حسن شاكوش/فيسبوك
"يحيا الفن المنحط" كان عنوانًا لبيان جماعة الفن والحرية سنة 1938 في مصر. ذلك البيان الذي وقع عليه مجموعة من الفنانين السورياليين، وجاء في قلبه "أن التعصب للدين والجنس أو للوطن الذي يريد بعض الأفراد أن يخضع له مصير الفن الحديث ما هو إلا مجرد هزء وسخرية." كان هذا المستند ثوريًا في وقته، فقد كان يرد على الطرح الفكري الذي قدمه النازيون في ألمانيا عندما وصفوا كل الفنون المختلفة عن نوع الفن الذي يقدمه الحزب النازي الحاكم، بأنها فنون منحطة أو Degenerate Art.
هذا التشاحن الفكري ليس وليد تلك اللحظة التاريخية، ففي الغرب الأوروبي، ارتبطت كثير من الفنون بالكنيسة خلال العصور الوسطى ومابعدها، فصارت أشهر الرسومات والأعمال النحتية تتم تحت أعين المؤسسة الدينية، مما منح هذه الأعمال قدرًا من الرفعة والأهمية في أعين الجمهور بسبب مباركة الكنيسة. العلاقة مع الكنيسة ظلت في جذب وشد، وظهرت تيارات مثل الحداثة ومابعد الحداثة، لتثور على التقاليد الفنية الموضوعة وكل ماهو محافظ، فتكسرت أصنام القواعد الفنية الراسخة منذ قرون، وأعادت الحركة الفنية في الغرب تشكيل ذاتها، فظهرت مدارس وحركات فنية متمردة على الفن الذي تحاول المؤسسات -بمعناها الواسع- أن تسقيه للجمهور.
إذاً فالحكاية ليست بجديدة في المشرق أو المغرب، وموسيقى المهرجانات ليست أول من يعتدى عليه من قبل كيانات ثقافية أخرى، بل أن للحكاية جذورًا تاريخية هنا وهناك. على سبيل المثال لا الحصر، في سبعينات القرن الماضي ظهرت أصوات فنية جديدة مثل أحمد عدوية وكتكوت الأمير. ومثلت الكلمات والألحان التي يقدمها الفنانان صدمة لبعض الجمهور الذي اعتاد على صوت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز وغيرهم من كبار الأسماء في دنيا الموسيقى. واعتبر البعض أن فن عدوية والأمير فيه انحطاط وإسفاف وحط من الذوق العام. في نفس هذه المرحلة اُعتبرت مسرحية مثل "مدرسة المشاغبين" مسرحية مارقة على العادات والتقاليد وفيها تشويه لصورة التعليم في مصر.
القاعدة الأساسية التي تعلمناها ولا يتعلمها المنتمون للمؤسسات المحافظة على الأخلاق والقيم أن "كل ممنوع مرغوب"
حتى اليوم، مازلنا نعيش هذه الحالة الصراعية بين الفن المؤسسي والفن الفردي. شكل الفن الذي تريده مؤسسات الدولة والنخب المثقفة، والفن الذي يأتي من أفراد لا ينتمون لأي كيان مؤسسي. وفي حال نجح هذا الفرد واستساغ الجمهور فنه، ليس أمام هذه المؤسسات سوى خيارين، إما أن تقوم باحتضانه ورعايته ليعمل تحت مظلتها أو تقوم بلفظه ومنعه من ممارسة فنه. تجدد الجدل خلال الأيام الماضية بعد أن أصدر نقيب الموسيقيين المصريين هاني شاكر قراراً بمنع مطربي المهرجانات، يؤكد أننا مازلنا نعيش في مرحلة اختراع العجلة، وكلما حاولنا الابتعاد عنها، نعود إليها من جديد دون كلل. فالحديث عن موسيقى معينة ومدى إضرارها بالذوق العام، لا يؤدي بالعادة للهدف المأمول منه- لا يوجد صيغة كيميائية ترفع من الذوق العام في البلاد.
موسيقى المهرجانات هي لون فني ظهر في الفترة من 2007-2008 وفق بعض الروايات، ولا نعرف بالتحديد مؤسس هذا اللون، إلا أنه قد انتشر بشكل كبير بعد انفتاح المجال العام بعد ثورة 25 يناير 2011. وتتسم موسيقى المهرجانات بأنها عبارة عن مجموعة من المقطوعات الموسيقية الإلكترونية التي يتم تأليفها ومزجها مع مجموعة من الكلمات التي قد لا تكون جملًا مفهومة وواضحة في بعض الأحيان، ثم يتم تكرار الإيقاعات والكلمات. وتتنوع موضوعات المهرجان من الحديث عن الحب أو الإدمان والعلاقة مع الله، مثلها مثل أي أغنية، إلا أن الفارق الجوهري هو طبيعة الكلمات وصوت المؤدين، فليس من الضروري أن يكون المؤدي صوته جميلًا، أو تكون الكلمات منمقة ورقيقة، بل يمكن أن نستمع لكثير من الكلمات الخارجة التي لا يقبلها المجتمع.
تعليقات نقيب الموسيقيين هاني شاكر على ما يقدمه حسن شاكوش ومن قبله مطربون/مؤدون انتموا لعالم موسيقى وأغاني المهرجانات مثيرة للسخرية. فشاكر الذي ينتمي لجيل السبعينات، ويعبر عن تيار غنائي يمكن وصفه بالرومانسي/الحزين، مازال يرى العالم وحركته في إطار وزارة الثقافة والإرشاد القومي التي صنعها النظام الناصري، حيث تنظم الدولة الفنون والأفكار وتعمل على ترشيدها أو منعها إذا اقتضى الأمر. أمير الغناء العربي يعيش حتى اليوم في مرحلة ما قبل العولمة وقنوات اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري، فيعلن منع مطربي المهرجانات في مصر من الغناء.. حقًا؟ كيف يمكن منعهم في ظل كل هذه الخيارات المفتوحة سواء قنوات تلفزيونية غير مرخصة، ومواقع انترنت ويوتيوب وفيسبوك؟ هل يستطيع نقيب الموسيقيين المصريين أن يضيق الخناق على كل مطربي المهرجانات فيمنعهم؟ وإذا فرضنا نجاح ذلك، فهل سيمنع الجمهور من الاستماع لأغانيهم؟
القاعدة الأساسية التي تعلمناها ولا يتعلمها المنتمون للمؤسسات المحافظة على الأخلاق والقيم أن "كل ممنوع مرغوب." دعونا نلعب لعبة صغيرة خلال الأيام القادمة، وهي متابعة فيديو مهرجان بنت الجيران لحسن شاكوش، وملاحظة عدد المشاهدات وعدد المشتركين على قناة اليوتيوب الخاصة بحسن شاكوش بعد المنع الذي أعلنه هاني شاكر -لحظة كتابة هذا المقال كان عدد المشاهدات قد وصل لأكثر من 108 مليون مشاهدة.
ولو كانت كلمات أغاني حسن شاكوش وحمو وبيكا وأحمد شيبة وغيرهم دليل على الانحدار الأخلاقي وانهيار الذوق المجتمعي، فمن وراء هذا الانحدار؟
تاريخيًا، كان هناك ثنائية فنية تصنع جدلًا بين الكثيرين، الفن الراقي high art في مقابل الفن الهابط low art. هذه الجدلية لا تنتهي، خاصة مع وجود معايير تضع كل صنف في كفة، ومن ثم يُقارَن كل ما يخالف شكل الفن الراقي فيصبح فنـًا هابطًا. مسرح شكسبير وموسيقى بيتهوفن، مثلًا، سيُوضعان في خانة الفن الراقي. إن هذه الثنائية تبطن مسألة أكثر تعقيدًا، الفن الراقي يصبح هو (الفن)، والفن الهابط يصير (اللافن). وهذا أمر مثير للسخرية، لأنه يخلق شكلًا وحيدًا من الفن ويمنع التعددية، ويعيد إنتاج الجمود والسلطوية الفنية ضد كل ما هو مخالف لذلك الشكل الفني.
مصطلح الفن الراقي -وهو مصطلح غير موضوعي، مثل الفن- ربما كان سببًا في صناعة أسطورة الذوق العام.. أي عام؟ وفي أي زمن؟ وأي مكان؟ ومَنْ قرر أن الذوق يجب أن يكون عامًا وهو في الأساس شخصي وفردي؟ إن أكذوبة الذوق العام تعطي المؤسسات المسؤولة عن الفنون الحق في المنح والمنع. وفي أحيان كثيرة، المؤسسات التي تضع معايير جودة الفن، لا تضع مجالًا لمفهوم حرية الاختيار، لكنها تعتبر أن الذوق الجماعي هو ما يجب تشكيله وجعله غالبًا في المجتمع، فيتم صناعة قوالب فنية موحدة.
مثل أي منتج فني، هناك معارضون لموسيقى وكلمات المهرجانات، فيعتبرونها نوعـًا من المخدرات، ووسيلة للتحريض على ضرب كل القيم المجتمعية، والدعوة للتحرش والاغتصاب والزنا. وتلك مسألة جدلية أخرى؛ لأن كل الفنون يوجد فيها هذا الجانب، فإذا استمعنا لبعض الأغاني في الولايات المتحدة في عالم الراب والأغاني الـ Psychedelic، سوف نجدها تتحدث عن أمور مشابهة، ويوجد قطاع يستمع إليها ويحبها. هذه الكلمات الخارجة -في نظر البعض- ليست قادمة من الفضاء بل جاءت من قلب الأحاديث اليومية التي نسمعها في الشارع. ربما تكون الصدمة في تحويل هذه الشتائم لكلمات أغنية يرددها البعض ويضعونها في الخلفية أثناء الأفراح والمناسبات.. هل أُجبر هؤلاء على الاستماع؟
إذا اقتربنا مثلًا للأغاني الشعبية التي تتردد في الأفراح في صعيد مصر والوجه البحري، نجد أنها تعج بالإيحاءات الجنسية وعندما نستمع إليها، لا نجد من يقول أنها تخدش الحياء العام أو تحط من الذوق العام، بل نعتبرها تراثًا وفولكلورًا نردده بكل بهجة في أفراحنا. والأمثلة كثيرة من بينها أغانٍ شهيرة مثل آه يا واد يا ولعة خدها ونزل الترعة، واتدحرج واجري يا رمان وتعالى على حجري يا رمان. ببساطة، الأشياء التي لا نستطيع البوح بها في مجتمعاتنا المحافظة، نجعلها رمزية، فيصبح الرمان دلالة الحديث عن نهود النساء، ويصبح الواد الولعة رمزًا الرغبة الجنسية. ولو كانت كلمات أغاني حسن شاكوش وحمو وبيكا وأحمد شيبة وغيرهم دليل على الانحدار الأخلاقي وانهيار الذوق المجتمعي، فمن وراء هذا الانحدار؟ وكيف يمكن الخروج من هذه الحفرة والنهوض مرة أخرى؟
الفنون مثل الكائنات الحية تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي حتى لو حاولت بعض النظم السياسية تصدير نوع معين للفن. فالفن الذي يستطيع أن يتكيف ويتأقلم مع الواقع ومتغيراته هو الذي يمكنه أن يستمر، ومن لا يستطيع سوف ينقرض مثل الديناصورات
إن النظم الشمولية هي من تصنع أسطورة الذوق العام من أجل وضع القواعد الجماعية التي لا تخضع لقانون واضح أو دستور. فمن يستطيع أن يحدد طريقة قياس مستوى ارتفاع الذوق العام أو انخفاضه؟ بدون شك، مَن وضع القواعد والمعايير. تحبذ دومًا النظم الشمولية والفاشيات الصوت الواحد وتمقت التعددية، ووجود رقابة على الفن والإبداع من خلال مؤسسات، صارت ممارسة عفا عليها الزمن في المجتمعات التي قررت أن تتقدم وتضع الديمقراطية والحرية في قمة أولوياتها. ويصبح التقييم لمستوى الفن وجودته وتأثيره معتمدًا على ذوق كل مشاهد وليس الذوق العام الذي لا نجده سوى في الدول التي تتشدق بدعاوى حماية الأخلاق والقيم السامية مثل النظام النازي في ألمانيا والنظام الفاشي في إيطاليا والنظم العسكرية الحاكمة في أمريكا اللاتينية في النصف الثاني من القرن العشرين.
نظرة هاني شاكر الدونية وغيره لهذه الأغاني، تعبر عن قطاع يعتبر نفسه (النخبة الفنية/الثقافية) التي يهددها هذا اللون الفني المنحط (المهرجانات). ما بين حين وآخر، يتم استدعاء الهجوم على الفن الهابط، ويتُهم ويُرجم، في حين لا يُستدعى الفن الراقي والعمل على إتاحته وجعله أكثر انتشارًا، على الرغم من وجود صورة ذهنية تربط بين الفن الراقي والنخب. على الناحية الأخرى قد يقترب الفن الهابط من الشارع بكافة طوائفه دون تمييز أو حاجة لمستوى ثقافي معين، فيصبح هذا الفن الهابط متاحـًا للجميع في أحيان كثيرة.
إن الفنون مثل الكائنات الحية تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي حتى لو حاولت بعض النظم السياسية تصدير نوع معين للفن. فالفن الذي يستطيع أن يتكيف ويتأقلم مع الواقع ومتغيراته هو الذي يمكنه أن يستمر، ومن لا يستطيع سوف ينقرض مثل الديناصورات. واندثار الشيء أو بقاؤه لا يعني أنه جيد أو سيء. إن المنع لم يكن أبدًا الحل الأكثر حكمة، بل فتح المجال، وجعل العرض والطلب هو الحاكم للمعادلة، فالبشر يمتلكون القدرة على الحكم على الأشياء ومدى قبولهم لها، ولن تنجح أي سلطة -أيا كانت قوتها ومهما طال الوقت- أن تفرض نموذجًا فكريًا سواء بالمنع أو المنح.