مجتمع

في سوريا، أطباء ومهندسين برواتب لا تزيد عن ٣٠ دولاراً

لم تدمر الحرب المدن فحسب، بل قضت على الآفاق الاقتصادية لجيل كامل من الشباب
brad-neathery-XrSzacdYbtQ-unsplash
Photo by Brad Neathery on Unsplash


شهدت سورية حرباً دموية طويلة الأمد تركت آثارها على جميع القطاعات، من بينها القطاعه الوظيفي، فحتى خريجي الطب والهندسة والصيدلة -التي كانت تُحتسب وفق الاعتقاد المجتمعي بأنها أكثر الشهادات العلمية رفعة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية- بالكاد يستطيع أصحابها تأمين وظيفة أو الحصول على معاش يكفيهم.

خلال سنين الحرب خرجت القطاعات الوظيفية الحكومية والمؤسسات الاقتصادية الخاصة من دوائر العمل والتي قدرها البنك الدولي في نهاية ذروة الحرب العسكرية عام 2017 بخسارة 583 ألف وظيفة، وباتت سوريا بِلا حياة يومية حكومية أو مهنية أو تجارية، جراء حركة النزوح القسري الداخلية أو الخارجية، فضلاً عن آثار دمار البنى التحتية، وانهيار قطاع الإسكان والصحة بشكل كلي، وأيضاً وانسحاب رؤوس الأموال الاقتصادية العاملة منها.

إعلان

وفي ظلِّ انهيار العملة الوطنية أمام الدولار بمئات الأضعاف وارتفاع سبل المعيشة مقارنةً بالدخل الوطني السوري، انهارت الأسواق السوريَّة، واستنزفت العائلات السورية مدخراتها من أجل تهريب أبنائهم من سورية، ولاسيّما إلى الدول الأوروبية، أما الطبقة التي لا تملك مالاً كافياً للسفر إلى أوروبا من أجل الدراسة ثم العمل، فقد لجأت إلى الدول العربيَّة

في ظل هذه الأوضاع، يشعر خريجو الجامعات والمعاهد السورية بأزمة لا يمكن وصفها بسهولة، لكن تحليل المعطيات يشي بشكل جيد على الظواهر التي يشهدها المجتمع السوري عامة وقطاع الخريجين الجامعيين خاصة، من فقدان الأمل في إيجاد عمل مناسب اقتصادياً لتأمين الحياة، وعدم الإحساس بجدوى الحركة التعليمية طالما لا تشارك في إيجاد مركز مهني واجتماعي للحاصلين على الشهادات. وفي حال الحصول على فرصة فهي لا تكفي لتأمين أدنى تكاليف الحياة.

في ظل هذا الوضع، يشهد القطاع الصحي تراجعاً حاداً على مستوى الكوادر الطبية وصعوبة تأمين العمل في الداخل السوريِّ، حيث هاجر كثير من الأطباء من سورية نحو العراق وليبيا والصومال واليمن، بعيداً عن التحديات المرتبطة بمستوى الأمان؛ فهم يحصلون على رواتب ضخمة بالمقارنة مع الطبيب في داخل سورية.  

ويبلغ الحد الأدنى للرواتب الممنوحة للأطباء في الدول المذكورة ٢،٠٠٠ دولار كحد أدنى، ويضاف إلى الراتب الشهري حوافز خاصة وفق أغلب العقود التي استطعنا قرأتها والتي تضعها المكاتب الميسرة للعمل في الدول العربية على صفحات التواصل الاجتماعي. وتعد الرواتب المقدمة للأطباء في هذه الدول ممتازة بالنسبة لأوضاع العمل في سوريا، والتي لا يتجاوز فيها راتب الطبيب الموظف الثلاثين دولاراً وقد يصل لمئة دولار (٧٥-٢٥٠ ألف ليرة سورية).

إعلان

الطبيبة سلافة اليوسف، 29 عاماً، طبيبة حصلت على اختصاص باطنية من جامعة تشرين في اللاذقية، وأكلمت اختصاصها في مستشفيات اللاذقيَّة، تتحدث لـ VICE عربية عن وضع الأطبَّاء، تقول اليوسف إنَّها خلال الاختصاص الخمس، كانت تحصل على مُرَتَّبٍ لا يتجاوز الاثني عشر دولاراً، دون أيِّ تعويضٍ عن ساعات العمل الزائدة أو تكاليف المواصلات.

بعد انهائها التخصص، تخطط اليوسف لترك البلد: "أنتظر فتح الحدود بين العراق وسورية؛ لأحصل على عملٍ في مركز طبِّي في العراق براتب 2،000 دولار." وفي سؤالنا عن عدم محاولتها بدء عمل خاص في سورية قالت: "لا أحد في سورية يستطيع العمل في عيادة عينيَّة دون شراء أجهزة طبيَّة، يصل ثمنها إلى قرابة الأربعين ألف دولار. وفي الواقع، لا أملك مالاً لشراء عيادة أو استئجارها. أنا بِلا عمل الآن، وأتلقى مساعدة مالية للحياة اليومية من أخوتي. وأحياناً أقول بالعمل بالترجمة لبعض المنصات السورية التي تتعهد أعمال ترجمة." 

يعيش الأطباء السوريُّون حياة اغتراب صعبة؛ فالطبيب الشاب لا يملك ثمن الطعام حتى، في بلادٍ يعاني فيهٍا السوريُّون من أزمة غذائيَّة في الأصل، وتعيش أكثر فئات الطلاب ضغوطاً دراسياً في ظروف صعبة؛ فهم مجبرون على العمل لساعات طويلة مع مواصلة تحصيلهم العلمي الجامعي، وفي نفس الوقت لا ينتظرهم واقع جيد لتأمين سبل الحياة. 

يقول الطبيب محمد سلهب، 27 عاماً، لـ VICE عربية الذي يعمل ضمن الاختصاص (الجراحة العظمية) في مستشفى تشرين الجامعي في اللاذقية ويسكن في ريف اللاذقية: "لا نعيش أوقات جيدة أبداً؛ تعب الحصول على الاختصاص يجعلنا لا نستطيع التفكير في مستقبلنا ما بعد الاختصاص؛ نعيش كلَّ يومٍ بيومه فقط." ويضيف: "تقتصر حياة الطبيب في طور الاختصاص على دراسة ومعالجة المئات من المرضى يومياً، وبدوام يومي ومناوبات ليلية، دون أيِّ حياة اجتماعيَّة أو إنسانيَّة حقيقيَّة. ولا يكفي المُرتَّب (14) دولار المخصص لطالب الاختصاص -الذي هو بِحكم الموظف- لتأمين قوته اليومي أو بعض مقومات الحياة الأساسية." لا يستطيع محمد المشاركة في مصاريف المنزل، أو مساعدة أهله، وعلى سبيل المثال مثلاً يبلغ سعر الرداء الطبي حوالي 6 دولارات، أي ما يساوي تقريباً نصف الراتب. 

إعلان

خريجو الهندسة يعانون كذلك في إيجاد فرص عمل، وتقوم الدولة بالعادة بفرز للمهندسين المتخرجين في الجامعات الحكوميَّة ووضعهم في سياقات وظيفيَّة بعيدة عن مجال دراستهم أو اختصاصاتهم؛ فالمهندس السوري الحاصل على شهادة في هندسة الميكاترونيكس مثلاً، يستطيع التقدُّم إلى وظيفة ضمن النطاق الحكومي، لكنه -من المؤكد-  لن يجد شاغراً قبل سنوات طويلة، وإن حصل على الوظيفة لن تكون في مجال دراسته. فلا صناعة متوسطة في سورية ولا صناعة ثقيلة؛ لذا يكون العمل أقرب إلى الأعمال إدارية.

روئ العبدالله، 26 عاماً، مهندسة ميكاترونيكس من سكان مدينة اللاذقية، بدأت العمل بعد ثلاث سنوات من تخرجها، وتعمل في مكتب تابع لإدارة المركبات الزراعيَّة، وشرحت لنا نطاق عملها: "أعمل في مكتب حكومي تابع لمديريَّة الزراعة، لكن داخل هذا المكتب لا أملك طاولة، ولا عمل حتى. أضع كرسياً في الغرفة وأجلس. يقتصر عملي على فتح دفتر لأسجل المركبات والأدوات الزراعية، ولا أقوم بفتح الدفتر سوى مرة واحدة في الشهر، ولا أعمل أبداً في اختصاصي أو في المجال الذي تعلمته. والمرتَّب نفسه لا يكفي للحياة أو للمشاركة في تأسيس أسرة؛ إذ لا يتجاوز مُرتَّبي 14 دولاراً في الشهر، وأنا ملزمة بالمجيء إلى العمل كل يوم دون أن أملك مكتباً، أو حتى مكاناً مُريحاً للجلوس."

جورج كلش، 26 عاماً، مهندس ميكاترونيكس آخر، يعمل في معمل خاص لإنتاج المواد الغذائية (الكونسروة) في ريف اللاذقية، يُشرف على خط الإنتاج فيه. وقال لنا: "لم أُسجِّل على فرز وظائف الدولة، بل اتجهت إلى إيجاد عمل في القطاع الخاص. وكنت متردداً في الالتزام بعمل حكومي، حتى لا أكون مقيداً بعقد عمل حكومي طويل، إذا ما حاولت السفر في وقت آخر، إلا أن العمل الذي أقوم فيه بسيط؛ الإشراف على خط إنتاجي صناعي بسيط، ومُرتَّبي لا يتجاوز الثلاثين دولاراً، فالقطاع الخاص لا يختلف كثيراً على القطاع الحكومي." 

إعلان

وحينما سألناه عن طبيعة الضمانات الاجتماعيَّة أو الصحيَّة التي يقدِّمها صاحب العمل، قال: "لا يقدم القطاع الخاص أيّة ضمانة، وحتى العقد لا يملك شروطاً جزائيَّة أو شروطاً واضحة لحمايتي."

يظهر القطاع الخاص السوري عامَّة على انه قطاع استغلالي للخريجين الجامعيين، ولا يمنح أجوراً ضخمة أو جيدة؛ وذلك للعدد الكبير من الخريجين دون وجود إطار مدروس للاستفادة من الخبرات. وتوافر العدد الهائل من الخريجين يجعل أصحاب القطاع الخاص يدفعون أجوراً قليلة؛ استغلالاً لحاجة الخريجين الجدد إلى العمل وبناء الخبرات.

مأساة المهندسين المدنيين تدور في نفس السياق؛ فهم غير قادرين على إنشاء عملٍ خاص؛ لتوقف حالة البناء عموماً بسبب الظروف التي أنتجتها الحرب، وتقتصر عمليات البناء والإعمار على بعض فاحشي الثراء في سورية، الذين يلتزمون مع مهندسين محددين.

أحد أكثر القطاعات حدَّة في البطالة؛ هو قطاع الخرِّيجين من كلية الصيدلة، الذين بلغوا الآلاف خلال الخمس سنوات الأخيرة، وتلزمهم الدولة بالعمل في القطاع الريفي قبل فتح صيدلية في المدينة، مما جعل الريف يمتلئ بالصيدليات التي بالكاد تستقبل مريضاً كلَّ يوم. في محيط ريف المدن السوريَّة توجد المئات من الصيدليات التي بالكاد تحقق ربحاً يبلغ النصف دولار في اليوم. وتلزم الحكومة الخريجين الجدد بالخدمة في المناطق التي تعاني من نقص الخدمات - تحت مسمى خدمة الريف - وهو ما تسبب باكتظاظ الصيدليات في الريف، مع تجاهل الحكومة للمطالب بإلغاء هذه الخدمة.

الصيدلانية، رهف القاسم، 25 عاماً، من سكان طرطوس وصيدليتها في ريف طرطوس تقول لـ VICE عربية أنها افتتحت صيدلية في الريف منذ عامين، ولا تحقق لها صيدليتها أي عائد مالي. وتريد فقط تأجير شهادتها في الصيدلة لتاجر متنفذ في المدينة لكي يفتتح صيدلية في موقع جيد. وتضيف: "أحاول أن أعمل في الشركات الطبية كمندوبة طبية أو مسوِّقة لإحدى الشركات؛ من أجل تأمين حياتي. من المستحيل أن أفتتح صيدلية في موقع جيد، طرطوس المدينة لم تعد تتسع لصيدليات جديدة، وبالأصل لا امتلك مالاً كافٍ لدخول سوق التجارة بالأدوية، والذي لا يميل بطبيعته لأي قيمة علمية، بل لقدرات اقتصادية بحتة، وقدرة على جلب بعض الأدوية المهربة والتمكن من بيعها." وما تعنيه القامس هو أن الصيدلاني أصبح يُشبه أي بائع أو تاجر يبيع مواد بالمفرق أو الجملة. الدكاترة يكتبون الأدوية والصيادلة أصحاب متاجر فقط يبيعونها، بحيث يشعر الصيادلة أنهم يعملون في سوق تجاري أكثر من انتمائهم للحقل الطبي الذي قاموا بدراسته.

الشركات الطبية كذلك امتلأت بالصيدلانيين في الوقت الذي تشهد انحساراً في أعمالها من جراء الحرب، الصراع الذي تحياه الشركات الطبية مع الدولة، بسبب قواعد الاستيراد التي فرضتها الدولة على الشركات من جهة، وارتفاع سعر الدولار وضبط الدولة للسعر رغماً عن الشركات الطبية من جهة ثانية؛ ما جعل تكاليف الصناعة والاستيراد فيها باهظة الثمن. لذا قلّلت الكثير من المصانع الدوائية من نشاطها وبالتالي قلَّصت كادرها العامل. 

الصيدلانية ربا حطاب، 26 عامًا، حدَّثتنا عن استقالتها من العمل في الشركة الطبية التي كانت تعمل فيها: "عملت كمندوبة طبية من الصباح إلى المساء، وصعوبة المواصلات والالتزام بالدوام سببا لي مرضاً مزمناً في ظهري. وأجري الشهري لا يتجاوز العشرين دولاراً. الشركة لم ترفع أجورنا على الرغم من زيادة المبيعات. ولكن كثير من الصيدلانيين قد يرضون بأي أجر من أجل العمل. وقالت لنا أنها ستقوم بالبحث عن منحة أوروبية لاستكمال تعليمها والوصول إلى أوروبا، وستعمل بصيدلية ريفية قريبة لمنزلها."

اتَّجه مئات الصيادلة السوريين نحو سوق العمل العراقي، بمرتَّبات لا تتجاوز 700 دولار؛ أقله يستطيعون هناك تأمين حياتهم بحدٍّ أدنى من الاكتفاء الغذائي؛ فالمرتَّبات السوريَّة لا تضمن أن يتجاوز المواطن السوري خط الفقر أو أن يحقق أمانه الغذائي في ظل استمرار تدني قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية.