FYI.

This story is over 5 years old.

فيلم

"أحدب نوتردام".. تاريخ أدبي وسينمائي

ارتفعت الكاتدرائية القديمة مُشهرةً قوة الله وكنيسته. في وقت كان يُعتقد فيه أن الأرض مسطحة وتنتهي في هاوية عميقة تسكنها وحوش
notre

creative commons

جيسي: سمعتُ هذه القصة مرة واحدة. عندما احتل الألمان باريس وكان عليهم الانسحاب. فقاموا بلفّ المتفجرات حول نوتردام لتفجيرها. هم تركوا شخصاً وراءهم ليدوس على زر التفجير. الرجل، الجندي، لم يستطع فعل ذلك. هل تعلمين أنّه اكتفى بالجلوس هناك، مبهوراً بجمال هذا المكان…

سيلين: هل هذا حقيقي؟

جيسي: لا أدري… لكنّني أحببتُ القصة منذ سمعتها..

سيلين: نعم، هذه قصة رائعة. ولكن يجب أن تتيقن أن نوتردام ستزول يوما ما. سابقاً كانت هناك كنيسة أو كاتدرائية أخرى في نفس المكان.

إعلان

مرّ هذا الحوار السينمائي في رأسي على وقع ألسنة اللهب التي التهمت كاتدرائية نوتردام منذ يومين. حوار بين شخصيتين في فيلم "قبل الغروب" للمخرج الأميركي ريتشارد لينكلايتر. لا مفرّ من السؤال، هل يا ترى ستزول نوتردام كما قالت سيلين؟ سؤال لم يدم طويلاً، سرعان ما تزاحمت الصور السينمائية المتداخلة مع الصور العاجلة من الحدث المأساة. صورة نوتردام تحترق من بعيد والباريسيون المتحلّقون يرقبونها بحزن ودموعٍ. تلك المشاهد ذكرتني بالمشهد الأخير من فيلم "أحدب نوتردام" (1939) عندما ابتعدت الكاميرا رويداً بعيداً عن الكاتدرائية وعن وجه كوازيمودو وهو يبكي مستسلماً متأثراً برحيل جميلته إزميرالدا.

في "أحدب نوتردام" الكاتدرائية في العنوان وفي البطولة وفي صلب الحبكة، رائعة فيكتور هوغو (1831) حولها مخرجون كثرٌ إلى مسرحيات وأوبراليات وأفلام سينمائية. أكثر من عشرة أفلام انبثقت عن الرواية، الممثل الأميركي أنطوني كوين في دور الأحدب مع المخرج الفرنسي جون ديلانوي، الى نسخة ديزني الكرتونية عام 1996 البسيطة والطفولية. لكنّني أجد أهمها تحفة المخرج الألماني ويليام ديتيرلي العام (1939)، الذي عمل في هوليوود وأتقن السير الذاتية والتاريخية. أقول أهمها دون أن تتاح لي فرصة رؤية النسخة الصامتة العام (1923) للمخرج الأميركي والاس وورسلي. هذه الكاتدرائية الإرث التاريخي، هي أيضاً حاضرةٌ في الإرث السينمائي، في مشاهد ولقطات لا تعدّ. من "أمريكي في باريس" عام 1951، وصولاً إلى "Amelie" في بداية الألفية الجديدة و"Midnight in Paris" عام 2011.

هنا نُصِّب نابليون بونابرت إمبراطوراً، فيها تُوِّج ملك انكلترا هنري السادس ملكاً على فرنسا العام 1431. هنا تزوّج ملك اسكتلندا جيمس الخامس مادلين الفرنسية العام 1537

إعلان

روّعنا الحريق المستعر الذي اندلع في كاتدرائية نوتردام وسط باريس يوم الإثنين الماضي، سقط برجها الشاهق وسوّت النيران سقفها بالأرض.. الكاتدرائية التي تقع في قلب العاصمة الفرنسية النابض بالتاريخ، تبلغ من العمر 850 عاماً، لقد تم الانتهاء من بنائها في منتصف القرن الثاني عشر بعد حوالي 200 عام من العمل. تحتضن الكاتدرائية آثاراً وكنوزاً تراكمت على مدى القرون وهي بالنسبة للباريسيين كما لزوار باريس قلب المدينة. انها كاتدرائية كاتدرائيات فرنسا، هنا الأعراس الملكية، هنا نُصِّب نابليون بونابرت إمبراطوراً، فيها تُوِّج ملك انكلترا هنري السادس ملكاً على فرنسا العام 1431. هنا تزوّج ملك اسكتلندا جيمس الخامس مادلين الفرنسية العام 1537.

ارتفعت الكاتدرائية القديمة فوق المدن الأوروبية الرئيسية، مُشهرةً قوة الله وكنيسته. في وقت كان يُعتقد فيه أن الأرض مسطحة وتنتهي في هاوية عميقة تسكنها وحوش، وقت خاضت الخرافات معارك مع مفاهيم الإيمان. على أبواب الحداثة التي أثارت الخوف وبثّت الأمل في عالم عرف أنه يتغير. في زمن تلاشي العصور الوسطى وحلول عصر النهضة، فترة التحرر من الخرافات والعصبية. يوم ترددت أصداء الاكتشافات والاختراعات، وصُنعت أول مطبعة عممت المعرفة على الجميع. في هذا العالم تقع رواية هوغو ووقع فيلم ويليام ديتيرلي.

هوغو كرّس فصلين لوصف المعلم المترهّل، إنها مبالغة مقصودة تجاوزت القصة. حققت "أحدب نوتردام" نجاحاً كبيراً، ففتح الأديب والشاعر الأعين على الكاتدرائية، على القيمة الهندسية المعمارية القوطية

خلّد فيكتور هوغو كاتدرائية نوتردام عبر روايته "أحدب نوتردام" فمن منا لا يعرف قصة الأحدب كوازيمودو ذو الشكل الغريب والذي يعيش في الكاتدرائية، هو قارع أجراسها، والعاشق للغجرية إزميرالدا. إنها قصّةٌ محفورةٌ في أذهاننا. لكنّ رغم جاذبية القصة، إلّا أن هوغو لم يكتبها من أجل السرد فحسب. هو كتبها من أجل إنقاذ الكاتدرائية. في أوائل القرن التاسع عشر تفتت المبنى الأثري من الداخل وكان على شفير الانهيار. فشرع فيكتور هوغو بكتابة قصته. هوغو كرّس فصلين لوصف المعلم المترهّل، إنها مبالغة مقصودة تجاوزت القصة. حققت "أحدب نوتردام" نجاحاً كبيراً، ففتح الأديب والشاعر الأعين على الكاتدرائية، على القيمة الهندسية المعمارية القوطية. خوف هوغو واضح من محو الخصوصية التاريخية المعمارية لباريس، يومها إهمالٌ طال عدداً من المباني بينما تدمّر جزءٌ آخر لاستبدالها بمبان جديدة أحدث. في نوتردام على سبيل المثال تم استبدال الألواح الزجاجية الملونة من العصور الوسطى بزجاج أبيض لتكبير بقعة الضوء في الكنيسة.

1555494543082-Annex-Laughton-Charles-Hunchback-of-Notre-Dame-The_NRFPT_01

لقطة من فيلم "أحدب نوتردام"

لقد فشل كثرٌ عندما نقلوا هذه الرائعة إلى السينما. إنها ليست بالمهمّة السهلة لكنّ الألماني ويليام ديتيرلي فعلها بكثير من السحر. الفيلم عودةٌ رائعة للفترة الذي تكلم عنها هوغو، عكس فيها بدقة التشنجات والتصدّعات خلال الانتقال الحضاري من العصور الوسطى المتأخرة إلى التغيير والتقدم. وعلى الرغم من اختلاف نهاية الفيلم عن النهاية المأساوية للقصة إلا أن المخرج كان مخلصاً بشكل كبير لهوغو، هو وطاقمه، إذ لا يمكن إغفال الأداء الرائع لتشالز لوتون في دور الأحدب.

1555494502967-The-Hunchback-of-Notre-Dame-1939

بوستر فيلم "أحدب نوتردام" للمخرج ويليام ديتيرلي

أعادت ألسنة اللهب التي أكلت جزءً من "النوتردام دو باري" الكثير من الذكريات المتعلقة بالمكان. من زارها يعود إلى صوره، ومن لم يزرها نادمٌ، ومن قرأ ما كُتب عنها، من شاهد فيلماً منها أو عنها يتأسّف على حالها. هذا الحريق سوف يسجل في تاريخ هذا المعلم العظيم كما سوف تسجل إعادة ترميمه التي لن تكون الأولى ومن يعلم، قد لا تكون الأخيرة.