026_Kan Ya Makan_Neon (1)

عمل فني للفنانة جود أبو زينة. تصوير: Kamryn Cusumano

تقنية

عن تقنية الـNFT وعالم الفن: هل نلحق الموجة؟

ينظر البعض إلى المنصة كوسيلة ثورية قد تزيح المؤسسات الوسيطة والرسوم التي تفرضها عليهم لبيع أعمالهم الفنية والترويج لها

قضيت الأسابيع القليلة الماضية في تتبع تقنية أخذت حيزا كبيرًا من النقاش مؤخرًا بسبب المتغيرات التي ادخلتها في عالم الفن الرقمي. خلال هذه المدة، تطفلت على العديد من المجموعات التي ينشط فيها رواد الـNFT في مختلف منصات التواصل الإجتماعي كي أتابع فحوى الضجة من مصدرها. لا شك أن حداثة هذه التقينة جعلت منها أمراً مدهشًا بالمجمل ومريبًا عند التفصيل، وذلك مع دخول مصطلحات جديدة، وأخبار عن صفقات بيع بملايين الدولارات، وسرعة تطور الأحداث. في الواقع، الدهشة بتقنية الـNFT يذكرني بالمرة الأولى التي استخدمت فيها الإنترنت.

إعلان

وبحسب ما شاهدته، فإن الغالبية تتفق على أن هذه التقنية هي "منجم ذهب" و"استثمار وقتي" سيحقق فرص مالية ونجومية كبرى- خصوصًا للمبتكرين وصناع الفن، وخاصة بعد بيع قطعة فنية رقمية الفنان الأمريكي الملقب بـBeeple  بمبلغ يعادل ٦٩ مليون دولار لمشتري لم يفصح عن هويته.

لكن ما يتم تداوله في أسواق الـNFT لا يقتصر على الأشكال الفنية التقليدية فقط، فمن الممكن تداول أي مادة رقمية بما فيها الميمز والـ GIFs وحتى صور عن التغريدات العبقرية- أو السخيفة على تويتر، فقد بيعت تغريدة مكونة من أربع كلمات لجاك دورسي الرئيس التنفيذي لتويتر، بمبلغ يعادل ٢.٩ مليون دولار، وهي أول تغريدة يطلقها جاك من حسابه على تويتر عام ٢٠٠٦. 

فك شفرة الـ NFTs
قد يبدو الحديث عن الـNFT مليئًا بالشفرات والتعقيدات التي يصعب اسقاطها وفهم كيفية عملها على المساحة الرقمية التي اعتاد عليها الجميع. لكن الضجة العالمية دفعت الكثير من الفنانين إلى الخوض في استكشاف الفرص المحتملة التي قد تجلبها لهم هذه التقنية.

كي نتطرق لتفكيك بعض المفاهيم الرائجة حول كيفية عمل هذه التقنية يجب أن نفهم اولًا أين تقع على الإنترنت؟ وهذا قد يتطلب القليل من الخيال. NFT تعني الرموز غير القابلة للاستبدال (non-fungible tokens) وهي تستند على تقنية متشعبة معروفة بالبلوك تشين وهي الأساس الذي ترتكز عليه العملات الرقمية كالبيتكوين والايثريوم، والتي اكتسبت شهرة واسعة في السنوات الاخيرة وتضاعفت قيمتها بسبب الإقبال الضخم على شرائها والضجة الإعلامية التي تقودها شخصيات كبرى على رأسها ايلون ماسك

إعلان

أحد أهم الخصائص التي تميز  الـNFT عن باقي العملات المعروفة أنها تنتج رموز رقمية (tokens)  فريدة من نوعها ولا يمكن مقايضتها. على سبيل المثال يمكنك مقايضة ورقتين من عملة ٥ دولار مقابل ورقة واحدة بقيمة ١٠ دولار  أو بيتكوين مقابل أخرى، الهدف منها هو جمعها كأصول وبيعها كمادة رقمية.

ترتبط هذه الرموز بالبلوك تشين حيث يتم تسجيل التبادلات المالية وإنشاء مستندات الملكية لجميع الأعمال الفنية المطروحة علنًا ليتمكن العامة من متابعة عمليات البيع والشراء وتقصي الملكية. بالتالي، يقابل كل رمز من الـNFT منتج رقمي فريد يُصدر له صك ملكية لحساب صانع العمل الفني أو مقتنيه. بطبيعة الحال، بإمكان أي شخص نسخ المادة ونقلها على منصات التواصل الاجتماعي ولكنها لا تمتلك القيمة ولا يمكن ادعاء ملكيتها.

الأعمال المطروحة على المنصة متنوعة وتشمل جميع أشكال الفن التي يمكن رقمنتها صوتيًا أو بصريًا بما فيها شخصيات الألعاب الألكترونية ورسومات الجرافيك والموسيقى وغيرها. قد نختلف أو نتفق في ما يمكن تعرفيه كعمل فني، ولكنها بالمبدأ تمثل نوع من الأصول الرقمية التي لا يمكن تحصيل مقابل قيمتها وإنما جمعها وإعادة بيعها كمادة رقمية. ضمن هذا الإطار، أصبح تمّلك الأعمال الفنية الرقمية عن طريق جمع الـ NFT بمثابة استثمار مالي متجدد يُحتمل أن توجد له آفاق لارتفاع قيمة العمل في حال توسع السوق- أو ربما عكس ذلك. يمكنني مثلاً عرض هذه المقالة عن الـ NFT للبيع، وفعلها الصحفي كيفين روز وحصد أكثر من نصف مليون دولار لصالح صحيفة نيويورك تايمز.

إعلان

ويمكن للفنانين استخدام أي من المساحات التجارية المتوفرة لبيع أعمالهم مقابل مبلغ من الايثريوم- أو غيرها من العملات الرقمية. هناك العشرات من المتاجر المتوفرة منها منصة Opensea و Niftygateaway وغيرها المتخصصة بعرض الأعمال الرقمية. ولكن يتوجب على الفنان عند التسجيل الحصول على محفظة رقمية اولًا وإيداع مبلغ من الايثريوم، فيها كي يتمكن الفنان من دفع الرسوم مقابل القيام بصك الرمز (minting) الذي يمثل عمله الفني في البلوك تشين، وكذلك ممارسة عمليات البيع والشراء وتعرف رسوم الخدمات هذه بالـgas fees.

صفقات البيع والشراء
من الغريب أن تباع هذه المواد الفنية الرقيمة بمبالغ ضخمة في حين أنه يمكن عرضها والوصول إليها عبر أي من منصات التواصل الاجتماعي المعروفة، ولكن يبدو أن مقتني هذه المواد ينقسمون لمجموعتين. المجموعة الأولى تتكون من الشخصيات الثرية في عالم العملات الرقمية أي أولئك الذين يمتلكونها بكثافة ويمكنهم الشراء والاستثمار بسهولة، خصوصًا مع ارتفاع قيمتها بسرعة كبيرة. هؤلاء ينظرون إلى شراء الـNFT بمثابة استثمار اقتصادي مدروس قد تتضاعف قيمته وتدر عليهم أضعاف السعر الأصلي للقطعة. 

أما المجموعة الثانية فهي مكونة من القيمين الفنيين وجامعي القطع الفنية في المعارض والمتاحف وأصحاب المجموعات الخاصة، والذين يطمحون لمواكبة العصر والتكنولوجيا الحديثة وربما استخدام هذه المقتنيات في معارض على المساحة الرقمية ودمجها بالمعارض التقليدية في المستقبل القريب. في الحقيقة يبدو أن "المستقبل القريب" على بعد عدة أيام، حيث يقيم مركز UCCA للفن المعاصر في بكين أول معرض متعدد الوسائط لأعمال الـNFT الفنية بعنوان Virtual Niche بالاشتراك مع ٦٠ فنانة وفنان من جميع أنحاء العالم.

إعلان

وجود القطع الفنية على المساحة الرقمية يزيح أعباء التخزين وتكلفة النقل والحفاظ على الحالة الفيزيائية للقطعة، حيث يمكن عرضها وتجميعها في المحفظة الرقمية لصاحبها

أما بالنسبة لبائعي أو أصحاب الـNFT فتبدو الفرصة متاحة لجميع من يملك مادة رقمية "فنية" وحساب على أحد المتاجر ومحفظة رقمية وبحوزته مبلغ من الايثريوم. الدخول في المضمار أقل تعقيدًا مما يبدو عليه إن كنت تستطيع توفير هذه المعطيات الأساسية حسب مستجدات العرض والطلب والترويج الذي يبذله كل فنان لنفسه. الجدير بالذكر بالطبع أن أسعار الـNFTs ليست دومًا محسوبة بالملايين الدولارات، كثير من الأعمال المعروضة تدور في نطاق ارقام تنقصها بصفر أو صفرين ويرجع ذلك الى الترويج والمزايدة حول القطعة نفسها.

ينظر البعض إلى المنصة كوسيلة ثورية قد تزيح المؤسسات الوسيطة والرسوم التي تفرضها عليهم لبيع أعمالهم الفنية والترويج لها، سواء كانت لوحات أو موسيقى أو أزياء. وجود القطع الفنية على المساحة الرقمية يزيح أعباء التخزين وتكلفة النقل والحفاظ على الحالة الفيزيائية للقطعة، حيث يمكن عرضها وتجميعها في المحفظة الرقمية لصاحبها. اللامركزية التي توفرها البلوك تشين قد تخلق مساراً جديداً في عالم الفن يمكن الجميع من دخول المنافسة، ولا يقتصر على الذين يختارهم أصحاب الامتيازات في المجال.

إزاحة العراقيل المالية أمام الفنانين من خلال استخدام العملات الرقمية تتيح لهم مساحة إبداعية للإنتاج وتقلل القلق الوجودي الذي يصاحب مهنتهم، وبنفس الوقت المحافظة على الملكية الفكرية لأعمالهم التي أصبح من السهل اختلاسها على منصات التواصل الاجتماعي.

ماذا عن الفنانين العرب؟
ما زال عالم الفن الرقمي في طور التعلم والتعرف على جوانب هذا العالم الجديد، الإلمام به قد يتطلب البحث والوقت والمشاركة في النقاشات الدائرة في مختلف المنصات، ولكن هناك بعض الفنانين العرب الذين بدأوا باستخدام هذه التقنية.

إعلان

يمارس الفنان البصري الفلسطيني المقيم في كندا إبراهيم أبو ستة الرسم التشكيلي، ولكن بعد اطلاعه على عالم الـNFT قرر التوجه إلى استخدام وسائط وثيمات مختلفة لتقديم ممارساته الفنية رقميًا.
يخبرني إبراهيم: "ما أثار اهتمامي كان القراءة عن الإتاوات "royalties" التي يحصل عليها الفنانين من إعادة بيع الـNFT خاصتهم، لقد حصلت على بعض المبيعات في الأسبوعين الأولين وهذا مدهش. أمل أن يستمر وجودي في هذا المساحة بالنمو، وأجد قيمة فنية من خلال التوسع في فضاءات جديدة."

boxers_lowerres.jpg

عمل فني للفنان إبراهيم أبو ستة بعنوان (Everlasting (Warhol and Basquiat). الصورة مقدمة من الفنان.

كذلك الأمر بالنسبة لجود أبو زينة -فنانة فلسطينية أمريكية متعددة التخصصات مقيمة في نيويورك، فهي في طور الاستعداد لعرض أول منتجاتها الفنية في السوق قريبًا. وتقول عن استخدام هذه التقنية الجديدة: "أحب فكرة السيطرة على ممارستي الفنية، خاصة من وجهة النظر المالية. هيكل الـ NFT يسمح للفنانين باستعادة قوتهم المادية، وهو أمر بالغ الأهمية. هذا النظام يزيح المؤسسات الوسيطة ويستمر بدفع  إتاوات للفنان الأصلي، إنه نموذج لا يوجد له مقابل في الواقع."

تتفق جود وإبراهيم على أن وجود الفنانين العرب مازال محدوداً ولكنه ينمو مع الوقت، كما أن مختلف المنصات حول هذه التقنية لا تتمتع بخيارات لغوية مختلفة مما قد يشكل بعض العراقيل، ولكن بالرغم من ذلك فإن هناك العديد من الحلول والأدوات الإضافية التي يمكنها تقديم ترجمة فورية عبر المتصفح إلى أن يتم تطوير المنصات وإضافة لغات أخرى. 

عدد الأسئلة يفوق عدد الإجابات التي نملكها حول المسار المستقبلي لهذه التقنية، فبالرغم من بريقها وحسناتها الظاهرية، فإن هناك مخاوف حول الطاقة التشغيلية اللازمة لعمل هذه التقنية، حيث أن عملة الايثريوم تستنزف من الطاقة سنويًا ما يعادل معدلات استهلاك الطاقة في دولة بحجم سلوفاكيا.