مقال رأي

كم أخطأنا حين قلنا نحن استثناء

علينا أن نعترف بعلاتنا وأمراضنا المزمنة ونحاول البحث عن العلاج دون مكابرة أو عناد
1600px-Flags_of_Tunisia

"الشعب التونسي استثناء،" "هذا الشعب مثقف وواعي،" "شعب متعلم وناضج" كثيراً ما سمعت هذه الصفات من عدد من الأصدقاء وفي الكثير من التقارير إعلامية ونقاشات المثقفين عند الحديث عن تونس.

لا أنكر أننا كتونسيين أحببنا هذه الأوصاف، وصدقناها للحد الذي سمح لنا أن نردد ذات الكلمات بقناعة كلما فتح نقاش حول تونس، دون أن نخفي نشوتنا التي تؤكد كم تشبعنا بهذا الإطراء، وكم تجذر ذلك داخلنا لدرجة أنه لم يكن بوسعنا الوقوف على خرابنا الذي طال كل شيء، وأبينا أن نصارح أنفسنا أننا أخطأنا حين صدقنا أننا فعلاً استثناء- وإن كان خرابنا لا يعادل ولا يقاس بذلك الذي لحق بسوريا وليبيا وحتى مصر لعدة اعتبارات أهمها أن تونس لم تتجه لحرب أهلية ولم يستلم الجيش فيها مقاليد الأمور.

إعلان

ربما أصبح من المخجل لنا بعد هذه السنوات من كذبة الاستثناء التراجع عن هذا الاعتقاد، رغم أن ما يحدث كل يوم يثبت لنا غير ذلك. ربما لهذا واصلنا المكابرة باعتبارها السبيل الوحيد لنحافظ على ماء الوجه لا سيما وأننا نعرف أن كثيرون من غير التونسيين مازالوا يصدقون هذه الكذبة ويرددونها في كثير من المواقف. 

لكن العديد من الحوادث التي تجري باستمرار وخاصة في الفترة الأخيرة تجعل من دوام هذه المكابرة عبثيًا بل ومثيرًا للشفقة. أصبح لزاماً علينا أن نواجه أنفسنا أن ندرس ونحلل كل ما اقترفته أيدينا، أن نراجع أحكامنا الجائرة التي أطلقناها ضد بعضنا البعض لمجرد أننا لا نشترك في الفكر أو الجنس أو التوجه السياسي، وأن نراجع طرق تعاطينا مع ساستنا وطريقة تفاعلنا مع مصائبنا الجماعية.

ولعل الوقوف على كل الحوادث الكفيلة بنقض صورتنا المسوقة يحتاج للكثير من المقالات، ولكنني سأكتفي ببعض ما حصل في الأشهر القليلة الأخيرة لنقل من بداية السنة. في شهر يناير، قام عدد من الشباب للاحتجاج في شهر يناير ضد التفقير والتهميش بسبب فشل السياسات الاقتصادية، ولكن بدل التضامن مع معهم ومع مشاكل البطالة والفقر وضيق الحال، خرج كثيرون ينددون ويتذمرون، واستاء آخرون من احتجاجهم أصلاً. وفي هذا الموقف يجوز القول أننا لم نكن استثناءً، بل نسخ مشوهة عن غيرنا من الشعوب العربية الأخرى التي تعودت عدم مواجهة حكامها، حتى وهم يمارسون ضدهم التجاوزات ويحرمونهم حقوقهم المشروعة. 

بعد ذلك بقليل في ذات الشهر واجه المحتجون ضروبًا مختلفة من الانتهاكات والاعتداءات والاعتقالات الواسعة على يد الشرطة. استنكر البعض ما جرى فيما صمتت غالبية الشعب، ولكن عندما قام بعض الشباب الغاضب برش بعض الدهان على دروع الأمنيين ورددوا شعاراتهم الرافضة لدولة البوليس والحكومة الفاشلة، قامت الدنيا وقعدت. فجأة انتفض البعض على المحتجين أنفسهم، معتبرين أن كرامة شرطي الأمن قد أهينت في حين لم يهتز الشعب ذاته للشباب المعتقلين أو الشباب الذين لا يجدون عملاً أو لا يستطيعون إكمال دراستهم.

إعلان

استفزهم الدهان الملقى على درع مطاطي ولم يستفزهم أن يفقد شاب خصيته جراء تعذيب شديد تعرض له أثناء اعتقاله عقب الاحتجاجات وأن يموت شاب في مقتبل العمر بقنبلة مسيلة للدموع على يد هذا الأمني. تحركوا وهاجوا وماجوا من أجل إلقاء الألوان ولم يتحركوا بذات الحماس للأحكام الجائرة بسجن شباب وأطفال خرجوا ليقولوا لا لمنظومة فاسدة وطالبوا بعدالة اجتماعية. 

أثبتنا مرة أخرى أننا لسنا شعبًا استثنائيا، فالانتصار للجلاد والمنظومات الفاسدة من شيم الشعوب البائسة الخانعة.

إعلان

في خضم هذه الحوادث وبسبب التهليل والتشهير الذي قام به الشعب المنتفض "لكرامة" درع الأمني مارست عناصر الأمن انتهاكات جديدة ضد الكثير من الشباب المحتج، من بينهم ناشطة كويرية تدعى رانيا العمدوني، وبدلاً الوقوف إلى جانبها بسبب استهدافها ظلمًا، قام هذا الشعب مجددا بالتشهير والتحريض ضدها فقط لأنها مختلفة جنسيًا وفكريًا عنهم. 

رانيا، 26 عامًا، محتجزة تعسفياً وحكم عليها بالسجن 6 أشهر بتهمة "سب" موظف حكومي بعد قيامه بالسخرية منها ومضايقتها لفظيًا خلال مشاركتها في الاحتجاجات الشبابية. وقال محاميها إنها تتعرض لمضايقات من قبل حارسات السجن بسبب هويتها الجندرية. اعتقلت رانيا وسجنت زوراً وبهتانا ولكن الأكثرية واصلوا ذات الخطاب المتشفي لمجرد أنها لا تشبههم. عن أي استثناء نتحدث، إذا كان اختلاف أحدنا يعد سببًا لنتخلى عنه وهو يتعرض لمظلمة. إنها سقطة كبيرة، وليست الأولى أو الوحيدة، كفيلة بإثبات أننا بهذا نشبه بقية الشعوب التي تقدس السائد وترفض الاختلاف بل وتجرمه.

ليس هذا فقط. قبل أيام قليلة مات شاب ثلاثيني في السجن بسبب عدم تمكينه من الأنسولين رغم علم الإدارة أنه من مرضى السكري. مر الخبر هادًئا بلا ضجيج ولا استنكار بحجم المأساة، وبعد يومين احتجت مجموعة من الشباب أمام تمثال العلامة ابن خلدون بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة ليطالبوا بإطلاق سراح الشباب المعتقلين بسبب الاحتجاجات، وقاموا خلال ذلك بكتابة شعارات على الحائط الحامل لتمثال ابن خلدون. قامت الدنيا وقعدت وأعلنت حرب كلامية ضد هؤلاء الشباب ونعتوا بأبشع النعوت ووصفوا بأسوأ الأوصاف. التماثيل الجامدة وهي تلطخ ببعض الدهان قد أثارت حفيظة هذا الشعب أكثر من موت أحدهم بسبب الإهمال. هل بوسعنا أن نتجرأ بعد ذلك على القول بأننا استثناء.. قطعًا لا يمكن.

منذ الثورة تحكمنا طبقة سياسية أثبتت فشلها اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، ورغم ذلك تعود وتفوز في الانتخابات بتصويت الشعب الذي يبكي ليلاً نهاراً من تفاقم الفقر وغلاء المعيشة. الفقر والبطالة المتفشية في تونس ليست أحد عوامل ابتعادنا عن كوننا "شعبًا استثنائيًا" كما يشاع لأن هذه المشاكل قائمة في كل الدول وإن كانت بدرجات، لكن طرق التعاطي معها هو الذي يضعنا في خانة أخرى دون المأمول. 

أعتقد أنه قد آن الأوان لنقر أمام أنفسنا كتونسيين أولاً أنه لا يزال ينقصنا الكثير لينطبق علينا وصف "استثنائي." علينا أن نعترف بعلاتنا وأمراضنا المزمنة ونحاول البحث عن العلاج دون مكابرة أو عناد. ولنقر بهدوء ودون خجل أننا أخطأنا حين اعتقدنا أننا استثناء. ربما في حال أقدمنا على هذه الخطوة بصدق ودون مراوغة أو هروب أو محاولات بائسة للتبرير سنكتشف حينها ما إذا كنا ذلك الشعب الذي سوقت له صور أخرى لا تشبهه لكننا أحببناها وتبنيناها حتى أعمتنا عن حقيقتنا.