تحقيقات

48 ساعة في مخيم جنين... ماذا فعل جيش الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطينين، وكيف فشلت العملية؟

"شعبنا ومقاومته قدموا دليلاً جديداً على أننا لا يمكن أن نتراجع أو نستسلم"
48 ساعة في مخيم جنين... ماذا فعل جيش الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطينين؟ وكيف فشلت العملية؟

مسن فلسطيني يرفع علم فلسطين امام مدرعة إسرائيلية خلال اقتحام قوات الاحتلال للمخيم، 4 يوليو 2023. جميع الصور: أيمن النوباني

في قرابة الساعة الواحدة والنصف فجر الاثنين ٣ يوليو الماضي، قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلاً في وسط مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، تبعه تحليق مكثف للطائرات المروحية والطائرات المُسيّرة. كما تم تسيير أكثر من ١٥٠ آلية عسكرية من كافة المحاور والمداخل تمهيدًا لمحاصرة واقتحام المخيم ذات المساحة المحدودة؛ أقل من نصف كيلومتر مربع.

ما عانى منه سكان مخيم جنين البالغ عددهم نحو ١٤ ألف نسمة من أصوات القصف وكثافة إطلاق النار وعمليات الاقتحام وجرف المنازل والشوارع والبنى التحتية، أعاد لذاكرة السكان ما عانوه خلال ما عُرف بـ "الاجتياح الكبير" عام ٢٠٠٢ خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

إعلان

وكان قد أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، أن قوات الجيش بدأت عملية عسكرية هدفها إحباط عمل مجموعات "إرهابية"، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت. واستمرت عملية محاصرة المخيم وقصفه خلال الأيام الأخيرة ٤٨ ساعة متواصلة ليلاً نهارًا، التي أدت إلى قطع المياه والكهرباء. كما أسفرت عن نزوح أكثر من ٤ آلاف فلسطيني لاجئ من منازلهم إلى مدينة جنين وقرى مجاورة تحت وقع التهديد وإطلاق الرصاص، وانتشار العديد من القناصة الإسرائيليين على أسطح المنازل.

ay (8).jpg

شبان يهربون بعد إطلاق قوات الاحتلال قنابل الغاز على متظاهرين فلسطينيين قرب مستشفى جنين الحكومي بالقرب من مخيم جنين

تهاني جمال، ٤٣ عامًا، من سكان مخيم جنين، اضطرت إلى حمل أطفالها الـ ٤ وجر حماتها المريضة على كرسي متحرك برفقة العشرات من جيرانها وجاراتها. تحكي جمال: "بعد ٢٤ ساعة تقريبًا من الرعب والخوف وصراخ أطفالي، وقطع المياه والكهرباء، اقتحم مجموعة من جنود الاحتلال منزلها، وخيرونا ما بين اخلاء المنزل أو قصفه على رؤوسنا."

وجدت جمال نفسها مجبرة على حماية أبنائها وحماتها، وحاولت أن تطلب من الجنود تركهم وشأنهم، إلا أنّ صراخهم عليها ورفع السلاح في وجهها أفزع أطفالها، ما اضطرها إلى الانصياع بشكلٍ مباشر. وتضيف: "تركت كل اشي ورانا بالبيت، لا قدرنا ناخد فلوس ولا ملابس ولا أوراقنا الرسمية ولا اشي."

هربت جمال خارج المخيم بصعوبة بالغة حتى وصلت باحة مستشفى جنين الحكومي على أطراف مدينة جنين القريبة من المخيم، وسط تكدس العائلات النازلة التي انتقلت فيما بعد إلى فندق السينما والذي فتح أبوابه للنازحين من المخيم، مستقبلاً أكثر من ٣٥ عائلة.

ay (20).jpg

نساء فلسطينيات يمشين في شارع مدمر وسط مخيم جنين بعد انسحاب قوات الاحتلال من المخيم

المرضى والأطقم الطبية

أحمد جرادات، ٥٣ عامًا، عانى من نزوح مشابه لقصة جمال، حيث أجبره الجنود الإسرائيليون وأطفاله وزوجاته وأحفاده على إخلاء منزلهم، دون مراعاة صحته وأمراضه المزمنة، منها السكري والضغط.

إعلان

تفاقم قلق جرادات حتى بعد هروبه، حيث كان دائمًا على اطلاع على بقية المقيمين داخل المخيم، وخاصة الشباب الذين استخدمهم جيش الاحتلال كدروع بشرية أثناء اقتحام المخيم. أثر تنقل جرادات المتكرر بين المنزل بعد تخريبها وتدميرها إما بشكل كلي أو جزئي على صحة أحمد حتى أُرهق صحيًا، واضطر إلى نقله إلى المستشفى لتلقي العلاج بسبب حالته الصحية التي يعاني منها إثر أمراضه المزمنة.

ay (27).jpg

مسعفون ينقلون جريحًا فلسطينًا إلى مستشفى ابن سينا في مدينة جنين أصيب خلال الاشتباكات في اول أيام الاقتحام

وفي خلال يومين، توافد الجرحى والضحايا على مستشفيات جنين نتيجة الاشتباكات مسلحة بين المقاومة الفلسطينية وجنود الجيش داخل أزقة المخيم، كما تم استهداف بعض مروحيات قوات الاحتلال. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، أدت هذه الاشتباكات إلى مقتل ١٢ فلسطينيًا وإصابة أكثر من ١٤٠ آخرين. 

وقال الدكتور محمود السعدي، مدير الإسعاف في الهلال الأحمر بجنين، أنّ طواقم الإسعاف عملت تحت ظروف في غاية الخطورة والصعوبة، خاصة مع منع الإسعافات من الدخول إلى بعض المناطق أثناء العملية العسكرية التي استمرت يومان متواصلان. وأشار الدكتور إلى أنّ الطواقم الطبية تعرضت لأكثر من هجوم مباشر، منها استهداف مسعفين اثنين أصيبا بالرصاص، وإطلاق النار على مستشفى الأمل، ما أدى إلي إصابة بعض المواطنين المتواجدين في باحات المستشفى.

انسحاب الجيش من المخيم

بدء الجيش بالانسحاب من المخيم مساء اليوم التالي حتى ساعات الفجر الأولى من يوم الأربعاء. وبحسب ما قالت وسائل إعلام إسرائيلية، شارك حوالي ١٢٠٠ جندي إسرائيلي في العملية. وهرع سكان المخيم النازحين إلى منازلهم برفقة طواقم الدفاع المدني والصحة والصحفيين، ليشاهدوا الدمار الذي حل في المخيم.

إعلان

ودمر الاحتلال الإسرائيلي شبكتي المياه والكهرباء بشكلٍ كامل بحسب ما قال بشير مطاحن المتحدث باسم بلدية. ويضيف: "تعرض ٣٠٠ منزل لدمار كلي، وقرابة ٤٥٠ منزل دُمرت بشكلٍ جزئي."

 فشل القوات إسرائيلية في القضاء على المقاومة الفلسطينية

خلال عملية اقتحام القوات الإسرائيلية المخيم ونزوح العديد من سكانه، هرع العشرات من الفلسطينيين من مدن وقرى فلسطينية لتقديم المساعدات الطبية والغذائية، وفتحوا منازلهم لاستقبال الأهالي. ويقول الدكتور أيمن يوسف، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العربية الأمريكية بالضفة الغربية لـ VICE عربية: "كان التكاتف الاجتماعي الفلسطيني أحد مكتسبات المعركة، حيث خلقت واقع أكثر تماسكًا بين الفلسطينيين."

ay (13).jpg

صورة تظهر تصاعد دخان من وسط مخيم جنين خلال الاشتباكات

ويرى الدكتور أن العملية الإسرائيلية فشلت ولم تحقق أهدافها عندما أعلن الاحتلال عن عمليته للقضاء على المقاومة الفلسطينية. ويقول: "المقاومون مازالوا موجودون والإرادة موجودة. وبرأي، نعم استخدمت إسرائيل أسلوب الردع من خلال تدمير البنية التحتية، لكنها لم تقضي على المقاومة الفلسطينية."

بعد انتهاء العملية وانسحاب الجيش، تحدثت الصحافة الإسرائيلية عن "ردعها" للمقاومة الفلسطينية. لكن في واقع الحال، الوصف لا ينطبق على ما حدث. ويقول الدكتور يوسف: "لعل تصريحات نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) عكست هذا الفشل، عندما قال سنعود مرة أخرى إلى جنين وسنطبق هذه الإستراتيجية في مناطق أخرى."

ويعتقد الدكتور يوسف أن العملية الأخيرة خلقت إشكاليات لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي، خاصة وأنّ هناك نقاشات إسرائيلية، تفيد بأنّ "الحكومة الأصولية التوراتية هي من دفعت الجيش إلى العملية الأخيرة في مخيم جنين، بعدما كان الجيش متحفظ على تنفيذها." 

إعلان

وخلال حديثه معنا، يشير الدكتور سليم بريك، محاضر في الجامعة المفتوحة بـ حيفا، إلى أنّ ما حدث في جنين كانت نتيجة مشاكل أمنية بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية. ويضيف الدكتور بريك: "هذه المقاومة لم تأتي من فراغ، هذه المقاومة تأتي بسبب الاحتلال، ونحن لا نستطيع أن نفصل بين السبب والمُسبب، أدنت لا تستطيع أن تتحدث عن الإرهاب الفلسطيني وكأن الفلسطينيون يخلقون الإرهابيين."

المقاومة مستمرة

بعد يومين من انتهاء العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، أعلن متحدثين في جيش الاحتلال الإسرائيلي عن اعتقال ٣٠٠ مقاوم من المخيم، من أصل ٣٥٠ مقاومًا كانوا قد أعلنوا في بداية العملية عن استهدافهم بشكلٍ مباشر. وأصدرت فصائل المقاومة الفلسطينية بجنين بيانًا مشتركًا عبرّ حسابها الرسمي على تيليجرام، أكدت فيه استمرارها في الاستعدادات على كافة المستويات للتصدي لأي اقتحام متوقع قد ينفذه جيش الاحتلال على مدينة جنين ومخيمها.

واعتبر عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي الشيخ نافذ عزام، أنّ تصدي المقاومة الفلسطينية لجيش الاحتلال والاشتباكات التي خاضتها داخل المخيم على مدار يومين، إضافة إلى التضامن الاجتماعي الفلسطيني باستقبال النازحين وتقديم مساعدات عاجلة، أثبت أن "شعبنا ومقاومته قدموا دليلاً جديداً على أننا لا يمكن أن نتراجع أو نستسلم."

ويتابع: "حشد جيش الاحتلال قوات النخبة، وكافة التشكيلات العسكرية، بحسب تصريحات قيادته. واقتحم مخيم جنين بآليات عسكرية مصفحة، وهي الأكثر تطورًا في العالم. لكنه أُجبر على التراجع، ولم يُحقق أيًا من أهدافه التي أعلنها في بداية حملته العسكرية."