مقال رأي

مسلسل سفاح الجيزة.. كيف تساهم الأبوية في إفلات قتلة النساء من العقاب؟

استخدم القاتل المتسلسل قذافي عبد العاطي معايير الأبوية في تنفيذ جرائمه، وأيضًا في الإفلات بها.
سفاح الجيزة

SHAHID.NET

بدأت منصة شاهد مؤخرًا عرض مسلسل سفاح الجيزة، بطولة الفنان أحمد فهمي والممثلة الأردنية ركين سعد. هذا العمل الدرامي المشوّق والمرعب في نفس الوقت، مقتبسٌ عن قصة حقيقية لقاتل مصري متسلسل أغلب ضحاياه من النساء.

وإذا نظرنا إلى الحقائق الحقيقية لهذا القاتل، فسنجد أنه تمكن من الإفلات من قتل النساء لسنوات. ولم يتم الكشف عن هذه الجرائم إلا من خلال الصدفة البحتة، حيث اعتمد القاتل على الوصمة الأخلاقية لضحاياه من النساء، لإلهاء أسرهن عن اختفائهن المفاجئ. وكانت النتيجة أن أغلب الأسر صدقته بالفعل، ودفعت النساء الثمن من حيواتهن.

إعلان

القصة الحقيقية

القذافي عبد العاطي هو القاتل المتسلسل الذي قام بتجسيده الفنان المصري أحمد فهمي في المسلسل. قذافي هو شاب مصري من عائلة بسيطة، كان الجميع – وحتى هذه اللحظة – يشكرن/ون في أخلاقه وتدينه وحبّه لعمل الخير.تبدأ قصة قذافي عندما تزوّج فاطمة، زوجته الأولى، وبعد خلافٍ بينهما قتلها وأخفى جثّتها لمدة سنوات، ليُقابل بعدها شابة أخرى ويتزوجها. لكن الزوجة الثانية كان لها أختًا كانت على علاقة عاطفية بقذافي، وهددته أنها ستكشف سره أمام عائلتها. فيقوم بخطف الأخت، وقتل الزوجة.

يختفي قذافي بعد ذلك، ليظهر في مدنية الإسكندرية باسم جديد وهوية جديدة، لكن هذه الهوية هي هوية صديق طفولته الذي قتله قذافي. هذه المرة لم يكتفِ قذافي بالقتل، إذ استخدم هاتف صديقه وراسل عائلة هذا الصديق بأنه تم القبض عليه. بعدها يقوم بسرقة هوية صديقه وانتحال شخصيته. يُقرر قذافي المضي قدمًا في حياته بهويته الجديدة، ليتعرف على شابة ويُريد الزواج منها. لكن طمعه في أموال ومجوهرات عائلتها، دفعه إلى سرقة منزلها.

وبعد شهور، يتم القبض عليه أثناء بيع المجوهرات المسروقة. وبما أن الصديق المقتول تم إرسال رسالة من هاتفه تُفيد بأنه مقبوضٌ عليه، توجهت الأسرة على الفور إلى النيابة بالإسكندرية عند مثوله أمام النيابة. وتفاجأ الجميع بأن المعتقل هو القذافي، وأنه ينتحل شخصية صديقه. تتكشف الأحداث فجأة، ويعترف القذافي بارتكاب الجرائم. وما تزال أخت زوجته الثانية مجهولة المصير حتى اليوم.

التعهير مقابل الاختفاء

بعد معرفة حقائق الأحداث، يتبادر إلى أذهاننا سؤالان: كيف أخفى قذافي جثث ضحاياه؟ وكيف أفلت من العقاب كل مرة؟

إعلان

بالنسبة للسؤال الأول، أخفى قذافي الجثث في إحدى الشقق التي استولى عليها بعد قتل صديقه. كان يحفر الأرض ويدفن الجثث ثم يقوم بوضع سيراميك أرضيات فوقها، ويعرضها للإيجار. أما عن السؤال الثاني، فهذه قصة أخرى.

عندما قتل زوجته الأول، قال قذافي لعائلتها أنها تعرفت على رجلٍ آخرٍ وهربت معه. وكرر نفس الكذبة مع زوجته الثانية. أما اختطافه لنادين، فكان مُبتكرًا بعض الشيء. إذ كانت نادين شابة طموحة تعمل في مجال الإعلانات ولديها شغف تجاه السينما والتمثيل.

وعندما هددته بالكشف عن علاقتهما، تفاوض معها بشأن فرصة تمثيل في إحدى الدول الخليجية، وساعدها في إقناع أسرتها بالسفر، ثم احتجزها رغم ارادتها. ظلت نادين محبوسة، ولا تتواصل مع عائلتها إلا عبر هاتف يملكه قذافي وتحت إشرافه، وتدعي بأنها مشغولة بالتصوير والعمل، حتى انقطعت أخبارها تمامًا.

بعد انقطاع أخبار عن نادين، ولأن أهلها يثقون به لأنه زوج ابنتهم، حاول تهدئتهم في البداية. لكن مع استمرار شكوى الأسرة ورغبتهم في التبليغ، بث في ذهن الأسرة أن نادين قد اتجهت إلى طريق "الانحراف"، وكان سفرها مجرد حجة. تُصدقه الأسرة لأن هناك وصم أخلاقي تجاه النساء العاملات بقطاعات التمثيل بشكل عام. تتقبل الأسرة ما قاله قذافي مع شعورٍ بالخزي مما فعلته ابنتهم، والذي، حسب رأيهم، جلب العار للعائلة.

فاطمة ونادين لم تكونا الأوليات أو الأخيرات، فقد كان هناك شابة تسكن بجوار قذافي في مسكنه القديم، وقد سلّمته مبلغًا ماليًا ليستثمره نيابةً عنها. وبعدما قتلها، نشر قذافي إشاعة بأنها هربت من عائلتها مع شابٍ. جسّد مسلسل سفاح الجيزة هذه التعقيدات بوضوح، حيث كل مرة تختفي فيها إحدى الشخصيات المقتولة، يقوم البطل على الفور بلصق تهمة العهر بها، فتتوقف عائلتها عن البحث.

إعلان

وفي سياقٍ متصلٍ، شاهدنا عدة جرائم قتل بحق شابات في الكثير من المدن العربية، وكان مُبرر القتلة وداعميهم هو أن هؤلاء الشابات يتصرفن تصرفات منافية للأخلاق. حتى في جرائم قتل النساء بذريعة ما يُسمى "الشرف"، يلجأ دفاع الجناة دائمًا إلى وصم القتيلات بالعهر والانحراف، ليتم تخفيف العقوبات الجنائية.

الاختفاء أفضل من وصم العائلة بالعار

في مجتمعات تعتقد أن شرف العائلة يقبع بين أفخاذ النساء، لا شك أن هناك جرائم تُرتكب بذريعة الحفاظ عليه، أو التواطؤ مع المعنّفين بسبب الخزي. وهذا الخزي نابع من شعور العائلات بالعار، فور وصم الابنة بأنها منحرفة أخلاقيًا، أو غير ملتزمة بالمعايير الاجتماعية. فمن جهة، يعتبر البحث عنها بحثاً شاقاً عن عار سبق أن رحل عن عالمهم، وجنبهم الوصم المجتمعي للعائلة بأكملها.

ومن جهة أخرى، تشعر العائلات بأن الضحايا لسن ضحايا من الأساس، بل هن جانيات ومُذنبات بحق الأسرة. فلا يتم حتى التفكير أن إحداهن بالفعل في خطرٍ – كما حدث مع نادين مثلًا.

هذه قصة مُكررة إلى حد الملل. فعندما تشعر العائلات بأن العار يدق أبوابهم من خلال الابنة، يتم شيطنتها على الفور وتقبل أي ضرر ستتعرض له كعقاب لها على تمردها وهروبها.

لكن لماذا يرتبط العار بالابنة فحسب؟ عندما قتل قذافي صديقه، لم يُقل بأنه منحرف أخلاقيًا وهرب مع امرأة. ذلك لأن لا أحد سيُصدق أن هذا السبب كافٍ لاختفاء رجُل، أو شعور عائلته بالوصم، فتتوقف عن البحث.

يرجع ذلك إلى اعتبار أجساد وجنسانيات النساء ملكيات للأسرة والعائلة. وبالتالي، عندما تتصرف الابنة في جسدها وجنسانياتها- حتى ولو مجرد إشاعة- فهي مُذنبة وتستحق مصير سيء. يؤدي هذا الاعتقاد إلى التسامح مع القتلة والجناة ومرتكبي جرائم العنف ضد النساء. فانتشار المنطق المغلوط أن الشابة/الابنة/المرأة التي تتعرض لأذى، يرتكز على تأكيد وجزم أنه صدر منها ما سبب لها هذا الأذى والعنف. وهو ما نعرفه اليوم باسم "ثقافة لوم الضحية"، وهي أيضًا إحدى المعايير الأبوية التي تُكرّس العنف ضد النساء.

إعلان

المعايير الأبوية تقتلنا مرتين

في حالات قتل واختطاف النساء في قصة القاتل المتسلسل قذافي عبد العاطي، نجد أنه استخدم المعايير الأبوية في تنفيذ جرائمه، وأيضًا في الإفلات بها. تاريخنا الحديث مليء بقصص نساء وفتياتٍ تم قتلهن بدمٍ باردٍ، فقط لأنهن لم يلتزمن بالمعايير الأبوية.

نسمع ونرى ونشهد على جرائم قُتلت فيها النساء بسبب إشاعة حول سلوكياتهن الاجتماعية ومعتقداتهن الشخصية. هؤلاء قتلتهن الأبوية مرتين. قتلتهن مرة، لأنهن تجرأن ورفضن رجُل، أو ما يُمثله من سلطة لو كان من رجال العائلة. وقتلتهن مرة ثانية، لأنه تم التسامح مع الجناة بعد وصم هؤلاء النساء أخلاقيًا.

القتل وحده ليس كافيًا لتنفيذ جريمة قتل بحق النساء. هناك ثغرات يستخدمها القتلة، وعلى رأسها المعايير الأبوية التي تفترض في النساء الخضوع للرجال، أو الطاعة العمياء للأسرة، أو أنهن متسببات في أي عنفٍ يحدث بحقهن. على سبيل المثال، يُمكننا الكتابة أيامٍ وشهورٍ عن شعور العائلات بالخزي بسبب إشاعة هروب الابنة، ما يدفعهم إلى إيقاف البحث عنها. لكن ما رأيناه على الشاشة من خلال العمل الدرامي سفاح الجيزة، أثبت لنا أن نظرة الخزي أعمق من ألف مقال. وأن حتمًا وراء الشعور بالخزي من الابنة، شعورٍ بالاستحقاق على مصيرها كإنسانة. وأن وجودها في هذه الدنيا، هو مجرد حصر ما يمثله جسدها في ثنائية الشرف/العار.

إن أكبر ما ترتكبه العائلات ضد النساء، هو التسليم بأنهن مُذنبات، وأنهن تسببن في إلحاق الأذى لأنفسهن، حتى لو كان الأذى جريمة قتل عمدية.