لبنان
صحة نفسية

كيف حسنّـت ثورة لبنان صحة الشباب النفسية؟

بكل بساطة هيدي أحلى فترة في حياتي

"كلن يعني كلن" هذا كان شعار الاحتجاجات في لبنان التي انطلقت في 17 أكتوبر ضد إعلان الحكومة بأنها ستقر ضرائب إضافية في الموازنة الجديدة من ضمنها ضريبة على مكالمات الواتساب، قبل أن تتحول لثورة شعبية ومطالب بإسقاط النظام، إضافة لتحسين الوضع الاقتصادي ومحاربة الفساد وإجراء انتخابات نيابية جديدة بقانون انتخاب عادل، واسترجاع الأموال المنهوبة وغيرها من المطالب والحقوق.

شاركتُ في أول مظاهرة عند جسر الرينغ في بيروت مع أختي وصديقتي. مشينا ضمن مجموعة صغيرة تقدمها حلقة من النساء لمنع العنف، قبل أن ينضم إلينا عدد من المتظاهرين. ومنذ ذلك الوقت وأنا أشارك في المظاهرات يومياً. في هذه الأيام لاحظت تحسنًاً في حالتي النفسية وشعوراً بالسعادة. الشعور بالوحدة والفراغ الذي كان يسكن قلبي ويشكل غيمة مظلمة في داخلي استبدلته نيران الإطارات المشتعلة في شوارع بيروت. لم أعد أبكي بسبب احباطي أو لأنني أشعر بتقلب غريب في مزاجي، بل بكيت مرة عندما تم تكسير الخيم وتعرض الناس للضرب في ساحة رياض الصلح في وسط العاصمة اللبنانية بيروت من قبل مناصري بعض الأحزاب.

إعلان

ولكني لم أكن الوحيدة، فجميع من أعرفهم من مكتئبين ومكتئبات ومن انطوائيين وانطوائيات شاركوا في هذه المظاهرات التي تنوعت بين إغلاق الطرق والتصدي للقنابل المسيلة للدموع إلى الهتاف والغناء والرقص، مما استدعى البعض لوصف اللبنانيين بأنهم أكثر شعب محبط في العالم. هذا الشعور بنوع من الايفوريا ظهر أيضاً على الشعارات التي خطها المتظاهرين على جدران المدينة، فبالإضافة إلى المطالبة بإسقاط النظام، كانت هناك دعوات أيضاً لإسقاط الـ anxiety. هذا التغيير الذي لاحظته في نفسية بين الناس وبين أصدقائي دفعتني للتحدث مع عدد من المتظاهرين كي أرى ما إذا كانت الثورة قد أثرت فعلاً على حالتنا النفسية.

كنت أرى معالجة نفسية بإنتظام لأنني كنت أعاني من اكتئاب حاد. ولكن خلال هذه الثورة لم أعد أذهب للمعالجة النفسية، لم أعد أشعر بالحاجة إليها

"السعادة هنا جماعية، ولا مجال للإكتئاب أو الشعور بالحزن. الجميع لديه هدف واحد وهو إسقاط النظام،" تقول سلوى، 22 عاماً، والتي قابلتها في أول أيام المظاهرات وكنت أراها يومياً عند جسر الرينغ وفي ساحة رياض الصلح. تقول سلوى أن الثورة كانت سبباً في جمعها بحبيبتها السابقة مما حَسن نفسيتها كثيراً: "كنت أحارب الإكتئاب منذ أن انفصلت عنها وتعرضت لعدد من حالات الهلع المتتالية ما جعلني أستشير معالجة نفسية، ولكن نفسيتي تغيرت باللحظة التي شاركت بها بالمظاهرات. كنت أرى أصدقائي يومياً وأتعرف إلى أشخاص جدد وأفتح الحديث معهم بدون أي خجل أو إحراج - وهو أمر جديد علي،" وتكمل سلوى: "في اليوم الرابع من الثورة، التقيت حبيبتي السابقة، بعد شهرين من انتهاء علاقتنا. جمعنا هذه المرة الهدف المتوحد، وتَصالحنا- فقد عَلقت في بيروت بسبب اغلاق الطرقات واقترحت أن تنام في مَنزلي، ووافقت وتصالحنا ههه. شكراً للثورة."

إعلان

الوضع الاقتصادي السيء وعدم الاستقرار السياسي والحروب التي شهدها لبنان كلها انعكست سلبا ًعلى نفسية وسلوك اللبنانيين، حيث تشير تقارير إلى أن "حالة انتحار تقع كل ثلاثة أيام في لبنان" أي ما يقارب 150 حالة انتحار سنوياً. كما أظهرت دراسة لجمعية Embrace لدعم ونشر الوعي حول الصحة النفسية في لبنان أن واحد من كل أربعة لبنانيين عانوا من اضطراب نفسي في فترة ما من حياتهم. وتعتبر حالات القلق النفسي والاكتئاب هي الاضطرابات النفسية الأكثر انتشاراً في لبنان، حيث تقدّر منظمة الصحة العالمية أن 5.5% و4.4% من اللبنانيين يعانون من القلق النفسي والاكتئاب على التوالي.

"كنت أرى معالجة نفسية بإنتظام لأنني كنت أعاني من اكتئاب حاد،" تخبرني جوليا، 27 عاماً، التي تعمل في مجال تصميم الغرافيك، والتي تعرفت عليها عبر أصدقاء مشتركين: "ولكن خلال هذه الثورة لم أعد أذهب للمعالجة النفسية، لم أعد أشعر بالحاجة إليها، كما أنني أخذت عطلة من عملي على حسابي لأشارك في المظاهرات كل يوم."

تضيف جوليا أنها لأول مرة ترى أن هناك أمل في التغيير في لبنان: "كنت أشعر بفقدان الأمل تماماً بلبنان، لم أعد أحبه، وحاولت مراراً وتكراراً أن أقدم للهجرة، لكنني منذ مشاركتي بالمظاهرات "حسيت إنو ما بدي فِل." أنا لا أفكر بأي شيء آخر. لا عمل، لا أفلام، ولا نتفليكس، أتابع فقط أخبار الثورة. لا يمكن أن أصف ما شعرت به في هذه الثورة لأنني لأول مرة أشعر أن هذا البلد لنا."

أما صديقي المقرب علي، 27 عاماً، الذي يعمل كصانع محتوى، فيشير إلى أنه صحته النفسية تغيرت بالكامل منذ مشاركته بالمظاهرات: "كنت أعاني من حالة اكتئاب صعبة قبل الثورة، لم يكن لدي هدف محدد في حياتي وشعرت بالفراغ الداخلي. لكن مع نزولي الى الشارع بدأ وضعي النفسي يتحسن."

إعلان

أصبحنا نقوم بنقاشات كثيرة ومهمة حول أساسيات الثورة والوضع السياسي والإقتصادي، وهذا مختلف تماماً عن أحاديثنا قبل الثورة - فقد كنا نقضي أغلب أوقاتنا بالتسكع أو بالكلام عن قصصنا العاطفية الفاشلة

يشير علي إلى أن وجود رفاقه بجانبه في المظاهرات ساعده كثيراً: "نحن نتشارك في كل شيء، ولدينا أهداف مشتركة فيما يتعلق بالثورة. أصبحنا نقوم بنقاشات كثيرة ومهمة حول أساسيات الثورة والوضع السياسي والإقتصادي، وهذا مختلف تماماً عن أحاديثنا قبل الثورة - فقد كنا نقضي أغلب أوقاتنا بالتسكع أو بالكلام عن قصصنا العاطفية الفاشلة." ويشير علي أن المظاهرات خلقت مساحات مهمة للنقاش، فقد تم عقد العديد من المحاضرات يومياً في ساحات المظاهرات شارك في تقديمها مدرسين جامعيين ومحاميين واقتصاديين وصحافيين وناس عاديين أيضاً للحديث عن المرحلة الانتقالية بعد الثورة وغيرها من المواضيع.

"بكل بساطة هيدي أحلى فترة في حياتي،" يقول رافي، 26 عاماً، الذي يعمل في الفنون المرئية والمسموعة مشيراً إلى تأثير الثورة عليه، حيث أنه لم يعد يفكر بسوداوية ولم تعد أفكار الانتحار تخطر على باله كما في السابق، ويضيف: "الشهر الماضي كنت أقرب إلى الإنتحار من أي وقتٍ آخر، ولم يمر عليّ يوم دون أن أفكر بالموضوع. بعد مشاركتي بالثورة، لا أقول أنني أصبحت بخير، ولكن أصبح لدي هدف يومياً وأصبحت متصلاً بشكل أكبر مع من حولي."

هذا الشعور بالسعادة والانتماء لشيء أكبر، هو شعور تشارك فيه معظم من تحدثت معهم من مختلف المناطق، حيث يشير البعض إلى أنهم أصبحوا يخرجون من المنزل أكثر للمشاركة في المظاهرات، ومنهم من تحسنت علاقاته الإجتماعية سواء مع أهله أو أصدقائه. الشعور العام بالعدمية بين الشباب لم يعد هو المسيطر كما يؤكد كثيرون.

إعلان

محيا، 26 عاماً، الذي يعمل في مجال تصميم الغرافيك، يشير إلى أن هذه المظاهرات مختلفة عن كل سابقاتها: "بعد حراك 2015 ضد أزمة النفايات تحت شعار "طلعت ريحتكم" شعرت بإحباط كبير بعدما فشلنا في أن نُحدث أي تغيير فعّال. قبل هذه الثورة كنت أشعر بالإحباط طوال الوقت. ولكن خلال الأيام الماضية، لم يعد لدي وقت كي أشعر بالإحباط. حراك 2015 لم يحقق ما نريده، لكن لدي أمل كبير بهذه الإنتفاضة."

أما بالنسبة لـ حسّان، 30 عاماً، من الخندق الغميق وهي أحد المناطق الشعبية في بيروت، هذه الثورة كانت عبارة عن تفريغ لاختناق قديم عاشه هو وأصدقائه: "قبل اندلاع الثورة كنت أشعر بأنني مخنوق طوال الوقت، وكنت ألجأ لتعاطي المخدرات مع الأصدقاء، اليوم لم يعد هناك وقت لاضاعته في التسكع، هناك أمور أهم." يضيف حسّان الذي قابلته عند مدخل الخندق الغميق وهو يشرب القهوة متفرجاً على قاطعي جسر الرينغ: "لم أرى بيروت بهذا الجمال والوحدة في حياتي. أريد إسقاط جميع الزعماء لأنهم يتحكمون بحياتنا، ولأنني ببساطة بدون واسطة من حزب ما لا يمكنني أن أتوظف."

على الجانب الآخر، كانت الثورة سبباً في إعادة التفكير بترك البلد والهجرة بحثاً عن مستقبل أفضل، فالغالبية العظمى من اللبنانيين (حوالي 15 مليون نسمة) يعيشون في الخارج، فيما هناك أقل من 4 ملايين مواطن مقيم في لبنان نفسه. بالنسبة للشباب، الهجرة كانت جزءاً من أفكارنا اليومية لأسباب كثيرة ابتداءً من انقطاع الكهرباء، وعدم توفر خطط إسكان معقولة، إلى ارتفاع أقساط التعليم الجامعي، وانهيار شبكات الخدمات التحتية وعدم وجود وظائف للخريجين، وسيطرة رأس المال على أهم قطاعات البلد.

لكن بعد هذه الثورة ظهر هناك ضوء صغير في آخر النفق، حتى أن كثير من المغتربين اللبنانيين قاموا بالمشاركة في المظاهرات من مختلف الدول، وبعض منهم عاد إلى لبنان للمشاركة في المظاهرات. تخبرني صديقتي منال، 23 عاماً، التي سافرت إلى مانشستر في المملكة المتحدة كي تتابع دراستها العليا في الجامعة قبل شهر من بدء الثورة، أنها نظمت مظاهرة صغيرة مع أصدقائها اللبنانيين لدعم الثورة من هناك.

إعلان

"لا استطيع التركيز في الدراسة بسبب متابعتي لأخبار المظاهرات. أنا في المكان الذي كنت أرغب دائماً أن أكون فيه، أحقق حلمي وأتابع دراستي الجامعية للحصول على درجة الماجستير، في واحدة من أعرق الجامعات. كنت أعيش تجربةً استثنائية، حتى خرج اللبنانيون إلى الشوارع موحدين ومطالبين بدولة مدنية. أنا في مانشستر، لكن قلبي وعقلي وروحي في بيروت."

في حال كان الشخص يعاني من إحباط وليس اكتئاب، فستقدم هذه الثورة نوعاً من التعزيز والأمل وتعطيك شعور بأن لديك هدف. ولكن سيشعر المُحبط بتقلبات في مزاجه بحسب مجريات الثورة

هل نبالغ أم حقاً يمكن للثورة أن تعالج كآبتنا؟ يجيب الدكتور خالد ناصر معالج نفسي متخصص في علاج الصدمات: "الاكتئاب كحالة نفسية مرضية، لا يزول بسبب الثورات أو المشاركة بها. أما إذا كان الشخص مُحبط على الطريقة اللبنانية - "مدّربس" فهذه الثورة ستغير من مزاجه بلا شك."

ويشير الدكتور خالد إلى أن "الشخص الذي يعاني من حالة اكتئاب حادة يبتعد بالعادة عن أي اختلاط اجتماعي، لهذا لا تراهم في النشاطات الاجتماعية والسياسية. أما في حال كان الشخص يعاني من إحباط، شعور بالوحدة والفراغ أو تقلّب في المزاج، فستقدم هذه الثورة نوعاً من التعزيز والأمل وتعطيك شعور بأن لديك هدف. ولكن من جهة أخرى، سيشعر المُحبط بتقلبات في مزاجه بحسب مجريات الثورة."

بالنسبة لي، وبعد تحقيق أول مطالب المتظاهرين واستقالة الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري، ما زلت أشعر بالحماس والسعادة، ولكن الشعور مختلف عن الفرحة النقية التي شعرتها في الأيام الأولى. فالأيام الأولى كانت مرحلة أشبه الـ Honeymoon phase، أما الآن فأنا أفكر أكثر بما سيحدث لاحقاً. وكما قال دكتور خالد فقد غرقت في مجريات الثورة وأحداثها، وكل خبر يؤثر علي بطريقة مختلفة، لكن الدعم المعنوي من أصدقائي وما نقوم به من نشاطات اجتماعية جعلنا جميعاً في حالة نفسية أفضل.

ولكن الشعور بالسعادة والأمل لا يعني أننا لا ندرك صعوبة تحقيق مطالب الثورة: "لدي تخوف أشعر أن هذه السعادة يمكن أن تنتهي إذا انتهت هذه الثورة دون تحقيق ما آلت إليه وهو إسقاط زعماء الحرب وبناء وطن يشبهنا،" تقول جوليا. ولكن سواء حققنا مطالبنا جميعها أم لا، أعتقد أننا كشباب انتصرنا بطريقتنا، ولا يمكن أن نعود لما كنا عليه قبل الثورة.