جان سيفتي عن طريق فليكر
ارتفعت حدة التظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها عدة مدن إيرانية على مدار الأيام الخمسة الماضية، وأفادت تقارير إخبارية إلى تخطي عدد ضحاياها العشرين شخًصًا، معظمهم من المتظاهرين المناوئين للحكومة، بالإضافة إلى ضابط شرطة وعنصرين من وحدات "الباسيج" التابعة للحرس الثوري.
انطلقت الشرارة الأولى في 28 من ديسمبر الماضي، يجمعها هدف واحد وهو الاحتجاج على الغلاء وضيق المعيشة وتوجيه اللوم إلى حكومة روحاني التي عجزت عن الإصلاح الاقتصادي والعودة بالاستقرار للسوق الإيراني بعد زيادة نسبة التضخم.
هناك تفسيرات كثيرة حول أسباب اندلاع هذه التظاهرات الآن، لكن في الواقع هي تسبق ذلك التاريخ، ولكنها كانت بشكل فئوي ومحدود. صحيح أنها هذه المرة بدأت من مدن دينية مثل "مشهد" و"قم"، وهو ما يضع المحافظين وأنصار المرشح الرئاسي السابق "إبراهيم رئيسي" والرئيس السابق "أحمدي نجاد" في دائرة الاتهام؛ كونهم يسعون للخلاص من روحاني، لكن التظاهرات تمددت في عدة مدن إيرانية، وصعّدت من أهدافها إلى درجة عدم الاكتفاء بسقوط حكومة "روحاني" بل بالمطالبة باسقاط النظام الذي يحكمه "علي خامنئي".
عبرت هذه التظاهرات عن حالة الغضب من تدني مستوى الأجور وارتفاع الأسعار ونسبة البطالة وارتفاع معدل التضخم في قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، وهو ما يبرر انطلاق شرارة التظاهرات من المدن الحدودية والمناطق المهمشة والفقيرة، وكذلك الشعارات التي حملتها بالرفض تجاه النظام بكافة وجوهه المحافظة والإصلاحية والمعتدلة، وهو ما يعكس مدى خطورة الوضع على مستقبل النظام الحاكم في إيران.
بين اليوم والأمس
قارب الكثيرون بين التظاهرات الحالية وتلك التي اندلعت في العام 2009، وشكلت ما سُمي بالحركة الإصلاحية الخضراء في إيران. ولكن هناك فروق مهمة بين التظاهرات الحالية وسابقتها؛ فالتظاهرات الحالية متعددة الأهداف بين السياسية والاقتصادية، ولا تحمل هدفًا مثلما حدث عام 1979، فهي تحتج ضد تدني الأوضاع الاقتصادية وتدعو لإسقاط الحكومة والنظام ذاته، بينما تظاهرات 2009 كانت سياسية تطالب بإعادة فرز الأصوات لصالح الزعيم الإصلاحي "مير حسين موسوي" في مواجهة منافسه الرئيس السابق أحمدي نجاد.
التظاهرات الحالية بلا قيادة داخلية واقعية على الأرض، وهو ما يشكل نقطة ضعف وقوة، فلا يمكن نجاح أي ثورة أو ضمان استمرار الحراك الشعبي بلا قيادة، وهذا لم يتوفر حتى الآن مع إمكانية تطور المشهد إذا تصارعت أجنحة النظام أو اشتد العنف تجاه المتظاهرين أو حدث انفلات أمني. لكن ذلك نقطة قوة في صالح الحركة الاحتجاجية لأنه ليس من السهل إخمادها لمجرد اعتقال قادتها كما حدث مع تظاهرات 2009، حيث تم وضع الزعيمين الإصلاحيين "مهدي كروبي" و"حسين موسوي" قيد الإقامة الجبرية، وأطلق النظام على حركتهم الخضراء وصف "تيار الفتنة".
حتى الآن لم تظهر أي حركة سياسية من الخارج تستطيع أن تؤثر في الداخل بالشكل الذي يساعد على تنظيم التظاهرات بشكل أكبر وأكثر تأثيرًا على غرار ما حدث في ثورة 1979. كما أن دول الاتحاد الأوروبي تتريث في اتخاذ موقف من هذه التظاهرات على عكس ما وقع منها عام 2009، والسبب يعود إلى التقارب الأوروبي مع إيران بعد توقيع الاتفاق النووي، وكذلك حالة عدم التوافق الأوروبية مع واشنطن بعد وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض.
مع تصاعد التظاهرات وتمددها إلى العاصمة طهران، ظهرت شعارات تطالب بإسقاط نظام "ولاية الفقيه"، وهو مطلب تعزز بعد فشل الإصلاحيين في إحداث تغيير ولو على المستوى الاقتصادي. على عكس تظاهرات عام 2009 كان الشارع الإيراني يراهن كثيرًا على الإصلاحيين في تدارك فشل المحافظين، ولكن هذه المرة فشلت كل أوجه النظام. والذي يحدد إمكانية تغيير النظام، هو تآكله أمام قوة سياسية أقوى من النظام الحالي في القدرة على الحشد والتعبئة، لذلك استطاع مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران "آية الله الخميني" سلب الثورة من اليساريين لأنه كان قادرًا على الحشد المنظم أمام "الشاه".
شعارات جديدة
التظاهرات هذه المرة لم يدعمها الإصلاحيون؛ لأنهم في السلطة، ولأنها تستهدفهم، على عكس ما فعلوا في تظاهرات 2009، حيث عاقب النظام شخصيات إصلاحية مثل الرئيس الأسبق "محمد خاتمي" والرئيس الراحل "هاشمي رفسنجاني" بسبب دعمهم للتظاهرات التي يقودها الزعيم الإصلاحي "مير حسين موسوي". كذلك دخول الرئيس الأمريكي "ترامب" على الخط ومطالبته بإسقاط النظام في إيران، جعل الإصلاحيين يقلقون من نتيجة وأهداف هذه التظاهرات.
كانت الشعارات التي رفعها المتظاهرون هذه المرة جديدة، تعبر عن حالة نفور من الإصلاحيين ومن حكومة روحاني وسياساته الخارجية، ومن نظام الملالي ذاته، فقد تضمنت شعارات مثل: (لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران - الموت لروسيا - الطالب يموت ولا يقبل بالذل - لا للضغوط الأمنية - لا للمحافظين ولا للاصلاحيين انتهت القصة - سنقاتل حتى نستعيد إيران - الحرية للمعتقلين)، وهذا يخالف الشعارات التي خرجت في تظاهرات 2009، التي طالبت بإعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية لصالح الزعيم الإصلاحي "موسوي"، وطالبت بالمزيد من الحريات في التعبير. والتظاهرات الحالية تذكرنا بتظاهرات ثورة 1979، حيث كانت تطالب بسقوط الحكومة والشاه وتطالب بالعدالة الاجتماعية بشكل مباشر.
تضمّن هذه التظاهرات على شعارات مناوئة للنظام الحاكم (ولاية الفقيه)، لا يعني أن التظاهرات تستهدف النظام كله لأنها ليست موحدة الأهداف السياسية؛ فالتظاهرات كانت تتضمن أشخاصًا متعددي التوجهات السياسية، وهناك من يستغل مثل هذه التظاهرات لتوظيفها بما يخدم أهداف وتوجهاته السياسية. كذلك من سمة التظاهرات في إيران وحدة الشعار والشكل والتنظيم، وهو ما تفتقده التظاهرات هذه المرة، على عكس نظيرتها في عام 2009، حيث كانت موحدة الأهداف السياسية وأكثر تنظيمًا.
التظاهرات هذه المرة تشتعل بشكل أكبر في الليل ربما خشية من التضييق الأمني، وربما لأنها باتت تستهدف المنشآت الحكومية، وتستهدف أماكن إعتقال المتظاهرين، على عكس تظاهرات 2009 التي كانت تنظم خلال النهار. والمشترك أن كلاهما كان في الشتاء، وهي نقطة تكون سببًا في فشل التظاهرات بسبب عدم تحقق ديمومة البقاء، بسبب قسوة الشتاء في إيران.
تضمنت التظاهرات هذه المرة على دعوات نقابية وعمالية وفئوية للتظاهر، حيث تدعمها دعوات نقابية وعمالية، على عكس تظاهرات 2009 التي اقتصرت على الشباب الجامعي وأصحاب الاتجاه الإصلاحي، ولم يكن هناك نصيب للحركات النقابية أو العمالية في تلك التظاهرات.
ماذا فعل النظام لاحتواء التظاهرات؟
استطاع النظام مواجهة تظاهرات 2009، من خلال قمع المتظاهرين واعتقالهم والدفع بقوات التعبئة "البسيج" والتشكيك في أهداف المتظاهرين بالحديث عن العمالة الأجنبية. وكذلك اضعاف خدمات الانترنت، وعدم منح التراخيص للمتظاهرين حتى يكون اعتقالهم قانونيًا. والأهم من ذلك كله، استخدام المظاهرات الضخمة المضادة، فقد واجه المظاهرات آنذاك بضربة احتوائية وجهها النظام في 30 ديسمبر 2009، وهو ما أطلق عليه فيما بعد "يوم الله 9 دي"، وبالفعل نجحت التظاهرات المضادة في إعادة الطمأنة لأنصار النظام الحاكم.
أطلق النظام التظاهرات المضادة هذه المرة أيضًا في نفس ذكرى السابقة، أي بعد يومين من اندلاعها في 28 من ديسمبر الماضي، واستمرت التظاهرات المضادة بعدها، ويقف وراء تشكيلها قوات البسيج "التعبئة" وهي قوات مدنية تعبوية موالية للنظام والحرس الثوري. والعجيب أن التظاهرات هذه المرة خرجت مؤيدة للنظام ولكنها معارضة للحكومة، من أجل أن تكون الصورة منسجمة مع التظاهرات السابقة. وكذلك من أجل تحجيمها في هدف مشترك وهو الإطاحة بحكومة روحاني.
ولذلك كان من اللافت أن يهتم الإعلام المحافظ والتلفزيون الرسمي بنقل التظاهرات سواء الموالية أو المعارضة، مع شن الصحف المحافظة هجومًا على حكومة روحاني لدرجة اتهامها بالفشل.
مشهد ضبابي وسيناريوهات مختلفة
يبدو المشهد الإيراني مفتوح النهايات نتيجة لارتباط حركة الاحتجاج هذه المرة بأسباب اقتصادية وليست سياسية، وهو ما يعكس ضجر الشارع من السياسة والأيديولوجيا مُحكمة التوجه، لكن يظل الأمر مرهون بمن يعضد ساعد الشارع، لأن الدور الاقتصادي لعب دورا مهما في ثورة 1979، ولكن كان الأمر مرتبطا بتجار البازار وأصحاب المال.
كذلك يتشكل النظام الإيراني من دوائر داخل دوائر وهو ما يسهل عملية الاحتواء والقمع ويُصعب عملية التمرد على السلطة حتى في المنطقة البعيدة، والتظاهرات المضادة التي تخرج ليست بالعدد القليل رغم أنها تأخذ جانب النظام في مواجهة المحتجين الذين يمتلكون أسباباً منطقية لانتفاضتهم.
والنظام الإيراني رغم انغلاقه على نفسه، لكنه مدرك تماما للتحولات الداخلية والخارجية، وقبل رحيل رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، آية الله هاشمي رفسنجاني، وهناك تحولات سياسية تُطرح لتغيير النظام في إيران، وكان منها، تحويل شخصية المرشد الأعلى (الولي الفقيه) إلى مجلس قيادي، "تحويل النظام الرئاسي إلى برلماني لتشجيع الحركة الحزبية على العمل، إلغاء منصب رئيس الجمهورية وتحويله إلى منصب رئيس الوزراء، وإعادة منصب رئيس الوزراء.
ولهذا لم يكن النظام الإيراني أمام مفاجأة مع هذه التظاهرات، فهو يدرك وجود أزمة اجتماعية واقتصادية، ولكن طبيعة تعددية إيران ونظامها الحاكم يضعها أمام سيناريوهات مفتوحة، تتأرجح بين انفلات الأوضاع إلى درجة سقوط النظام، أو تمكن النظام من احتواء الموقف، أو الخروج من المأزق عن طريق القبول بحلول وسط تهدئ الشارع وتحفظ ماء وجه النظام الحاكم في نفس الآن.
السيناريو الأول: سقوط النظام
سقوط النظام شعار تتبناه المعارضة الإيرانية في الخارج، سيما المعارضة لنظام "ولاية الفقيه" مثل أنصار النظام الملكي الدستوري والجبهة القومية، الذين يقفون وراء أسرة بهلوي في المنفى، وجماعة "مجاهدي خلق" التي تدعم النضال المسلح ضد النظام الديني الحالي، وكذلك الحركات الإنفصالية للبلوش والعرب والكُرد والسنة والآذر. وهو السيناريو الأقرب حال استمرار وتيرة الاحتجاج بنفس معدلها الحالي، حسب الناشط السياسي والمعارض الإيراني، حسن شريعتمداري، عضو حزب الشعب الجمهوري، الذي يقول "إن النظام الحاكم في إيران يتجه إلى السقوط، والمجتمع بات معبأً بالأحداث، بسبب الفشل الاقتصادي والأيديولوجيا التي لم تعد مقبولة بين طبقات المجتمع الإيراني."
يشاركه في الرأي، الناشط والسياسي والمعارض الإيراني، "حميد صدر"، الذي قال في تصريحات صحفية إن "النظام الحاكم في إيران يمر بالمرحلة الأولى من السقوط، والحركة الاحتجاجية التي حدثت دليل على قلق الشعب الشديد من المستقبل، وذلك بعد أن ذهبت الوعود الخاوية لحسن روحاني طي النسيان بعد الانتخابات، ما أفقد الشعب الثقة بشكل كبيرة في النظام الإيراني. ويرى صدر أن النظام في المرحلة الأولى من السقوط، ويدعو للتفكير من الآن في دولة ما بعد حكم الملالي؛ لأن فراغ السلطة يمكن أن يؤدي إلى ضياع الدولة."
ويضيف "طوال 100 سنة من تاريخ إيران، كانت هناك 3 محاولات لبناء الديموقراطية في إيران، ولكنها انتهت بالفشل، وكل مرة كانت تستولى الأنظمة الديكتاتورية على الحكم. وأن المؤسسات السياسية لا يمكنها وحدها في العصر الحاضر أن تشكل الدولة بدون المجتمع المدني".
السيناريو الثاني: التضحية بحكومة روحاني
ويعتمد هذا السيناريو على استجابة النظام الإيراني للمطالب الفرعية بإسقاط حكومة روحاني، لاحتواء الغضب الشعبي ولكن طبيعة النظام الذي يحافظ على تماسكه وتجربة تظاهرات 2009، وصبره على حكومة أحمدي نجاد، تشير إلى أن هذه الخطوة مستبعدة في الوقت الحالي، ولن يلجأ إليها النظام الإيراني إلا إذا شعر بأن بقائه متوقف على التضحية بحكومة روحاني.
وتعلق موناليزا فريحة، الصحفية والخبيرة في شؤون الشرق الأوسط في جريدة النهاراللبنانية، على ذلك بالقول: "يبدو أن روحاني حتى الآن هو المستهدف الرئيس من هذه التظاهرات، ورغم ذلك مثلما فاجأت التظاهرات التي خرجت في إيران الخميس الماضي، المراقبين في الداخل والخارج، يبدو صعبًا أيضًا التكهن بمسارات الحركة الاحتجاجية الأخيرة المستمرة لليوم الخامس على التوالي، فعلى الرغم من الاستياء الشعبي من الفساد والمحسوبيات والسياسيات الاقتصادية، والنظام ككل، لم تكن الأجواء تنذر باحتجاجات شعبية هي الأولى بهذا الحجم منذ الانتفاضة الخضراء التي خرجت عام 2009 احتجاجًا على تزوير الانتخابات الرئاسية في حينه.
وتضيف "فريحة": "ليس مستبعدًا تزايد المماحكات بين روحاني والحرس الثوري. فمع أن كلاهما خائف على النظام الذي هما جزء منه، لكل منهما أهداف مختلفة سيجدان نفسيهما مضطرين للدفاع عنها". وتعلق الكاتبة اللبنانية بأن حدوث هذا السيناريو يعتمد على مدى نجاح حكومة روحاني ذاتها في إحتواء الأزمة وحل المشكلة الاقتصادية، ولذلك يلقي المحافظون والنظام الأزمة على عاتق روحاني وحكومته، وهو ما جعله يقول أن "من حق الشعب التظاهر من أجل المسألة الإقتصادية، ولكن من حقهم أن يعترضوا أيضًا من أجل الفساد وعدم الشفافية"، وهو بذلك يوجه اللوم أيضًا للنظام الذي يدافع عن الفساد الذي يتكسب منه رجاله.
ويعلق "أحمد جاد الحق" على هذا السيناريو، "لطالما كان روحاني يكرر نسبة التصويت الكبيرة التي حصل عليها في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة، ولطالما كان يكرر أمام المحافظين أنه يتحرك بقوة وباسم أغلبية الشعب، وربما تكون هذه التظاهرات فرصة للمحافظين لتحجيم روحاني، ولذلك يدعمها إعلام المحافظين والنظام".
السيناريو الثالث: استخدام العنف الأمني
نجاح النظام في تخطي الأزمة دون التضحية بحكومة روحاني، عن طريق القمع الأمني أو بتقديم تنازلات أقل من الإطاحة بالحكومة، وهو ما يبدو أن النظام يحافظ عليه حتى الآن، بعدما دفع بالقوى الثلاثة للتشاور حول الأزمة، ودعا حكومة روحاني إلى الإسراع في الاستجابة لمطالب المتظاهرين. ويرى د. أحمد جاد الحق، الباحث والأكاديمي في شؤون المهجر الإيراني أن هذا السيناريو هو "الأوفر حظًا حتى الآن لأن التظاهرات الحالية غير موحدة الهدف في الداخل وبلا زعامة، كما أن المحافظين والإصلاحيين من الممكن أن يدفعوا بالتظاهرات المؤيدة لهم، وهي ليست بالضعيفة". ويضيف جاد الحق: "أن الإصلاحيين في إيران يتمتعون بحسن تنظيم وتواصل مع الجماهير مثلما يفعل المحافظون، وهم لم يستغلوا ورقة التعبئة الجماهيرية حتى الآن لدعم روحاني".