كان دائمًا والدي دائم التكرار لجملة وما زال حتى اللحظة لكنني غير مقتنعة بها البتة، يقول:" كل شيء يبدأ صغير ويكبر إلا الحزن يبدأ كبير ويصغر." يظن الكثير ومن بينهم والدي أن الحزن يتلاشى كلما مر عليه المزيد من الوقت إلى أن يختفي اختفاءً كليًا، إن كان كذلك، لمَّ لا يزال متشبثًا بي منذ رحيل أمي "فاتنة" وأنا في عمر الثلاثة عشر عامًا - أي قبل 12 عامًا. أنا أؤمن أنه حتى وإن قل وقعه، من المستحيل أن يختفي كليًا، وإن اختفى سيترك فراغًا هائلاً في القلب، وجروجًا لن يداويها شيئًا مهما كان، لا الحب ولا النجاح ولا الزواج. في يوم الأم، سأشارك معكم بعض التفاصيل التي افتقدها منذ رحيل والدتي.
أحن إلى نطق الكلمة الوحيدة التي تدخل الإطمئنان والراحة إلى قلب كل من يقولها.. "ماما. يااااه، لم ألفظها منذ زمن بعيد، حين أحاول نطقها، أشعر وكأنني أحاول جاهدةً أن أنفض عنها أكوامًا من الغبار.الحنين إلى صوتها
اشتقت أن أسمع صوتها الهادئ وهي تتحدث معي، وإلى صوتها الصاخب وهي غاضبة. أحن إلى "صباح الخير" و"ديروا بالكم على حالك" و"يلا نروح مشوار" والكثير الكثير. أستذكر مقولًة لأنيس منصور يتحدث فيها عن فقدان والدته حيث يقول:" إذا فتحت باب غرفتي فلن أسمع: صباح الخير يا حبيبي. التي أجدها ضاحكة على وجه أمي. تصور إنني أسمع هذه العبارة لمدة 30 سنة متوالية دون أن تتعب أمي في تكرارها. صحيح أن الأم هي الإنسان الوحيد الذي لا يتعب من الحب. انتهى كل هذا. والآن بدأت المرحلة التي نشتري فيها الحب. نهضت من الفراش وأنا لا أعرف بالضبط ماذا عساي أن أفعل، فهذه هي المرة الأولى التي أجدني فيها أمام نفسي وجهًا لوجه. وكنت أقول لنفسي: هل معقول أن تطلع الشمس في مثل هذا اليوم. هل معقول أن تطلع الشمس غدًا إذا فاتها أن تطلع اليوم. وكنت أقول لنفسي: لا أعتقد ذلك. هل معقول ألا يشعر أحد بهذه الكارثة التي حدثت لي؟!" كما أستحضر ما يعيشه مريد البرغوثي عندما يقول:" هذه العبارة المحببة الحنون، هي أجمل ما يمكن للمرء أن يسمعه من شخص يعنيه عند الوداع. تقولها لي أمي كلما خرجت من البيت، كلما سافرت، كلما غبت في مهمة أو عمل. "دير بالك على حالك." كيف أدير بالي على حالي الآن يا إمي؟ مشان الله تخبريني!أفتقد حضنها
تلك اللمسة التي تخدر القلب وتهدئ ضرباته السريعة. أفتقد لمسة راحة يدها على كتفي، وإلى الحضن الذي كنت أهرب إليه من أي شيء يخيفني، وإلى طرف ثوبها الذي كنت أشده كي أختبئ من إحدى أخواتي فاحتمي به. أفتقد نظراتها التي كنت أفهمها دون أن تتفوه بحرف واحد، إلى صلاتها ودعائها وطبطبة يدها على ظهري. أفتقد أن تلك الأيام عندما كنا نتربع جميعنا على الأرض ونتلف حولها وهي تعد الكعك والمعمول وأصابع الهانم بالسكر استعدادًا للعيد، وإلى شهقتها وهي تعد الملوخية بأول يوم من شهر رمضان، كانت دائمًا تحب أن تعدها لنا باليوم الأول ظنًا منها أنها ستجعل سنتنا سنة خضراء تمامًا كاخضرار الملوخية. أفتقد كل شيء يا ماما.كل ما هو مفرح باهتٌ، والمحزن موجعٌ أكثر
أصبحت أهاب المناسبات السعيدة، إذ إن فرحتها دائمًا ناقصة ويستحيل لها أن تكتمل مهما حاولنا وتمالكنا أعصابنا وتظاهرنا بنسيانها. طيف أمي يعشش في ذاكرتنا، فعندما يفرح القلب لمناسبة تسره أو يحزن موجوعًا، يرسل إشارةً سريعةً إلى الذاكرة فينتفض طيفها ليتراقص أمام أعيننا، ففي الفرحة تأبى إلا أن تكون أول الحاضرين وفي التعاسة لا تتركنا إلا بعد أن تداوينا. لم أكن أعلم أن احتفاظ الذاكرة ببعض الجمل بصوتها ونبرتها قد يكون يومًا بمثابة مهدئًا في لحظات الضعف. تزوجت ثلاث أخوات لي، لم أذكر سوى أن عيناي قد غرغرتا بالدموع فور رؤيتهم بالفستان الأبيض برفقة أزواجهم، لأنني في كل مرة كنت أراها بيننا، أن أرى فرحة الأم في فرح ابنتها، تلك اللهفة، دموع الفرح، اهتمامها بكل تفصيلة من تفاصيل الزفاف، الفستان، التسريحة والميك آب وشكل الحذاء وحتى اختيار الأغاني.تكتشف أن كل ما كانت تقوله وهي بأقصى درجات غضبها صحيحٌ للغاية
أذكر جملةً كانت تكررها أمي دائمًا فور غضبها منا، كانت تقول :"بكرة بتشوفوا حياتكم من بعدي." كنا في كل مرة لا نتلقى هذه الجملة سوى بضحكات متعالية ساخرة مستبعدين أن يتحقق ذلك، ولكن بعد سنوات اكتشفنا أنها كانت على حق، فماتت ماما وبعدها بسنتين فقط تزوج أبي. الحياة من بعدها تغيرت كثيرًا. أصبحت غربة موحشة.لن تتبادلين معها الملابس والأحذية والميك آب
كنت أحب أن أقضي ساعات في خزانة أمي وأنا صغيرة، أجرب ملابسها وأحذيتها وأضع قليلاً من عطورها. ولكن مرت اثنا عشر عامًا، ولم ألمس غرضًا واحدًا من أغراضها حتى الآن، أخاف أن ألبس شيئًا فيهترئ أو أن يضيع بين حاجياتي الفوضوية غير المرتبة. أقوم أحيانًا باستراق النظر بين الحين والآخر على بجامتها الزرقاء الأحب إلى قلبي، وأشبع عيناي برؤية خطها على بعض أوراقها الخاصة. أريد لحاجاتها أن تظل بسلام كي ألجأ إلى ما تبقى من رائحتها عندما أشتاق لها.لن تكون بجانبك في يوم ولادة طفلك
إنها اللحظة المفصلية في حياة كل فتاة، تظل كل فتاة لا تدرك تصرفات والدتها حيالها إلى أن تدور الأيام فتصبح هي بالمكانة ذاتها، لتستوعب جيدًا أن كل نصائحها كانت في مكانها، وأن قسوتها أحيانًا ما كانت إلا نابعة من حنان متأصل، وأن توبيخها على عدم ارتداء ملابس معينة ما هو إلا حرصًا على صورتها أمام مجتمع شرقي تقليدي لا يرحم، وأنها كانت على حق حينما نصحتني بقطع علاقتها مع صديقة غير مناسبة. كم هو شعورٌ جميل أن تكوني أمًا لطفلٍ وأمك أمًا لك وجدةً له، وكم هو مؤلم أن لا تعيشي هذا الشعور أبداً.أفتقد وجود أمي خلال هذه الفترة الغريبة بشكل خاص، أعتقد أن وجودها كان ليكون كافٍ كي نتخطى أي صعاب سويةً وإن كانت الكورونا نفسها. أشعر في بعض الأوقات أنها فارقتنا منذ زمن بعيد، وفي أحيان أخرى يبدو كأنه حصل بالأمس. اشتقتلك.
أشتاق لمناداتها
أحن إلى نطق الكلمة الوحيدة التي تدخل الإطمئنان والراحة إلى قلب كل من يقولها.. "ماما. يااااه، لم ألفظها منذ زمن بعيد، حين أحاول نطقها، أشعر وكأنني أحاول جاهدةً أن أنفض عنها أكوامًا من الغبار.الحنين إلى صوتها
اشتقت أن أسمع صوتها الهادئ وهي تتحدث معي، وإلى صوتها الصاخب وهي غاضبة. أحن إلى "صباح الخير" و"ديروا بالكم على حالك" و"يلا نروح مشوار" والكثير الكثير. أستذكر مقولًة لأنيس منصور يتحدث فيها عن فقدان والدته حيث يقول:" إذا فتحت باب غرفتي فلن أسمع: صباح الخير يا حبيبي. التي أجدها ضاحكة على وجه أمي. تصور إنني أسمع هذه العبارة لمدة 30 سنة متوالية دون أن تتعب أمي في تكرارها. صحيح أن الأم هي الإنسان الوحيد الذي لا يتعب من الحب. انتهى كل هذا. والآن بدأت المرحلة التي نشتري فيها الحب. نهضت من الفراش وأنا لا أعرف بالضبط ماذا عساي أن أفعل، فهذه هي المرة الأولى التي أجدني فيها أمام نفسي وجهًا لوجه. وكنت أقول لنفسي: هل معقول أن تطلع الشمس في مثل هذا اليوم. هل معقول أن تطلع الشمس غدًا إذا فاتها أن تطلع اليوم. وكنت أقول لنفسي: لا أعتقد ذلك. هل معقول ألا يشعر أحد بهذه الكارثة التي حدثت لي؟!" كما أستحضر ما يعيشه مريد البرغوثي عندما يقول:" هذه العبارة المحببة الحنون، هي أجمل ما يمكن للمرء أن يسمعه من شخص يعنيه عند الوداع. تقولها لي أمي كلما خرجت من البيت، كلما سافرت، كلما غبت في مهمة أو عمل. "دير بالك على حالك." كيف أدير بالي على حالي الآن يا إمي؟ مشان الله تخبريني!أفتقد حضنها
تلك اللمسة التي تخدر القلب وتهدئ ضرباته السريعة. أفتقد لمسة راحة يدها على كتفي، وإلى الحضن الذي كنت أهرب إليه من أي شيء يخيفني، وإلى طرف ثوبها الذي كنت أشده كي أختبئ من إحدى أخواتي فاحتمي به. أفتقد نظراتها التي كنت أفهمها دون أن تتفوه بحرف واحد، إلى صلاتها ودعائها وطبطبة يدها على ظهري. أفتقد أن تلك الأيام عندما كنا نتربع جميعنا على الأرض ونتلف حولها وهي تعد الكعك والمعمول وأصابع الهانم بالسكر استعدادًا للعيد، وإلى شهقتها وهي تعد الملوخية بأول يوم من شهر رمضان، كانت دائمًا تحب أن تعدها لنا باليوم الأول ظنًا منها أنها ستجعل سنتنا سنة خضراء تمامًا كاخضرار الملوخية. أفتقد كل شيء يا ماما.
إعلان
أصبحت أهاب المناسبات السعيدة، إذ إن فرحتها دائمًا ناقصة ويستحيل لها أن تكتمل مهما حاولنا وتمالكنا أعصابنا وتظاهرنا بنسيانها. طيف أمي يعشش في ذاكرتنا، فعندما يفرح القلب لمناسبة تسره أو يحزن موجوعًا، يرسل إشارةً سريعةً إلى الذاكرة فينتفض طيفها ليتراقص أمام أعيننا، ففي الفرحة تأبى إلا أن تكون أول الحاضرين وفي التعاسة لا تتركنا إلا بعد أن تداوينا. لم أكن أعلم أن احتفاظ الذاكرة ببعض الجمل بصوتها ونبرتها قد يكون يومًا بمثابة مهدئًا في لحظات الضعف. تزوجت ثلاث أخوات لي، لم أذكر سوى أن عيناي قد غرغرتا بالدموع فور رؤيتهم بالفستان الأبيض برفقة أزواجهم، لأنني في كل مرة كنت أراها بيننا، أن أرى فرحة الأم في فرح ابنتها، تلك اللهفة، دموع الفرح، اهتمامها بكل تفصيلة من تفاصيل الزفاف، الفستان، التسريحة والميك آب وشكل الحذاء وحتى اختيار الأغاني.تكتشف أن كل ما كانت تقوله وهي بأقصى درجات غضبها صحيحٌ للغاية
أذكر جملةً كانت تكررها أمي دائمًا فور غضبها منا، كانت تقول :"بكرة بتشوفوا حياتكم من بعدي." كنا في كل مرة لا نتلقى هذه الجملة سوى بضحكات متعالية ساخرة مستبعدين أن يتحقق ذلك، ولكن بعد سنوات اكتشفنا أنها كانت على حق، فماتت ماما وبعدها بسنتين فقط تزوج أبي. الحياة من بعدها تغيرت كثيرًا. أصبحت غربة موحشة.لن تتبادلين معها الملابس والأحذية والميك آب
كنت أحب أن أقضي ساعات في خزانة أمي وأنا صغيرة، أجرب ملابسها وأحذيتها وأضع قليلاً من عطورها. ولكن مرت اثنا عشر عامًا، ولم ألمس غرضًا واحدًا من أغراضها حتى الآن، أخاف أن ألبس شيئًا فيهترئ أو أن يضيع بين حاجياتي الفوضوية غير المرتبة. أقوم أحيانًا باستراق النظر بين الحين والآخر على بجامتها الزرقاء الأحب إلى قلبي، وأشبع عيناي برؤية خطها على بعض أوراقها الخاصة. أريد لحاجاتها أن تظل بسلام كي ألجأ إلى ما تبقى من رائحتها عندما أشتاق لها.لن تكون بجانبك في يوم ولادة طفلك
إنها اللحظة المفصلية في حياة كل فتاة، تظل كل فتاة لا تدرك تصرفات والدتها حيالها إلى أن تدور الأيام فتصبح هي بالمكانة ذاتها، لتستوعب جيدًا أن كل نصائحها كانت في مكانها، وأن قسوتها أحيانًا ما كانت إلا نابعة من حنان متأصل، وأن توبيخها على عدم ارتداء ملابس معينة ما هو إلا حرصًا على صورتها أمام مجتمع شرقي تقليدي لا يرحم، وأنها كانت على حق حينما نصحتني بقطع علاقتها مع صديقة غير مناسبة. كم هو شعورٌ جميل أن تكوني أمًا لطفلٍ وأمك أمًا لك وجدةً له، وكم هو مؤلم أن لا تعيشي هذا الشعور أبداً.أفتقد وجود أمي خلال هذه الفترة الغريبة بشكل خاص، أعتقد أن وجودها كان ليكون كافٍ كي نتخطى أي صعاب سويةً وإن كانت الكورونا نفسها. أشعر في بعض الأوقات أنها فارقتنا منذ زمن بعيد، وفي أحيان أخرى يبدو كأنه حصل بالأمس. اشتقتلك.