تثير اهتمامي قضايا الأقليات في مجتمعاتنا العربية، فقيرة التعدد، المصابة بفوبيا عميقة من كل مختلف. قبل فترة أردت الاقتراب من عالم العابرات جنسيًّا، واستكشاف ما وراء عبارة "رجل يتحول جنسيًّا إلى امرأة" التي قدمت القضية للعامة بشكل خاطئ ومنقوص حد الإجرام. نجحت بالوصول الى "ميم" 32 عاماً (اسم مستعار)، التي عاشت ثلاثين عامًا كذكر، وامرأة منذ حوالي ثلاث أعوام. ولدت "ميم" طفلًا ذكرًا بيولوجيًّا، ولكن في سنوات الطفولة الأولى كان يلاحقها شعور غامض بأنها مختلفة كما تقول: "أتذكر أني عبَّرت عن نفسي بتصرفات أنثوية عفوية في عدة مواقف، لكن تلك النعومة قوبلت بعنفٍ وقسوة مبالغين من أهلي. وبسبب هذا العنف ارتبطت الأنوثة في ذهني بشعورِ عميق بالعار والنقص، فقمعت كل شعورٍ بها وجاهدت كي أطرد شعوري بالاختلاف."
التزمت "ميم" التصنيف الاجتماعي كطفلٍ ذكر عادي، لعمر العاشرة، حين هزت مصر قضية سالي عبد الله، وهي أول عابرة جنسيًّا تعلن عن نفسها في مصر عام 1988. عندما سمعت "ميم" عن قصة سالي "شعرت وكأن مصباحاً أضاء في رأسها،" كما تقول: "أتذكر أني ادخرت مصروفي يوماً لأشتري الجريدة وأعرف كل شيء عن سالي. وقتها قلت لنفسي إن هناك أشخاص يشبهونني،" تقول ميم. التقيت ميم في كافيه في القاهرة. لم أستطع العثور على شيء من "الرجل" في ملامحها، الرجل الذي عبرته لتبلغ أنوثة لطيفة تنعكس في ضحكتها، وإشارات يديها، والطريقة التي تنظر بها بعيدًا لتستجمع أفكارها. طلبت مني أن أحجب اسمها واستبدله بـ"ميم" وحول فنجان قهوة وكوب شاي، ولاحقًا زجاجتي بيرة، تحدثنا لمدة ثلاث ساعات.
VICE عربية: ثلاثين عاماً تعيشين كرجل، كيف عرفتِ أنكِ مصابة باضطراب الهوية الجنسية؟
ميم: ممممم.. أنا أرفض هذا المصطلح وأفضل عليه مصطلح الـ"جندر ديسفوريا" (Gender Dysphoria) أو الانزعاج الجندري." مصطلح أدق والدوريات الطبية تستخدمه أكثر الآن. لم أعرف مشكلتي طوال فترة مراهقتي ومطلع شبابي، كنت أشعر بروح أخرى تسكن في جسمي وتلح عليَّ وتستولي على أفكاري من حين لآخر، الأنثى المكبوتة داخلي تقول إنها هنا وأنا أرفضها بعنف وأصر أني ذكر، ومع هذا أشعر بالانزعاج حيال شكل جسمي وأعضائي، ويعذبني شعور بعدم الانتماء يتخطى طريقة التفكير والتعبير عن النفس. لم تكن أمامي طرق للمعرفة؛ قبل ثلاثين عامًا لم توجد في حياتنا شبكة الإنترنت، وكانت المكتبات العامة قليلة، والكتب المختصة بحالة كهذه غير متوافرة، فضلًا عن عجزي عن تسمية ما أشعر به، وبالتالي فلا أعرف كيف أسأل عنه أو في أي كتاب أبحث. عندما انفتح العالم أكثر أمامي، بدأت أقرأ في الجنسانية، ووصلت أخيرًا للتوصيف الذي أبحث عنه طوال عمري، وفهمت ما أمر به. الانزعاج الجندري يعني أن جنس جسدي يخالف جنس عقلي، وبعبارة أبسط فجسمي جسم رجل وعقلي عقل امرأة.
أتصور أنكِ شعرتِ بالراحة عندما أدركتِ الإجابة أخيراً.
بالعكس، شعرت بالغضب والرفض، وقررت أني سأفعل أي شيء لأقضي على هذا المرض واندفعت لسلسة من التصرفات والقرارات لترسيخ ذكورتي. كنت أنتقل إلى مرحلة جديدة لا أعاني فيها من نقص المعلومات قدر ما أعاني من تراكمات ذكورية وأفكار رجعية حول الأنثى والأنوثة. رفضت نفسي بشدة، وكل ما فعلته لأثبت ذكورتي آنذاك أندم عليه عميق الندم الآن.
ومتى تقبلت حقيقتك؟
خضت طريقًا طويلًا على مدار ثلاثة عقود أحاول الهرب من نفسي، أحاول قتل الانثى في داخلي ومحو كل أثرٍ لها. في السنوات الأخيرة قرأت كثيرًا، لم أقرأ في الطب والجنسانية فقط، بل انفتحت على كل الأفكار والمعارف الإنسانية، وكلما قرأت فهمت، وخضت اكتشافًا جديدًا لذاتي.
وكيف كان شعورك في لحظة التقبل؟
الارتياح التام.
ألم يراودك أي شعور بالهلع مما هو مقبل، أو القلق من ردة فعل الآخرين؟
ليس بعد كل ما قابلته، كما قلت لكِ اختبرت كل الفرضيات وقاومت (الأخرى) حتى نفدت مني طرق الهروب. عندما كنت مسجونة في "جسده" كنت شخصية مضطربة للغاية في التعامل مع العالم، غير متزنة، ولكن لحظة اعترفت بأنني امرأة كانت نقطة الصفر وبداية الاتزان. أصبحت أعرف ما أريد، ولدي تصورات واضحة عن المستقبل بعكس ما كنت عليه سابقًا. الأمر أشبه ما يكون بالوقوف على أرضٍ صُلبة بعد سنوات من التحليق في اللاشيء.
بعدها بدأت المعركة؟
بالضبط، دون أي تردد دخلت في معارك لأفوز بنفسي، صارحت البعض بحالتي، تصرفت بتهور شديد في أحيانٍ كثيرة، ولكني كنت مستميتة لتصحيح الوضع المضطرب الذي فرضته على نفسي طوال حياتي الماضية. تقبل بعض أصدقائي موقفي، ورفضني آخرون، وفئة ثالثة أظهرت القبول لكن شيئًا من الحساسية نشأ بيننا، وبمرور الوقت وهنت العلاقات التي تربطنا.
من أول شخصٍ أخبرته أنكِ أنثى؟
أول شخص أخبرته عن شعوري بأن عقلي يتناقض مع جسدي كان زوجتي الأولى، صارحتها بهذا قبل الزواج كي لا أخدعها. أمَّا أول شخص أخبرته أني تقبلت حقيقتي كأنثى وسأبدأ رحلتي العلاجية، فكان زوجتي الثانية.
يبدو أنكِ بنيت علاقاتك على الصداقة أولًا لتحتمل هذا البوح.
الفتيات في السابق كُن يعتبرنني "صديقًا" ممتازًا؛ أفهمهن وأتواصل معهن بشكلٍ أعمق من الآخرين، وترجمن هذا إلى أنني "راجل فاهم الستات" ولم يخطر ببال أحد أن كوني امرأة هو السبب. رغم هذا كانت صداقاتي بالفتيات مشوبة بنوع من التوتر والحساسية، لأنها كانت تنقلب إلى مقدمات علاقة عاطفية أو مشروع ارتباط. الآن تخلصت صداقاتي من هذا التوتر، صارت علاقاتنا أكثر صدقًا لأنني على طبيعتي تماماً.
كيف بدأ مشوار علاجك؟
بالإجراءات المعتادة المحددة قانونيًّا، المتابعة مع طبيب نفسي، ثم بدء العلاج الهرموني الذي يستمر من عامين لخمسة أعوام، حتى تتم جراحة التصحيح، والتي لا يجريها الجميع بالضرورة. ملامحي الآن تقف بين الأنوثة والذكورة، وهذا يجعل البعض يناديني بـ "يا أستاذ" أحيانًا ما يصيبني بالتوتر والضيق. ولكن الأمور تتحسن بتقدم العلاج، تخف علامات الذكورة السابقة وتبرز الأنوثة بهدوء. شعر جسدي أزيله كما تفعل أي فتاة، الظل الخفيف لموضع اللحية والشارب سيختفي قريبًا، والحنجرة البارزة سأزيلها بجراحة بسيطة. كلها إجراءات معتادة لحالات العابرات جنسيّاً.
ماذا عن لحظات الأنوثة الأولى، كيف كانت تجربة ارتداء أول فستان في حياتك؟ هل واجهتِ صعوبة في الانتقال لاستخدام صيغة المؤنث في كلامك؟
ليست تجربة جديدة كما تتخيلين؛ ارتديت فستاني الأول بعمر الخمس سنوات، وتكرر الأمر عدة مرات بسرية تامة على مدار حياتي. لكن المرة الأولى الحقيقية التي ارتديت فيها فستان كأنثى وخرجت للعالم بارتياح، كانت في لبنان، والغريب أني لم أشعر بالغرابة، كان الأمر طبيعيًّا وكأني فعلت هذا طوال حياتي. أما في استخدام صيغة المؤنث، فقد حدثت النقلة في لمح البصر وكأني ضغطت على زر، أخطأت مرة أو مرتين في قول "سامع" بدلًا من "سامعة" مثلًا.
كيف تصفين مجتمع العابرين والعابرات جنسيًّا في العالم العربي؟
كان الوضع سيئًا للغاية ومأساويًّا قبل عامين. كثير من العابرين كانوا يعانون من التشتت واحتقار الذات، وكان الوعي بقضيتهم أقل بكثير. كتبت وترجمت الكثير من المقالات حول الترانسجندر على مواقع التواصل الاجتماعي، وأوضحت بعض المفاهيم المختلطة والمتقاربة، واصطدمت بدرجة عالية من الاضطهاد والذكورية في مجتمع الـ LGBTQ. (يطلق عليه أيضاً مجتمع الميم وهم ذوي الميول الجنسية المثلية، المزدوجة، والمتحولة، والمتسائلين عن ميولهم. ويشار إليهم باللغة العربيّة بمجتمع الميم، لأن جميع المفردات تبدأ بحرف الميم).
لكنهم أيضاً من أبرز ضحايا الاضطهاد والذكورية في مجتمعنا؟
نعم ومع هذا لم يتخلصوا من رواسب المجتمع تمامًا. مثلًا، بعض الرجال المثليين يتعاملون مع العابرات جنسيًّا باعتبارهن نسخة مبتذلة منهم، مشوهة وأقل قيمة، وينظرون لنا وكأننا ننافسهم على فرص الشريك المناسب. هذه النظرة تكشف تأثرهم بثقافة المجتمع التي تضطهدهم قبل سواهم، فيعتقدون أننا نفعل ما نفعل لأجل ممارسة الجنس، والحقيقة أن قضية العابرات والعابرين جنسيًّا أبعد ما تكون عن هذا. نجاهد طوال الوقت ليفهمنا المجتمع، ويستوعب أن الهوية الجنسية تختلف عن الميول الجنسية. أن يكون الانزعاج الجندري أمر يرافقك منذ الطفولة المبكرة، هو جرس إنذار يدق بعقلك ويخبرك أنك شخص آخر، وأنك لست منسجمًا مع هذا الجسد. إلى جانب سقوطهم أسرى تصورات المجتمع التي تضطهدهم، يعاني كثير من رجال مجتمع الـLGBT من مشاكل الرجل الشرقي التقليدي، مثل التحرش، وتصورهم العجيب أن الكون يدور حولهم وحول أعضائهم.
ماذا يضايقك أيضاً في معاملة الآخرين لكِ؟
توترهم في التعامل معي لأنهم لا يدركون إذا رجلًا أم امرأة. أتفهم موقفهم ولكن الأمر يضغط على أعصابي. كما أتوتر من أي إعجاب يبديه رجل مثلي أو فتاة غيرية (تنجذب للرجال)، لأن هذا يجعلني أشعر أنهم ما زالوا يرونني كرجل.
هل هناك من لا يزال يعاملك كرجل من دائرة المقربين منك؟
أمي، هي امرأة عجوز لم تستوعب نهائيًّا حالتي الطبية، ما زالت تناديني باسمي القديم الذي قاطعته تماماً، ونتشاجر معًا طوال الوقت. خلال حياتي كانت علاقتي بأمي سيئة للغاية كامتداد لاضطرابي في التعامل مع العالم، وبعدما تقبلتُ طبيعتي كعابرة جنسيًّا، تحسنت علاقتنا بشكل مذهل. مذهل حقًّا. صحيح أننا نتشاجر طوال الوقت لكنها شجارات نسوية ناعمة لا تخلو من طرافة.
قلتِ إنكِ فعلتِ أشياء متهورة عندما تقبلتِ أنكِ أنثى، ولكنك لم تعلني عن نفسك، لماذا اخترتِ النضال في الظل إلى حدٍ ما؟
دعيني أصارحك بأني تزوجت في الماضي، ولدي طفل أخشى عليه من العواقب المرعبة لمواجهة المجتمع بسبب قضيتي. يمكنني تخيل ما سيقوله أصحابه، وكيف سيتنمرون عليه، وكم الأذى المعنوي الذي سيلاحقه. أتحمل وضعًا صعبًا بالفعل كوني محرومة من رؤيته والتواصل معه، ولا أطيق أن أسبب له معاناة كالتي أعرف أن المجتمع سيضعه فيها.
شكراً لك.