ظهر هذا المقال بالأصل على موقع مرآة.
تعتبر الإمبراطورية العثمانية من أكثر الحضارات المعروفة بثقافة و تقاليد الحمام العام، والتي امتدت إلى مختلف الدول في شمال إفريقيا، جنوب شرق أوروبا وغرب آسيا. حيث أن أول مباني الحمامات شيدت في تركيا و الحضارة الرومانية، لذلك عند دخولها الأخير لشمال إفريقيا كانت سوريا، المغرب ومصر من الدول الأولى التي عرفت بثقافة الحمام العام.
تشبث المغرب بثقافة الحمام العام حيث صنف من التقاليد الأساسية في أغلبية المناسبات الدينية والشعبية في المجتمع المغربي. يقع أول حمام مغربي في منطقة وليلي الرومانية بالقرب من مدينة مكناس وإقليم مولاي إدريس زرهون. يختلف الحمام المغربي عن أنواع الحمامات الأخرى في العالم باستخدام الماء بدلاً من البخار فقط، وذلك لاستمداده من أصول الإمبراطورية العثمانية التي كانت تعتمد على الماء، الصابون، والفرك في جو تملأه بخار المياه الساخنة. في كل الأزقة الشعبية أو العصرية المغربية، يوجد العديد من الحمامات العامة المشتركة لكلا الجنسين، وتقع في أغلبية الأحيان بالقرب من المساجد و ذالك لأغراض الوضوء والنظافة.
ينقسم الحمام إلى صنفين في المغرب، حمام نساء و حمام رجال، وفي الحمام العام يكون هناك ثلاث مستويات في درجة حرارة الغرفة، الغرفة الأكثر حرارة و هي التي تكون الأقرب من منطقة الأعواد والنيران وفي بعض الأحيان تكون نيران الحمام مدفونة تحت تلك الغرفة، الغرفة الثانية تكون متوسطة الحرارة، والغرفة الباردة التي توجد بجانبها غرفة تبديل الملابس. في كلا حمامين النساء و الرجال يوجد شخصين يعملان في المكان و يسمان ‘’الطيابة ‘’ في حمام النساء و ”الكسال” في حمام الرجال. يقوم ‘’الكسال’’ و”الطيابة” بمساعدة الناس في الحمام العام و ذلك بفرك أجسادهم.
في الحمام النسوي، تقوم النساء بتمضية وقت أطول مقارنة مع الرجال، حيث تمكث لمدة نصف يوم في الحمام لذلك تحمل معها بعض الفواكه كالتفاح أو البرتقال لتمضية اليوم. تعتمد النساء على استخدام مختلف المنتجات الطبيعية المغربية للتجميل و النظافة. فمثلاً يعتبر ‘’الصابون البلدي” الغني بزيت الزيتون من عناصر الإستحمام الأساسية، حيث يتم دهنه على جميع أطراف الجسم ليعمل على ترطيبه و تأهيله لاستخراج الخلايا الميتة والأوساخ. وتستخدم المرأة المغربية المواد الطبيعية للتجميل في الحمام مثل الحنة مع الليمون وماء الورد أيضاً و ذلك لتعطير الجسم والحفاظ على نعومته حيث أن قديماً لم تتوفر أية ماركات ترطيب أو تعطير الجسم كما الآن. بالنسبة للشعر، يستخدم الطين المغربي المعروف ب”الغسول’’ الذي لديه الكثير من المنافع كالعمل على زيادة طول الشعر وكثافته وتعزيز بنيته، والتخلص من مشكلة قشرة الرأس وجعله أكثر نعومة. وكانت النساء المغربيات يستعملن الطين المغربي كشامبو للشعر منذ العصور القديمة.
خلال الحمام، تقوم المرأة بفرك جسدها بالكيس الخشن حيث تستعين بصديقاتها أو بـ’’الطيابة’’ التي تفرك جميع أطراف الجسم فوق قطعة جلد توضع فوق الأرض والتي تعرف ب”الجلدة. في الوقت الحالي تستخدم النساء الجلود على الأرض أو حتى الكراسي البلاستيكية. عملية الفرك غالباً ما تتم في الغرفة الحامية أكثر و ذلك لاستخراج الأوساخ والخلايا الميتة من الجسم، بعد عملية الفرك يتم شطف الجسم بالماء الساخن وإعادة دهن الصابون ليبقى الجسم برائحة النظافة قبل الشطف الآخير.
بجانب كل تلك الممارسات والطقوس، يعتبر الحمام العام في المغرب مكان روحي ومقدس، وذلك للمساواة وحس الإنتماء التي تعتليان الجو بغض النظر عن لون البشرة، شكل الجسم أو الأصول العرقية. كل النساء المتواجدات تكن بدون ملابس أو أية مواد تجميل، مما يظهر القوة الخلقية للأجساد و طمأنينة الأنفس التي تحسها الأفراد وهي داخل الحمام العام. تعايش النساء في المكان ومعاملاتهن مع بعض يكمن في مساعدة كل واحدة منها الأخرى في الاستحمام، الفرك ومشط الشعر، حيث يكون الجو مليئ بالمحادثات والقصص في جو تملؤه السعادة و الراحة. من أفضل القيم التي تزرع عند دخول الحمام العام هي رضى النساء عن أجسادهن وتقبلها باختلافها، بل وحتى تقبل الأجساد التي من حولهن.
من السهل أن تنسى نفسك في خضم صخب الحياة اليومية ولكن من خلال الحمام العام، تدرك الكثير من النساء أهمية تقبل اختلافات أشكال الناس من حولهن، وأن البشر لم يخلقوا نسخة طبقة الأصل عن بعضهم البعض، وتلك الاختلافات هي التي تميز كل فرد على حدة. خوض تجربة الحمام العام يدعك تدرك أهمية التنوع و الإختلاف بين أشكال الأشخاص، تدرك أنه لا يوجد شكل محدد للمرأة أو لجمال المرأة المثالي، وذلك لمصادفة مختلف النساء في الحمام. تكون النساء من مختلف الأعمار والأشكال، السمراوات والشقراوات، القصيرات والطويلات، النحيفات و البدينات، و حتى أن الكثيرات من ذوي الاحتياجات الخاصة يلجن الحمام ويحظين بالمساعدة من الكل. النساء تعيش في جو من الاستجمام، كما أنهن تبدن في سلام وحب مع ذاتهن و تقبلها، بل و حتى تقبل الأخريات من حولهن. للحمام طابع خاص يوحي للنساء أنه مهما يكن اختلافهن فإنهن متساويات، و كل واحدة تتميز بشكل جسدها ولون شعرها المتفرد، خاصة أنهن يتجردن من الملابس ويكن على طبيعتهن، وهذا إحساس يوحي على إطلاق العنان للذات الحقيقية للإنسان، ويحث على التأمل في الذات البشرية.
الإستحمام في المكان العام لا يفيد الفرد في الإسترخاء فقط، بل و حتى في تعزيز الثقة في النفس وحبها و تقبل اختلافات الأشخاص من حولنا. التقيت بالكثير من النساء اللواتي ترى ولوج الحمام من مختلف الزوايا. عامة النساء المغربيات يفضلن الذهاب إلى الحمام العام، حيث أن المكان يكون ساخناً و يساعدهن في تطبيق الوصفات الطبيعية للجمال الخاصة بهن، أو حتى الالتقاء بصديقاتهن لتبادل أطراف الحديث، ويعتبرن أن ولوج الحمام العام يساعدهن في الاسترخاء، وأخذ راحتهن في التحرك. على النقيض من ذلك، يوجد العديد من النساء اللواتي تمتنع عن دخول الحمام العام و ذلك لإعتقادهن أن المكان ابتدع لزعزعة تلك الحشمة الفطرية ويرين في الحمام على أنه مكان تطغى فيه مظاهر العري.
كما أن هذا لا يمنع ذكر أن هناك الكثير من النساء ضحايا أيديولوجيات معاصرة واللواتي ينتقدن أجساد الأخريات بحكم أنها لا تنطبق على مواصفات الجسم المثالي التي تبرزها الإعلام في الإعلانات والمجلات، والتي تظهر أن جمال المرأة محدود في معايير معينة كالنحافة، الشعر الأملس وجسد خالي من الشروح أو أية علامات جسدية. هناك نساء تخشى دخول الحمام العام بسبب تحديق الناس إليهن، و خاصة الفتيات حيث أنهن يحسسن بعدم الثقة بأجسادهن، ويفضلن الاستحمام في المنزل أو الذهاب إلى الحمام في الصباح الباكر حيث يوجد عدد قليل من المستحمون في المكان.
تذكر لي بعض الفتيات أنهن يمتنعن عن دخول الحمام بسبب شعر أجسادهن الكثيف، حيث يخشين تحديق النساء الأخريات لبنية شعر جسدهم التي تشبه الرجال، و قد تعرضن لمواقف محرجة كإعطائهن نصائح من نساء حولهم في الحمام للتخلص من الشعر الكثيف، بحكم أن المرأة يجب أن تكون ناعمة الملمس وقليلة شعر الجسد حسب التقاليد الاجتماعية التي زرعت في الكثير من الأفراد في المجتمع.
وتذكر امرأة امتنعت مؤخراً من الاستحمام في المكان العام بسبب حدث كان قد وقع في حمام الحي الخاص بهم، وهو دخول أجنبية مع آلة تصوير لتوثيق الحدث بدون علم العاملين بالمكان. فكانت المرأة تستحم حتى تتفاجئ بآلة تصوير أمامها وهي عارية. فقد كان تصرف المرأة الأجنبية عفوياً بسبب غرابة تقاليد الحمام بالنسبة إليها، لكنها أوقعت نفسها في المشاكل بتسرعها وعدم تفكيرها جيداً باحترام تقاليد ثقافة مغايرة عنها.
عندما أذهب إلى الحمام العام، أشعر أنني داخل لوحة زيتية من حضارة اليونان، و ذلك بتناسق أشكال الأجساد والمياه فوقها مع بخار المياه الساخنة. حتى أن هندسة المكان وإضاءته الخافتة ترجع بك إلى تذكر المغرب القديم بنسائه و تقاليده، حيث كان الكل يجد متعة و راحة في دخوله، كما أنه اعتبر نشاط أسبوعي لكثير من النساء قديماً.
في الحمام يبدو الجميع مسترخياً بعيداً عن ضوضاء الشارع وأماكن التسوق المكتظة. الكل يكون في سكينة يراقب انسكاب المياه الساخنة من الأنابيب مع البخار الكثيف الذي يساعد على الإسترخاء، و رائحة المواد الطبيعية العطرة التي تفوح من مختلف الزوايا تساعد الفرد أكثر على الاستجمام مع الجو.
قد يرى العديد من الناس أن الاستحمام بوجود مع آخرين كأمر محرج، ولكن في الثقافة المغربية يعد الحمام العام من التقاليد التي يستفيد منها المرء جسمانياً ونفسياً، حيث يعتبر عامل اجتماعي مهم يقوم بتوطيد العلاقات بين الناس و زرع مختلف القيم وحب النظافة فيهم.
يمكنكم متابعة مرآة على إنستغرام