منذ أواخر القرن التاسع عشر، افترض علماء الأحياء التطورية أن عملية الانتقاء الطبيعي تُفضِّل الأفراد ذوي الأعمار الطويلة، وهو ما يعزز الشعور البديهي في أنه كلما طالت مدة حياتك، زاد الوقت الذي يجب أن تشغله في إنجاب الأطفال، مما يزيد من إمكاناتك في الإنجاب والولادة.
أما بالنسبة إلى ما يحدد عمر الفرد في المقام الأول، استنتج العلماء إلى أن هذا الأمر يعود بشكل كبير إلى مزيج من العوامل الخارجية (مثل التنافس، أو المرض، أو الحوادث) أو العوامل الجوهرية (الانحلال البيولوجي الذي يؤدي في النهاية إلى الوفاة).
ولكن وفقاً لبحث جديد نُشر في وقت سابق من هذا العام في دورية PLOS One، فإن هذه النظريات خاطئة: فقد تبين أن الانتقاء الطبيعي ربما يجعل الكائنات الحية تحتفظ لنفسها بتوقيت داخلي، يجعلها تحدد طول المدة التي تعيشها، فهو يرى أننا في الأساس تمت برمجتنا وراثيًا على تدمير الذات.
أخبرني يانير بار- يام، رئيس معهد نيو إنغلاند كومبلكس سيستمز، على الهاتف: "لدينا فكرة سابقة عن أن حياة الناس لا يمكن برمجتها بمعنى واضح، مضيفا: "ما نقوله هو أن هذا الأمر ليس صحيحًا، وأنه يتم اختيار الحد العمري وبرمجته من خلال الجينات".
للوهلة الأولى، تبدو الفكرة متناقضة، حيث تعتمد نظرية التطور التقليدية على نموذج "نرجسي" للكائنات الحية حيث يتم دائمًا تعظيم قيمة طول العمر، وزيادة أمد الحياة، وهذا الأمر يبدو بديهيًا إلى حد ما: فالجين الذي يجعل الأفراد يموتون قبل تنتهي مدة صلاحيتهم الطبيعية،لا يستمر لفترة طويلة، ولكن يبدو أن عددًا من الأمثلة في الطبيعة تتناقض بشكل مباشر مع هذه النظرية.
على سبيل المثال، الكائنات أحادية الإنجاب مثل الأخطبوط تعيش حتى تلد ثم تموت فجأة، وقد تم تقديم عدد من النظريات لتوضيح هذا التناقض، لكنهم لا يزالون غير قادرين على تفسير أي دليل يخالف تلك النظريات، مثل كيف يمكن للأخطبوط أن يستمر في العيش والتزاوج إذا تمت إزالة غدة هرمونية معينة جراحيًا مباشرة بعد ولادة الأخطبوط، أما إذا لم تتم إزالة هذه الغدة، سيموت الأخطبوط، هذه السمة الغريبة هي علامة بارزة للبرمجة الجينية، وليس للانحلال البيولوجي المعتاد.
يؤكد بار-يام وزملاؤه بأن الانتقاء الطبيعي يُفضِّل في الواقع الصفات البشرية التي تحدّ من الاستهلاك والتكاثر ذاتيًا، بما في ذلك أيضًا الحد من معدل الوفيات، بعبارة أخرى، قد تكون الكائنات الحية قادرة على الحصول على عمر أطول مما هي عليه في الوقت الحاضر، ولكن الانتقاء الطبيعي قد فضل بالفعل الأفراد الذين حددوا لأنفسهم موعدا للرحيل مبكرا.
للوصول إلى هذا الاستنتاج، بدأ بار-يام وزميلان من معهد الهندسة الحيوية في جامعة هارفارد بمسألة أساسية: هل هناك سياق بيئي تحدد فيه الجينات طول العمر؟
وقال بار-يام: " ليس فقط الإجابة هي نعم على هذا السؤال، وإنما بشكل عام فإن الأمر صحيح تمامًا"، وأضاف: "هذا أكثر من ممكن، فقد اتضح أنه دائمًا يحدث".
إذن كيف يمكن لعلماء التطور أن يحددوا الصلة بين معدل الوفيات والانتقاء الطبيعي؟ وبخلاف ما ذكره أغسطس وايزمان - الذي أكد في عام 1882 بأن الموت مُبرمج – نجد أن العلماء عندما نظروا في تأثير الانتقاء التطوري، كانوا يأخذون المتوسطات عبر الكائنات الحية وبيئاتهم بدلاً من وضع كل كائن حي في سياقه البيئي، ومن خلال إزالة الفرد من بيئته أو مكانه الخاص داخل مجموعة سكانية معينة، فانه يتم تجاهل العلاقة المعقدة بين هذا الفرد وبيئته.
وللحصول على رؤية أكثر ديناميكية ودقة لتطور الوفيات، قام بار-يام وزملاؤه بتطبيق تقنية للبحث عن الأنظمة المعقدة المسماة "النمذجة المكانية"، والتي تعمل من خلال النظر في كيفية تأثير السياق المحلي للفرد على صحته، استطاع بار-يام وزملاؤه إثبات أن الصفات التي قد تكون ميزة في المدى القصير (مثل طول عمر الفرد أو الاستهلاك "الجشع" للموارد) يمكن أن تكون في الواقع عيب كبير على المدى الطويل، والعكس صحيح.
وفقاً لبار-يام وزملاؤه، فإن النجاح طويل الأجل لهذا النموذج المحدد ذاتيًا لا يقتصر فقط على استهلاك الموارد والتناسل، بل يتناول فترات الحياة ضمن مجموعة من السكان، والتي تعد المثال الأوضح الذي يتناول أنواع البيئات المحلية.
هذا الانتقاء الطبيعي يفضّل الكائنات الحية التي تحدّ من حياتها من تلقاء نفسها، وفي المقام الأول، يساعد ذلك في إلقاء بعض الضوء على المشكلات الحالية التي تواجهها الأنواع البشرية والتي تتزايد، لكنها لا تزال شديدة التباين عند النظر إليها في سياق العالم، حيث تعمل نظمنا الاقتصادية بالكاد على نموذج للتقييد الذاتي، فالرأسمالية المالية العالمية قابلة للتوسع بحكم طبيعتها وازدهارها على السلوكيات النرجسية.
وفي حين أن هذا قد ينجح بشكل جيد بالنسبة للأفراد الأكثر أنانية على المدى القصير، فإذا كان بار-يام وزملاؤه على صواب، فإن ذلك قد يكون قد له أثر كارثي بالنسبة للنوع البشري على المدى الطويل.
وقال بار-يام "ما يقوم به الناس في بيئتهم يؤثر على قدرتهم على البقاء على قيد الحياة". "هذا شيء ندركه تمامًا اليوم، إذا كنت تستهلك مواردك بشكل مفرط، فستكون في ورطة".
لكن كل شيء ليس كئيبا ومظلما، وكما يشير بار-يام، إذا كان الموت مبرمج وراثياً، فهذا يعني أنه من المحتمل أن يتم اختراقه.
وقال بار-يام: "لا يخضع البشر لنفس البيئة التي كنا فيها منذ ملايين السنين عندما تم تأسيس تلك البرمجة" وأضاف: "هذا قد يشير إلى قدرتنا على تعديل هذه الآلية وجعل الناس يعيشون فترة أطول".
نحن مبرمجون على الموت المبكر.. وهذا أمر جيد!
الصورة من شترستوك
إعلان