Vice Final Landscape
صحة نفسية

عن الاكتئاب الوظيفي الذي يصاحبني منذ عشر سنوات

لا يزال بإمكاني القيام بالمهام الحياتية، وإن كنت لا أشعر أنني أستمتع بها ولا تجلب لي السعادة

"الألم النفسي أقل دراماتيكية من الألم الجسدي، ولكنه أكثر شيوعًا وصعوبة أن نتحمله. ومن الأسهل أن تقول أسناني تؤلمني بدلاً من أن تقول قلبي مكسور." هذا الاقتباس للكاتب البريطاني سي أس لويس، من كتابه مشكلة الألم قد يعبر باختصار عما نعانيه نحن المكتئبون.  

قد لا يعرف أقرب الناس إليّ أنني أعاني من الاكتئاب، فأنا أبدو من الخارج شخصاً طبيعياً. لدي عملي الذي أحبه، وأمي وإخوتي الذين أهتم بهم، أتفاعل مع أصدقائي ومعارفي، أسخر من كل شيء حتى نفسي، أضحك وسط الجميع بصوت مرتفع جدًا ولا أجد مشكلة في محاولة إضحاك الآخرين، لكن من الداخل الأمر مختلف تمامًا. 

إعلان

الاكتئاب مرض شائع في جميع أنحاء العالم، حيث يصاب به أكثر من 264 مليون شخص، بحسب منظمة الصحة العالمية. ويختلف الاكتئاب عن التقلبات المزاجية المعتادة والاستجابات العاطفية قصيرة العمر للتحديات في الحياة اليومية. يمكن للاكتئاب أن يتسبب في معاناة الشخص المصاب بشكل كبير وفي أسوأ حالاته، يمكن أن يؤدي إلى الانتحار -والذي يُعد السبب الرئيسي الثاني للوفاة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا.

في معظم الحالات لا يستطيع بعض الأشخاص المصابين بالاكتئاب الذهاب إلى العمل أو المدرسة، حتى أبسط الأمور قد تبدو صعبة ولا قدرة لهم على القيام بها. ولكن ليس هذا هو الحال بالنسبة للأشخاص الذين يعانون مما يُسمى الاكتئاب الوظيفي High-Functioning Depression، وهذا هو الاكتئاب الذي يصاحبني منذ سنين، حيث لا يزال بإمكاني القيام بالمهام الحياتية، وإن كنت لا أشعر أنني أستمتع بها ولا تجلب لي السعادة. 

المكتئب لديه أساليب يستطيع بها التحايل على المجتمع حوله لأنه يعلم أن الإفصاح عن اكتئابه لن يصحح الأوضاع بل سيزيدها سوءًا

الفارق الجوهري بين الاكتئاب العادي والاكتئاب الوظيفي، أن الأخير يصيب الشخص لكنه يؤدي عمله بشكل طبيعي، بل أنه يستطيع التظاهر أنه بخير ويبرع في دوره لدرجة كبيرة، ولهذا في حال فكر بالانتحار أو قام بالانتحار، لا يفهم كثيرون حتى أقرب الناس إليه كيف حصل ذلك؟ "فقد كان يبدو سعيداً." الأشخاص المصابون بالاكتئاب الوظيفي يعيشون مع شعور دائم بأن شيئًا ما ليس على ما يرام، ولكنهم لا يعرفون ما هو بالضبط. ويتم التأكيد على هذا الشعور من خلال محاولتك الادعاء أنك بخير، مما قد يشعرك بالإحباط من نفسك لعدم قدرتك على تجاوز مشاعرك ببساطة، أو بالإحباط من عدم قدرة الآخرين على إدراك أنك تكافح يومياً.

من الأشياء الخادعة عند الحديث عن الاكتئاب هو أن الناس عادة ما يرون الشكل الخارجي فقط، الاهتمام بالمظهر، النقاش الساخن حول موضوع ما، لكنهم لم يرونني عندما كنت جالسـًا في غرفتي أشعث الرأس، وملابسي رثة، وقضيت أياماً بدون غسل وجهي لأنني غير قادر على ترك السرير ومواجهة العالم. المكتئب لديه أساليب يستطيع بها التحايل على المجتمع حوله لأنه يعلم أن الإفصاح عن اكتئابه لن يصحح الأوضاع بل سيزيدها سوءًا.   

إعلان

تُعرف الدكتورة ألفت علام، الاختصاصية النفسية واستشارية العلاج النفسي والإدمان وخبيرة دولية في الصحة النفسية الاكتئاب بأنه "اضطراب مزاجي يسبب شعور متواصل بالحزن وفقدان المتعة، وإحساس الفرد بعدم جدوى الحياة، ويظهر ذلك من خلال ثلاثة مستويات: مشاعر وأفكار وسلوك. المكتئب يشعر باليأس، وأن وجوده لا فائدة منه، كما أنه يحكم على نفسه بالفشل، وعدم قدرته على إنجاز الأشياء، ولا يستطيع القيام بالأنشطة اليومية ويركن إلى العزلة، وقد تصل الأمور إلى التفكير أو القيام بالانتحار."

الدكتورة ألفت تقول إنه لا يوجد تشخيص طبي اسمه اكتئاب وظيفي، لكن طبيعة العمل أحيانـًا قد تكون ضاغطة مما يؤدي لرفع حدة الشعور بالاكتئاب وتضيف: "قد يتعرض الشخص للاحتراق الذاتي الوظيفي لأن سوق العمل فيه منافسة شديدة، ويحتاج تطوير قدراته بشكل متسارع لأنه يود أن يكون أفضل دومـًا، ولهذا يشعر وكأنه يصارع طواحين الهواء."

منذ عشر سنوات تقريبـًا، وهذا الشعور لا يفارقني، وكلما حدث شيء إيجابي يساعدني على النهوض مرة أخرى، يكون النهوض للحظات، ثم أقع في هذه الحُفرة العميقة من جديد

أشعر في معظم الأحيان بأنه لم يعد لدي رغبة قوية في عمل الكثير من الأشياء، أو بمعنى أدق، الرغبة تتلاشى بسرعة غير مفهومة. أشعر في معظم الأيام بأن هذه الرغبة في اللهاث وراء الأحلام -وكأنني في سباق خيول- أصبحتْ شبه معدومة (مابقاش فيا نَفَس)، أترك الأشياء والأشخاص سريعـًا، أنعزلُ بشكل كامل عن العالم. منذ عشر سنوات تقريبـًا، وهذا الشعور لا يفارقني، وكلما حدث شيء إيجابي يساعدني على النهوض مرة أخرى، يكون النهوض للحظات، ثم أقع في هذه الحُفرة العميقة من جديد.

من علامات هذا النوع من الاكتئاب وفق عدد من الخبراء، أن يوم الشخص المكتئب إذا كان جيدًا، فالأمر لا يتخطى لحظات من السعادة التي تمر فورًا دون احتفال، لكن اليوم السيء يكون له مذاق خاص، ويستمر طويلًا، لدرجة قد تعيق الفرد تمامًا عن الإنتاج. وهذا معناه ببساطة أن أي شيء يجلب السعادة لا يستطيع أن يمحي المشاعر السيئة التي تسيطر علينا علينا. معضلة أخرى يعاني منها أصحاب هذا النوع من الاكتئاب، أنهم مصابون بفرط في المثالية التي تؤرقهم صباح ومسا، على رأي السيدة فيروز، فالوصول للمثالية لن يتحقق، وبالتالي هناك شعور دائم بالإحباط والقلق والذنب لأن كل ما أفعله ليس كافيـًا، مهما كنت جيدًا.

إعلان

هذا النوع من الاكتئاب، يؤثر عليَّ جسديـًا، فكثيرًا ما أعاني من الأرق، والكوابيس التي لا سياق لها، قد أحلم أحيانـًا بواقعة حدثت منذ سنوات ولم يحدث أي شيء قبل النوم كي يحفز ظهورها في الحلم، فتكون النتيجة يوم -وربما أيام- سيئة جدًا. أيضـًا، كثيرًا ما أعاني من مشاكل في الهضم، فالتوتر الناتج عن كل هذه الأفكار والمشاعر تؤثر بشدة على طريقة تناولي الطعام، فأصاب بإمساك شديد في المعدة قد يصيبني بنزيف أحيانـًا، أو العكس تمامـًا، فأفقد القدرة على الجلوس والعمل بتركيز.

عندما تشتد نوبة الاكتئاب عليَّ، يكون التفاعل مع الآخرين مرهقًا جدًا، لكن الأكثر إرهاقـًا عندما أجد أحد المقربين يبدأ في قول عبارات مثل: ما كلنا مكتئبين .. انت مكبر الموضوع ليه .. هو انت على طول مكتئب كده؟ إنت مزودها .. مش عايز تاخد علاج ليه؟ ما تشوف دكتور بدل اللي انت عامله في نفسك ده؟ ما تسافر؟ إرجع لربنا! مثل هذه الأشياء التي تقال أحيانـًا بنية طيبة ممن حولي، محاولين إخراجي من هذه الحفرة، تؤدي دون قصد لابتعادي عنهم. وهذا ما تحذر منه علام بقولها: "يجب الإنصات الجيد جدًا لشكوى المكتئب."

للأسف يُقلل الآخرين من أحاسيس المريض بالاكتئاب ووضعه ومشاكله، مما يجعله منعزلًا ولا يعبر عن شكواه. الدراسات تشير أن ٩٠٪ ممن انتحروا، أو حاولوا الانتحار أو فكروا فيه كانوا يعانون من اضطرابات نفسية وكان الاكتئاب أكثرها شيوعـًا." وترى علام أنه لابد من قبول المكتئب الذي قد يكون شكاءً، لذا فالاهتمام به من قبل الأهل والأصدقاء قد يكون داعمـًا له ويشجعه على طلب العلاج، وفي حال التفكير في الانتحار يجب أن يواظب الأهل على متابعته، أو يؤخذ للطبيب حتى لو رغمـًا عنه لأنه قد يكون غير قادر على اتخاذ قرار بمفرده في هذه المرحلة.

خلال العامين الماضيين، أدركت أن فقد/موت عدد من الأشخاص المقربين في حياتي، له سبب كبير في اكتئابي. فالموت أحد أسباب إثارة وتعزيز الاكتئاب لدى الأفراد، وهو يختلف عن الحزن، فمدة الاكتئاب تطول وتدوم، لكن الحزن قد يرتبط بحدث الموت نفسه وقد يتلاشى بعدها. كما أن الشخص المحزون على فقد أحد أحبائه قد يقبل الدعم المعنوي ممن حوله، لكن المكتئب يبتعد عن الجميع، فيكون الحزن مكملًا للاكتئاب. مازال الإنكار مصاحبـًا للاكتئاب عندما تأتى ذكرى وفاة أبي الذي رحل دون أن أراه أو أحضر دفنه وعزائه. ومع اقتراب الذكرى السنوية، تصير الفترة السابقة والتالية ليوم الوفاة جحيمًا. مشاعر لا نهائية بالذنب وجلد الذات، بكاء في سياقات غير منطقية، وبالطبع الاعتماد على النوم وسيلةً للهروب من الواقع، لكن الهروب يفشل مع حدوث الكوابيس. "إن الفقد يؤدي لحزن ووحدة وخوف، لكن الأمر يعتمد على نمط كل شخص ومرونته النفسية، فالاستجابة للصدمة النفسية تختلف بين الأفراد. فهناك أفراد يتعرضون لاكتئاب شديد بعد فقدان قريب لهم،" وفقـًا لعلام.  

في بعض الأيام الجيدة يأخذ الاكتئاب استراحة قصيرة، انفصال مؤقت، لكنه ليس طلاقـاً بائنًا. يختفي شعوري بالتعب عندما أشعر ببعض الإنجاز، لكن شعور السعادة يتلاشى بعد ذلك، وكأنني شعرت بنشوة المخدر لحظة دخوله جسدي. المعاناة الحقيقية تبدأ عندما يذهب الشعور اللحظي، وأعود لنفس الشعور بالفراغ. كل صباح أعود إلى نفس الدائرة، وكما يقول عبد الرحمن الأبنودي "بنلف في دواير والدنيا تلف بينا، ودايماً ننتهي لمطرح ما إبتدينا."