجي من القانون بسبب ضغوط رجال الدين الإسلامي والمسيحي، بحسب تقرير الأمم المتحدة حول عدالة النوع الاجتماعي لعام ٢٠١٩. كما تم استبدال الألفاظ المدنية بأخرى دينية وهو ما جعل كفى غير راضية عن القانون بعد تعديله. منذ وقتها ومازالت جهود النسويات في تجريم الاغتصاب الزوجي بلبنان مُستمرة، جنبًا إلى جنب مع معاركهنّ حول قوانين الأحوال الشخصية والعنف ضد النساء.

إعلان

مصر
يُجرم الاغتصاب في قانون العقوبات المصري وفقًا للمواد (٢٦٧-٢٦٩). المشرّع المصري لا يُسمي الاغتصاب اغتصابًا، إنما "مواقعة أنثى كرهًا بغير الرضا." والمواقعة يُقصد بها ممارسة الجنس بالإجبار وفي حالة واحدة: إيلاج قضيب داخل مهبل. وما دون ذلك، لا يعتبره القانون اغتصابًا، إنما "هتك عرض."

لا يعترف المشرّع المصري بحدوث الاغتصاب إلا بالإيلاج. وكذلك لا يعتبر الإجبار على أي ممارسة جنسية دون موافقة، اغتصابًا، كالاغتصاب الشرجي أو إيلاج أدوات/أيادي في المهبل/الشرج/الفم. وبالتأكيد ينفي أن الرجال عرضة للاغتصاب كالنساء. 

يستعير المشرع المصري لفظ هتك العرض من الإرث الثقافي والمجتمعي حول ممارسة الجنس بالإكراه ويربطه بالعِرض والشرف، وبالتالي يصبح وصمًا مجتمعيًا للضحايا لا الجناة. أما عن الاغتصاب الزوجي، فلا يُجرمّه القانون إلا في الممارسات التي تتنافى مع الشريعة الإسلامية كالاغتصاب الشرجي/ أو بلغة القانون والدين: الإتيان من الدُبُر (مادة ٢٦٩). في الدورة السابقة للبرلمان المصري، تقدمّت النائبة نادية هنري بالتعاون مع عدة مؤسسات وأفراد نسوية بمشروع قانون العنف الموحّد ضد النساء. تضمّن المشروع بنودًا واضحة لتجريم الاغتصاب نصًا وتفنيدًا واضحًا لأنواع الاغتصاب، وحذف عبارات مثل هتك العرض.

حصل القانون على عدد لا بأس به من توقيعات النواب لكنه لم يرَ النور حتى الآن. انتهت دورة البرلمان قبل طرح القانون للنقاش بسبب اعتباره غير ذي أولوية لأجندة المجلس. لا يزال العمل بمواد قانون العقوبات الحالي ساريًا. ولا تزال المجموعات والمؤسسات النسوية تُحارب بضراوة لانتزاع تشريعًا للجرائم الجنسية مبنٍ على إقرار حق النساء فيمّ يخص أجسامهنّ. وكاللبنانيات، معركة قوانين الأحوال الشخصية مستمرة.

إعلان

تونس
على خلاف مصر، فإن البرلمان التونسيّ أقر قانون موحّد للقضاء على العنف ضد النساء عام ٢٠١٧. في فصوله (٢٢٧-٢٢٨)، يُجرم القانون الاغتصاب بشكل واضح. يستخدم المشرع التونسي لفظ اغتصاب ولا يستثني الرجال من التعرض للعنف الجنسي. يتسع مفهوم الاغتصاب ليشمل الإيلاج بالإكراه أو التهديد بالأدوات والأصابع سواء كان في المهبل/الشرج/الفم، ولا يقتصر على الإيلاج بالأعضاء الجنسية.

لكن القانون أبقى على لفظ "سفاح القربى" فيما يتعلق بالجرائم ذات الطابع الجنسي من أفراد الأسرة، وهو لفظ ذو مدلول ديني. ولأن هناك تكتلات دينية ذات تأثير سياسي في تونس، فإن الفصل المُخصص بالاغتصاب الزوجي تم حذفه بالكامل. تمت الاستعاضة عنه بإدماج عبارات تُضاعف العقوبة إن كان الاغتصاب صادرًا من أفراد العائلة أو الأصول والفروع. 

مازال هناك مأخذ على مجلة الأحوال الشخصية التونسيّة، وبالأخص في الفصل الثالث عشر والذي يعتبر ممارسة الزوج للجنس حق أصيل طالما أنه دفع مهرًا للزوجة. هناك العديد من المطالبات النسويّة في تونس بقراءة نقديّة لمجلة الأحوال الشخصية وما قد تتضمنه من عنف ضد النساء بسبب عدم وضوح النص القانوني. ففي الجدل المثار عام ٢٠١٨ حول لجنة الحريّات الفردية والمساواة، تم اعتبار الفصل مُهينًا للنساء ويُجبرهنّ على ممارسة الجنس داخل منظومة الزواج.

وعلّقت هيئة الأمم المتحدة على الفصل في تقريرها السنوي لعام ٢٠١٩، بأن ترك تحديد جريمة الاغتصاب الزوجي بيد القضاة لا يعتبر تجريمًا صريحًا للفعل. لتكون بذلك التونسيّات رفيقات النسويات في لبنان ومصر، يُحاربنّ من أجل إقرار تشريعًا يُجرم الاغتصاب الزوجي، ويُحاربنّ في معركة متصلة بقوانين الأحوال الشخصية للنساء.

إعلان

الاغتصاب الزوجي بين التشريعات والأنظمة الاجتماعية
تلعب المؤسسات الدينية دورًا هامًا في إرساء مفهوم مركزة الجنس حول الرجال. فنجد نصوصًا –ضعيفة- تضع عبء إشباع رغبات الرجال الجنسية على أكتاف النساء: "باتت تلعنها الملائكة." وكأن الملائكة مُتفرغة للعن الزوجات إن رفضنّ ممارسة الجنس، مُقريّن أيضًا أن الرجال الذين يُجبرون زوجاتهم على ممارسة الجنس، غير مُذنبين.

أغلب البرامج الدينية تدعو النساء إلى طاعة الزوج العمياء، حتى في الفراش. وأغلب الفتاوى الدينية تضع النساء في خانة المُذنبات إن لم يفعلنّ ذلك. فيتولّد لدى النساء شعورًا دفينًا بالذنب تجاه الزوج والإثم الشرعي تجاه الدين. يُنحينّ رغباتهنّ وفردياتهنّ من أجل إعلاء رغبات الرجال.

هذه الموروثات الدينية لها جذورها الاجتماعية والتاريخية. فخضوع النساء للرجال أمرٌ مُسلّم به في ثقافات عدّة. لكنها تبرُز في المجتمعات التي تتعاون فيها مؤسسات مختلفة لضمان خضوع النساء للرجال. التنشئة الاجتماعية مثلًا لها دور قوي في اعتبار مؤسسة العائلة الغيرية وجهة حتميّة للأفراد. وفي هذه المؤسسة، تخضع النساء للرجال عاطفيًا وماديًا وجنسيًا. فكم مليون امرأة قيل لها ألا تُفشي أسرار غرفة النوم؟ كم مليون امرأة تم وصمها إن تحدثت عن علاقتها الجنسية مع زوجها؟

نجد نصوصًا –ضعيفة- تضع عبء إشباع رغبات الرجال الجنسية على أكتاف النساء: "باتت تلعنها الملائكة." وكأن الملائكة مُتفرغة للعن الزوجات إن رفضنّ ممارسة الجنس

تكبر النساء وهنّ مُتشبّعات بأفكار عن الزواج، أولها وأكبرها أنها هنا لخدمة زوجها جنسيًا، حتى أن الكثيرات منهنّ لا يعرفنّ أن بلوغ النشوّة الجنسيّة حق لهنّ، وأن العلاقة الجنسية لا تنتهي بقذف الرجال. فلنتخيّل أن امرأة واحدة من هؤلاء الملايين، قررت الإبلاغ عن تعرضها للاغتصاب الزوجي. لا يوجد نص قانوني سيُمكنّها من استرداد حقها وكرامتها. لا يوجد سند تشريعي لأن الجريمة حسب مُشرعينا الرجال العرب، غير موجودة. إن أكثر المجتمعات ظلمًا للنساء هي مجتمعات تجعل من النساء خادمات للمنظومة التي تقهرهنّ في الأساس. وأكثرها بشاعة، هي مجتمعات تتحالف ضد النساء بمؤسساتها الاجتماعية ومنظوماتها التشريعية.

تجريم الاغتصاب الزوجي
ما تطالب به النساء في العالم العربي بتجريم الاغتصاب الزوجي هو حقها الكامل، الإغتصاب الزوجي مُجرّم في العديد من دول العالم ويعتبر انتهاكًا مدرجًا في الإعلان العالمي لحقوق الانسان ضمن بند "العنف ضد المرأة." القانون المغربي فصل مؤخراً، بموجب إصلاحات قانون الأسرة، الحق القانوني في النفقة عن واجب الزوجة بالطاقة الجنسية، إذ كان يعتبر أنّ صرف الرجل على زوجته يجيز له ممارسة الجنس معها.

في عدد من دول العالم تم ادخال تعديلات على قوانين العقوبات الجنائية لإدراج مُسمى الاغتصاب الزوجي تحت بند الاغتصاب، كما أصدرت المحاكم العُليا في دول أخرى نصوصًا تُجرّم الاغتصاب داخل إطار الزواج. في دول عدة، لا يُجرّم الاغتصاب الزوجي نصًا، لكن تم حذف أي مواد متعلقة بـ"حقوق الزوجية" ومنها ممارسة الجنس بالإكراه، وهي خطوة في استخدام قوانين تجريم العنف الجنسي للتقاضي حتى بين الأشخاص الذين تربطهم عقود زواج.