تصوير: فاطمة عمر
إنه الأحد يوم العطلة الأسبوعية في تونس، يوم الاستراحة بعد ضغط ستة أيام من العمل والفرصة الوحيدة للاستمتاع بساعات نوم إضافية صباحاً، لكن هذا الأحد تغيرت المعادلة. استيقظت على صوت صديق على الهاتف يقول لي "قومي الشياب خلاوها لترصيلنا نصمتو في المقرونة" (انهضي الشيوخ أفسدوها أو سنضطر لطبخ المكرونة) في إشارة إلى قيام نبيل القروي، أحد المترشحين للرئاسة بتوزيع معونات غذائية على الكثير من المواطنين بينها المعكرونة وأصبح محل تندر. غلبني الضحك واضطررت للاستيقاظ في توقيت مبكر عما ألفته سابقاً في هذا اليوم على أمل أن أجدد الاقتراع والتغطية معاً.
شربت قهوتي وفي الأثناء كنت أغالب قراراً اتخذته مسبقاً بعدم التصويت في الانتخابات الديمقراطية الثانية منذ الثورة، فأغلب الوجوه المطروحة جربناها وأثبتت فشلها، وأخرى ولدت من رحم الفشل والفساد وتسربت إلى الفئات المفقرة بوعود هي برأيي كاذبة، وآخرون وإن كنت أعي نظافة يدهم وصدقهم إلا أنني أدرك أيضاً عجزهم عن الخروج من أبراجهم العاجية والنزول خاصة إلى تلك الجماهير المنسية المهمشة التي سئمت وعود تيارات سياسية وصلت الحكم بأصواتهم ثم تنكرت لهم.
كنت مترددة بين أداء واجبي الوطني وبين استيائي من المشهد السياسي برمته في تونس. في تلك الأثناء وأنا أقلب صفحتي على فيسبوك استوقفني أحدهم وقد نشر على حسابه قول الشاعر التونسي الكبير الصغير أولاد أحمد "إذا كنت شعباً عظيماً فصوت لنفسك في اللحظة الحاسمة." هذه الجملة لسبب ما، وجدتها تدفعني بقوة للخروج وقد عزمت على التصويت حتى وإن كان هذا الخيار يعني أنني سأصوت لأفضل السيئين لا لأفضلهم.
سنوات الإحباط المتتالية من أداء الحكومات المتلاحقة ألقت بظلالها على الحضور المحدود في مكاتب الإقتراع خاصة عنصر الشباب الذي فاجأني غيابه منذ وصولي لأول مكتب اقتراع. أعداد قليلة جاءت لأداء واجبها أغلبهم ممن تجاوزت أعمارهم الخمسين عاماً
حملت كاميرتي وتوجهت أولا لأقرب مكتب اقتراع لبيتي، لم تكن هذه المرة الأولى التي أخوض فيها تجربة الاقتراع وتغطية الانتخابات في تونس، سبق أن فعلت ذلك في 2011 و2014. لكن لكل تجربة تفاصيلها وأجواءها خاصة إذا أخذنا في الاعتبار مسألة معدلات الإقبال على التصويت التي أخذت نسقاً تنازلياً لافتاً طيلة سنوات ما بعد الثورة. وفعلاً التجربة هذه المرة بدت مغايرة، فسنوات الإحباط المتتالية من أداء الحكومات المتلاحقة ألقت بظلالها على الحضور المحدود في مكاتب الإقتراع خاصة عنصر الشباب الذي فاجأني غيابه منذ وصولي لأول مكتب اقتراع. أعداد قليلة جاءت لأداء واجبها أغلبهم ممن تجاوزت أعمارهم الخمسين عاماً.
حاولت أن أقنع نفسي بأنه الأحد والشباب تعودوا الاستيقاظ متأخرين ولهذا سيكونون في الموعد بعد منتصف النهار. كنت في الحقيقة أحاول إيهام نفسي بسيناريوهات أفضل لا غير. فأنا أعي عزوف الشباب في تونس على الفعل السياسي برمته في ظل ارتفاع معدلات البطالة خاصة في صفوف خريجي الجامعات لمستويات قياسية، حيث تشير احصائيات إلى أن نسب البطالة لدى الشباب، بين 15 و24 سنة، وصل إلى 34.4٪ في النصف الأول من هذا العام.
أعي جيداً أن استياء الشباب بلغ مستويات كبيرة وأن لا فرصة في الوقت للراهن لإقناعه بأنه بهذا القرار، قرار المقاطعة، يفوت على تونس إمكانية ركل الوجوه القديمة، وأنه بهذا إنما يمنح الأحزاب الفاشلة الفرصة للوصول مجدداً. ورغم ذلك تجاهلت مخاوفي على أمل أن يكون ما رأيته في المكتب الذي يوجد على مقربة من بيتي والذي من المقرر أن أقوم بالتصويت فيه مجرد حالة. أزعجني التفكير في احتمال أن يكون عزوف الشباب قد شمل أغلب مكاتب الاقتراع، فقررت دون تردد مغادرة مكاني والتوجه لغيره عسى أن أجد فيه ما يكذب فرضيتي ثم أعود مجدداً للاقتراع.
غادرت إلى منطقة أخرى كان الحضور فيها أفضل مما تركته ورائي ولكنه دون المأمول، مرة أخرى كبار السن يصنعون الفارق وبعض الشباب أغلبهم من الفتيات يأخذون أماكنهم في الصف القصير، اضطررت للمغادرة لمكتب آخر هذه المرة أيضاً. كانت يحدوني الأمل أن يهب الشباب مرة واحدة ويقلبوا المعادلة ضد السياسيين الذين خذلوهم لكن خابت توقعاتي.
تذكرت أول انتخابات في تونس سنة 2011 كيف كان الاكتظاظ سيد الموقف، طوابير الناخبين الطويلة في كل مكان والغالبية الساحقة شباب يافع قدم مبكراً للتصويت لأسماء راهنوا على نزاهتها وسلموها أحلامهم التي استعادوها بسقوط نظام بن علي
مررت بخمسة مكاتب في مناطق مختلفة من العاصمة وقفت في كل واحد منها أكثر من ساعة ونصف تابعت فيها سير العملية الانتخابية والتقطت بعض الصور بين الحين والآخر وأنتظرت الهبة التي لم تحدث. تذكرت أول انتخابات في تونس سنة 2011 كيف كان الاكتظاظ سيد الموقف، طوابير الناخبين الطويلة في كل مكان والغالبية الساحقة شباب يافع قدم مبكراً للتصويت لأسماء راهنوا على نزاهتها وسلموها أحلامهم التي استعادوها بسقوط نظام بن علي. تذكرت عندما تحدثت إلي بعضهم وكيف حاول كل منهم إقناعي بأن دولة جديدة قادمة وأحلاماً ستعرف طريقها الصحيح، أخبروني عن حماستهم لدخول العهد الجديد وعن تطلعاتهم الكبيرة، كلها ذهبت في مهب أكاذيب السياسيين الذين تلاحقوا على الحكم.
بقيت على هذه الحال طيلة اليوم ولم تحدث المعجزة فجأة تذكرت أنني لم أقم بالاقتراع، ولم يكن أمامي سوى 15 دقيقة فقط ويغلق المكتب الذي تركته على أمل العودة إليه للتصويت. سارعت لأستقل تاكسي تأخذني بسرعة هناك، ولكن لسوء حظي تأخرت ووصلت في اللحظة التي تم فيها إغلاق الصناديق. أحسست بخجل كبير أنا التي كنت طيلة اليوم أتنقل من مكتب لآخر على أمل وجود عدد كبير من الشباب قد قدموا للتصويت، أضعت الفرصة للإدلاء بصوتي وكنت واحدة منهم. لست أدري هل فعلت ذلك سهواً حقاً أم كان تضامناً مع بقية الشباب المستاء من السياسيين في بلادنا.
على الرغم من نسبة التصويت المتدنية التي بلغت 45٪ إلا أن هناك أمل في إختيار شخص مناسب كرئيس في النهاية. توجهت لقصر المؤتمرات حيث تعلن نتائج الانتخابات. أخذت مكاناً وسحبت الحاسوب "اللابتوب" وبدأت أخط هذه الكلمات وأنا أتابع في الأثناء النتائج التي بدأت تخرج تباعاً لترجح مبدئيا كفة مرشحين من خارج المنظومة القديمة وهم قيس سعيد ونبيل القروي. الأول عرف بنزاهته كأستاذ قانون دستوري بأحد الجامعات التونسية، ونقده لنظام الحكم بعد الثورة. وقد رفض سعيد أموال الدولة لتنظيم حملته الانتخابية وتولى نشر حملته في المقاهي بالتواصل مع الشباب مباشرة ولهذا تعاطف معه الكثير من الناخبين وجعلوه يصعد على رأس القائمة موجهين صفعة لمرشحي الأحزاب الحاكمة.
أما القروي، فهو رجل أعمال متورط في قضايا فساد وأدخل السجن في أغسطس في حركة لم تلقى تجاوباً شعبياً واعتبرت مدبرة لإقصاءه. القروي، مالك قناة نسمة الخاصة، هو صاحب جمعية خيرية قدمت الكثير من المساعدات لعديد التونسيين المهمشين في مناطق مختلفة من البلاد على مدار أكثر من سنتين، فكافأه هؤلاء بالتصويت له ومنحوه فرصة العبور للدور الثاني موجهين صفعة للطرف الذي كان وراء عملية سجنه وأعني بذلك رئيس الحكومة المتنحي وأحد المرشحين للرئاسة يوسف الشاهد.
بعد يوم طويل، شعرت بإرهاق شديد فحملت نفسي المثقلة بتفاصيل هذا اليوم وعدت إلى البيت، وأنا أقول لنفسي، ترى هل كان كل ذلك ركضاً وراء سراب؟