05-02-2021 (1)

الرسمة مقتبسة من عمل فني ضد العنف في المكسيك بالإشارة إلى النساء اللواتي تم قتلهن على أيدي شركائهن.

مرأة

عن العائلات العربية العنيفة.. أو متى ينتهي هذا الجحيم؟

الكثيرات لا يُبلغن السلطات لأن تلك السلطات هي نفسها تحمي الجناة بدلًا من الضحايا

خائفات، مقموعات، مُعنفات، هاربات أو مقتولات. تلك هي حالة النساء والفتيات في بلادنا العربية، بلا تجميل وبلا منطق. نعيش في بلدان تُبرر العنف ضد النساء بحجة التأديب وأحيانًا تنصّ عليه تشريعاتها، أو لدوافع مُسمّاه جُزافًا "الشرف" وهي ليست منه في شيء. كيف نُضيف منطق إلى هذه السادية والكرّه تجاه النساء، ولماذا نُجمله بينما نعيشه جحيمًا يوميًا؟ الكثيرات منّا تعرضت لعنف من الأسرة والعائلة. والكثيرات لا يُبلغن السلطات لأن تلك السلطات هي نفسها تحمي الجناة بدلًا من الضحايا.

إعلان

من لبنان، الأردن، السعوديّة، ومصر قوانين مناهضة للعنف الأسري غائبة أو موقَف تنفيذها. ومن المحيط للخليج، تدوي صرخاتهنّ على الإنترنت بشكل شبه أسبوعي. هؤلاء اللواتي وقعنّ بين مطرقة عنف الأسرة وسندان تواطؤ السلطات والوصم الاجتماعي. وسمٌ من هنا: أنقذوا فلانة، حق فلانة، أين فلانة.. على فيديو من هناك: أتعرض للضرب والتعذيب، هربت من بلدي بسبب عنف أسرتي، حبسوني.. والدي يطاردني، أخاف من الإبلاغ، أنا خائفة على حياتي. مؤسف أن النساء يلجأن للإنترنت لتحريك الرأي العام فيشعرنّ بالإنصاف، عوضًا عن قوانين تُجرم مُعنفيهنّ.

جرائم في لبنان، الأردن، السعودية
هذا العام، أو لنكن أدق، الشهر الأول من هذا العام، شهدنا عدة حالات من العنف الأسري بعضها انتهى بقتلهن. البداية من لبنان، حيث أقدم رجلٌ على خنق زوجته حتى الموت في منطقة عين المريسة في العاصمة بيروت، فيما وُجّهت أصابع الاتهام إلى الزوج. وأفادت وسائل إعلام محلية بأنّ الزوجة زينة كنجو، سبق أن تقدّمت بدعوى عنف أسري ضدّ زوجها، وكانت تنتظر الحصول على الطلاق قبل أن يستدرجها الزوج إلى منزلهما.

هذه الجريمة تنضم إلى عشرات الجرائم المرتبطة بالعنف الأسري في لبنان، حيث ارتفعت وتيرة العنف ضد النساء في ظل الوباء، كما جاء في تقرير نشرته منظمة أبعاد في مايو الماضي بنسبة تجاوزت ٣٠٪ بين ٢٥٠ امرأة شاركت بالاستطلاع.  وسجلت الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية، حدوث ارتفاع في عدد المبلغات عن العنف الأسري بالهاتف وصلت إلى أكثر من ٥٠٪. 

إعلان

القصة تتكرر بمجرمين آخرين في الأردن، حيث انتشر هاشتاغ "فتاة مستشفى الجامعة" أواخر يناير ٢٠٢١ على تويتر. تداول المغردون/ات قصة فتاة تعرّضت للتعذيب والاحتجاز القسري من قِبل أخيها وأُشيع أنها فقدت حياتها. بينما نفى الأمن العام الأردني وفاتها، تم الإفراج عن الأخ المُعنّف وإحالته إلى الحاكم الإداري بدلًا من محاكمته بتهمة جنائية وهو ما اعتبر أنه تواطؤ من القانون مع الأسر المعنّفة. وعلى انستغرام، نشرت الأردنيّة ليّان مقاطع مصوّرة تروي فيها قصة تعرّضها للعنف والاعتداء الجنسي من أخويها، مما اضطرها الهرب إلى تركيا.

 رغم اقرار الأردن قانون يجرّم العنف الأسري عام ٢٠٠٨، فإن وجود ما يسمى بـ "إسقاط الحق الشخصي" في قانون العقوبات الأردني واعتماده منتصف عام ٢٠١١، يضع النساء المُعنّفات أسريًا في مأزق حيث يتعرّضنّ للضغط والتهديد للتنازل عن البلاغات وتسقط التهم الجنائية ضد المعنّفين تباعًا، أو إن كنّ قاصرات، فيحق لأولياء أمورهنّ التنازل.

إعلان

في يناير كذلك، وتحت هاشتاغ المغدوره_قمر_نطالب_بالقصاص، تجدد الجدل حول العنف الأسري في السعودية، بعد أن غردت فتاة عن احتمال مقتل أختها قمر على يد أخويها، وأسفرت نتائج إجراءات المتابعة الأمنية إلى العثور على جثمان قمر مدفوناً بمنطقة صحراوية، وقالت تقارير إلى أن شقيقيها عمدا إلى قتلها خنقاً- تم القبض عليهما لاحقًا. وقبل ذلك، وتحت هاشتاغ انقذوا رين، غرّدت شابة سعودية عن تعرضها "لأسوأ أنواع التعذيب والتحرش والإهانة خلال 10 سنوات على أيدي أهلها" وقالت أنه لم يعد أمامها خيار "غير محاولات متكررة بالانتحار." "مركز بلاغات العنف الأسري" في السعودية أشار إلى أنه تم توجيه الفتاة لوحدة الحماية الأسرية.

لا يوجد أمام النساء والفتيات ضحايا العنف الأسري الكثير من الخيارات، إما التظاهر بالخضوع للمُعنف سواء كان أم أو زوج أو أخ أو قريب. أو، الإيداع كرهًا في دار رعاية، حيث لا تغادرها المُعنفة إلا بموافقة ولي أمرها -تولّت ناشطات سعوديّات أمر كشف انتهاكات دور الرعاية تحت هاشتاغ الشريط الأبيض، تضامنًا مع النساء اللواتي يتم احتجازهنّ بالقوة في تلك الدور ويتعرضنّ لانتهاكات. أما الاحتمال الثالث، فهو تعرضها للقتل جرّاء العنف، كما حدث في عدة وقائع لنساء سعوديّات قتلنّ على يد العائلة، منهنّ خلود عسيري التي قتلها زوجها بطلقتين بالرأس أمام أهلها.

إعلان

تلجأ العديدات لمواقع التواصل الاجتماعي لفضح الانتهاكات الأسرية التي يتعرضنّ لها، لكنهنّ يختفينّ بعد ذلك، إما بسبب إلقاء القبض عليهنّ، أو تعرضهنّ لعنف أكبر من العائلة. وتحت استخدام هاشتاغ "ليش ما بلغت" تحدثت سعوديّات أسباب عدم قيامهنّ بالإبلاغ عن وقائع العنف الأسري، واستفاضنّ بالحديث عن تعرضهنّ للعنف الأسري وخوفهنّ من الإبلاغ تجنبًا لوصم عائلاتهنّ ولشعورهنّ بالتهديد. وغرّدت إحداهنّ أنها فور إبلاغها عن تعرضها للعنف الأسري من أبيها، قام الأخير بالإبلاغ عنها للشرطة. تعرّضت للسجن ثم سُجلت ضدها رسميًا سابقة عقوق والدين. 

في مصر، ٥ ملايين امرأة يتعرضنّ للعنف الأسري بشكل سنوي
العنف يتكرر في مصر كذلك، حيث كشفت دراسة حول "تكلفة العنف القائم على النوع الاجتماعي" الذي اصدره المجلس القومي للمرأة بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء أن أكثر من ٥ ملايين امرأة يتعرضنّ للعنف الأسري بشكل سنوي. وتُعاني ما يقارب ثلاثة ملايين امرأة من آثار العنف من ضرب مبرح وإصابات دائمة وعاهات مُستديمة.

إعلان

نسبة الإبلاغ عن تلك الوقائع فلم تتجاوز مائة ألف بلاغ، حيث يُعتبر أن أماكن إنفاذ القانون المصرية كأقسام الشرطة عادة ما تكون بيئة غير آمنة للإبلاغ عن العنف الأسري. فإما يحاول الضباط إثناء المُبلغة عن تحرير المحضر بحجة أن هذا شأن عائلي، أو يهددونها بالمبيت في النيابة، أو يحررون محاضر كيدية من الجناة للضغط على النساء للتنازل.

تقول نورا محمد، مديرة برنامج "مناهضة العنف ضد النساء" بمركز قضايا المرأة المصرية في مقابلة أن شكاوى النساء من العنف المنزلي ارتفعت بشكل ملحوظ بعد انتشار فيروس كورونا: "أغلب الشكايات مُعيلات ومن طبقات مهمشة، فإما يعملنّ عمالة يومية بسيطة، أو يعتمدنّ على النفقة كدخل شهري لهنّ ولأطفالهن. وبالطبع أثر الوضع الاقتصادي الحالي عليهنّ وضاعف العنف الذي يتعرضنّ له في المنزل. بعضهن فقدن عملهن الذي يُعيل الأسرة بما فيهم الزوج، وتعرضن للضرب والإهانة لعدم قدرتهن على تدبير معيشة الأسرة."

الأرقام مخيفة والحوادث مكررة في دول عربية مختلفة، وقد أظهرت دراسة أجرتها منظمة أبعاد اللبنانية بالتعاون مع هيئة الإسكوا التابعة للأمم المتحدة وصندوق الأمم المتحدة للسكان العام الماضي أن نسبة إشغال دور الإيواء المخصصة للنساء المعنفات المُدارة من قبل منظمات غير حكومية تصل إلى ٥٠٪ في فلسطين، ٨٠٪ في الجزائر، ٩٠٪ في البحرين، و١٠٠٪ في الأردن. أما دور الإيواء التابعة للحكومات، فإن نسبة إشغالها من النساء المعنفات تصل إلى ٥٠٪ في السعودية، ٦٥٪ في سوريا، و٦٥٪ في سلطنة عُمان -عام ٢٠١٧. 

إعلان

في ظل هذا الوضع، السؤال الذي يطرح نفسه طوال الوقت هو: لماذا لا تزال النساء تتعرض للعنف والقتل؟

في هرمية النظم الأبوية، يكون أرباب الأسرة من الرجال على قمة الهرم ويمارسون سلطة اجتماعية على باقي أفراد الأسرة. في حين يخضع هؤلاء جميعًا إلى سلطة الرجال الأكبر منهم في العمر، وفي أحيان كثيرة يخضعون للنساء كبيرات السن أيضًا. في أحيان كثيرة، يتم صياغة هذه السلطة بأنها احترامًا وتقديرًا، وبأن التمرد عليها أو الوقوف أمامها عدم احترام وخللًا في التربية. فالنساء متوقع منهنّ الطاعة والخضوع لأرباب الأسرة، وأي فعل يصدر منهنّ غير ذلك يتطلب تأديبًا يأتي في صورة عنف.

الأمر مرتبط طبعًا بالصورة المُتخيّلة عن أن الرجال هم أرباب الأسر ومُدبرو المعيشة، وأنهم رمز الحماية والسيطرة، تلك المرتبة التي رسخها نظام أبوي أعطى للرجال السلطة على النساء وصغار السن، أو للمُهيمنين منهم على الموارد، على مَن لا يملكون الموارد. السيطرة والتحكم والإشراف الكامل والمراقبة أحيانًا لسلوكيات النساء والفتيات، وضعهنّ تحت المجهر باستمرار، وهو سلوك عنيف تلجأ له غالبية الأسر العربية التي تعتقد أن شرف العائلة مُعلّق في رِقاب النساء وعلى أجسامهنّ.

تقول الباحثة النسوية اللبنانية سعاد جوزيف في مقالتها المؤسسة عن الذات والعائلة في المجتمعات العربية، أن الأشخاص داخل نظام العائلة يشكّلون هوياتهم/ن وعلاقاتهم/ن الاجتماعية داخل نظام ترابطي يجعل من كل فرد امتدادًا للآخرين ويربط نفسه بمحيطه الاجتماعي من خلالهم، أو ما أسمته الترابط العلائقي (Relational Connectivity). 

في هذا الترابط هناك اختلاف بين المجتمعات العربية التي تعطي الأولوية للجماعة/الأسرة على حساب الفرد، وأخرى تعطي الأولوية للفرد بسيادة القانون. الحكومات والتشريعات تدعم كذلك هيمنة نظام الأسرة على الأفراد وطُمس هوياتهم/ن وفردانيتهم/ن داخلها حتى أن القوانين في أغلب البلدان العربية تخلو من تجريم العنف الأسري أو لا تطبق عقوباته وتعتبره شأنًا خاصًا، وخصوصيته المزعومة مكّنت الكثير من المُعنفين بسبب غياب الرادع القانوني.

يبدو أن كثير من الرجال الذين كبروا في مجتمعات أبوية سامة، يشعرون بالتهديد من تنامي تمكين النساء لأنفسهنّ بمعزل عن العائلة ويملكنّ قرارات حياتهنّ. يشعر الرجل بتهديد لرجولته الهشة التي بنتها الأبوية في علاقة ترابطية بينه وبين النساء. فإن لم يكن قادرًا على فرض سيطرته على أخته أو ابنته أو ابنة أخيه، فلن يرى نفسه "رجلًا" بمفهوم السيطرة والتحكم. وهذا يشبه الأنظمة السلطوية التي تلجأ للعنف والسجن والقتل كلما شعرت أن سلطتها مهددة.

أعتقد أن التغييرات الاجتماعية والسياسية التي كان لها صداها الاجتماعي بسبب الحراك النسوي في المنطقة، تسبب بإحداث فجوة بين نساء تؤمن بحقها في جسمها وفي ملكية قراراتها، وبين رجال يقتاتون على خضوع النساء لهم تحت لواء الأسرة. فكيف لرجل أن يبني ذاتًا مُسيطرة دون أن يَجد مَن يُسيطر عليه؟ هؤلاء يفتقدون إخضاعنا ويحاربون بشراسة لاستعادة سيطرتهم مرة أخرى. يُمارسون العنف ويزهقون أرواح النساء بحثًا عن وهم الرجولة الزائف.