تقنية

كل ما تحتاج معرفته عن خوارزميات الاقتراح

لا زالت خوارزميات الاقتراح غير قادرة على محاكاة تقلبات الاهتمامات البشرية بشكل تام، إذا أن اهتماماتنا تكون أحيانًا عشوائية ولا ترتبط دائمًا بمسببات أو اهتمامات تسبقها
وهب عاطف
إعداد وهب عاطف
rob-hampson-cqFKhqv6Ong-unsplash
Photo by Rob Hampson on Unsplash

أصبحت الهواتف الذكية جزءاً لا يتجزأ من واقعنا. لم تعد  مقتنيات  يقتصر استخدامنا لها على  مكالمات ورسائل معدودة تتخلل يومنا كما كان الحال في مطلع القرن، بل أصبحت الآن وجهة الكثيرين الأولى لإشباع العديد من رغباتهم واحتياجاتهم.

مع ازدياد قدرة الحوسبة لهواتفنا المحمولة وإدراج تطبيقات الألعاب ومواقع بث الأفلام والمسلسلات، أصبحت هواتفنا أحد مصادر الترفيه الأساسية في حياتنا، بل وأكثرها استقطابًا. كذلك هو الأمر بالنسبة لحاجاتنا الاجتماعية التي صارت مواقع التواصل الاجتماعي تمثل الطريقة الأسهل والأكثر شيوعًا لإشباعها -لا سيما بعد جائحة كورونا. ولا يتوقف الأمر هنا، أصبحت جوالاتنا جزءً مفصلياً من حياتنا العملية أيضًا، فعبرها يمكننا تنظيم جداولنا اليومية، إقامة الاجتماعات، وإرسال الإيميلات من أي مكان كان، كما يمكننا إنفاق معاشاتنا على المنصات والتطبيقات التجارية المختلفة.

إعلان

يمكن القول أن هواتفنا الذكية باتت تمثل نقطة وصل بين كل منا وجوانب عالمه المختلفة. فهي لم تضفي تغيير سطحي فقط على حياتنا، بل اندمجت بتفاصيل وجودنا وخزنت كماً هائلاً من معلوماتنا حتى أصبحت بمثابة امتداد فعلي لوعي كل منا، تماما كطرف نحمله معنا أينما ذهبنا. ولكن، على عكس أطرافنا الأخرى، هواتفنا عرضة لتأثيرات عدة عوامل برمجية تحدد طرق انخراطها في حياتنا. وإحدى أهم تلك العوامل هي خوارزميات الاقتراحات، وهي أدوات برمجية مسؤولة عن انتقاء المحتوى المقترح لنا على التطبيقات والمواقع الإلكترونية المختلفة. فالمحتوى التي نتعرض له من خلال هواتفنا -وإن بدا كخيار شخصي- محدد وفقًا لهذه العملية التي تحلل بيانات استخدامنا لاقتراح محتوى متطابق مع اهتماماتنا.

هل صدمت يوماً بإعلان من شركة سياحية على إنستغرام عقب إبداء رغبتك في السفر في إحدى الأحاديث مع أصدقائك؟ هل سبق وأن ازدادت دعايات وصفات الطبخ على فيسبوك بعد بحثك عن وصفة ما على إحدى محركات البحث؟ قد يبدو لك الأمر كصدفة غريبة، إلا أن الإعلانات تلك أبعد ما تكون عن الصدف. تلك الخوارزمية تؤدي عملها، فهي دائمًا تراقبك وتدرس سلوكك لتقوم بتوقع شبه مثالي عن كل ما تحتاجه وترغب في الحصول عليه.

قد يتساءل البعض عن الطريقة التي تصل بها الخوارزمية إلى بياناتنا الشخصية دون إذن منا، ولكن لو بحثت قليلاً، ستجد الإجابة منصوصة في اتفاقيات الخصوصية التي نوافق عليها على عجلة عند تحميلك لأي تطبيق. إذ تمنح هذه الاتفاقيات الشركات المنتجة للتطبيقات الصلاحية بالوصول إلى بيانات استخدامنا وهي الوقود الذي تعمل الخوارزميات عبره لجذب أكبر قدر ممكن من انتباهنا. ولأن انتباهنا هو ملكية شخصية، ولكي لا نقع ضحية لإدمان المحتوى المخصص لكل منا، بات من الأساسي أن نكون أكثر وعيًا بوجود هذه الخوارزميات وطرق عملها، لنتمكن من تطويعها للعمل وفقا لقراراتنا الشخصية وليس وفقًا لقاعدة البيانات فقط.

إعلان

طلبت من خبيرة السلامة الرقمية ليلى منكبي شرح خوارزميات الاقتراح بشكل نفهمه جميعاً. درست ليلى علوم الحاسوب وتدربت سابقاً على محاكاة نماذج لخوارزميات الاقتراح. هي الآن تعمل مع مؤسسات تونسية على توعية عامة الناس في المسائل التقنية الضرورية للتعامل الآمن مع التكنولوجيا.

VICE عربية: بشكل مبسط، ما هي خوارزميات الاقتراح؟
ليلى منكبي:
بشكل عام، يمكننا فهم الخوارزمية على أنها سلسلة خطوات رياضية تعيننا على حل مشكلة ما، ولذا فهي عملية تعتمد بالكامل على المنطق. نجد أمثلة عن الخوارزميات في عمليات ترتيب الأعداد تصاعديًا أو تنازليًا، إذ نعتمد  في تلك العمليات على معرفتنا بمفهوم القيمة لكل عدد، ثم نحيل الأمر إلى منطقنا في ترتيبها بشكل معين. أما في أوساط الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن مفهوم الخوارزمية يتبنى خواص اقتراحية برمجية، ومن هنا جاء مصطلح خوارزميات الاقتراح. تجمع هذه الخوارزميات المحوسبة  بيانات المستخدم وطرق تفاعله مع أنواع مختلفة من المحتوى، ثم تدرسها لتقديم اقتراحات متخصصة من محتوى مماثل لإهتمامات المستخدم. وهي تهدف بذلك لتحفيز المستخدم  لاستهلاك وقت أكبر في متابعة المحتوى، وطبعاً استنزاف أمواله في شراء المنتجات من المتاجر الرقمية المختلفة. 

ما هي أنواع خوارزميات الاقتراح؟
تنقسم خوارزميات الاقتراح إلى ثلاثة أنواع.

النوع الأول هو ما نسميه بالتنقية التشاركية collaborative filtering وهي خوارزميات ذات اقتراحات عامة غير مخصصة للمستخدم الواحد. مثال جيد عن هذا النوع في خوارزمية نتفليكس، حيث تجمع نيتفليكس بيانات مشاهدة المستخدمين لتقديم اقتراحات عامة لجميع المشتركين بخدمات بثها؛ بناءً على المحتوى الذي تتابعه على نتفليكس ستجد اقتراحاً في أسفل الصفحة يقول "الذين يتابعوا هذه السلسلة قد يعجبهم أيضاً."

إعلان

النوع الثاني فهو التنقية المبنية على Content based filtering يعتمد هذا النوع من الخوارزميات على إنشاء ملف للمستخدم الواحد تجمع فيه معلومات عن موقعه الجغرافي وعمره وغير ذلك من المعلومات الديموغرافية، ثم توظف هذه البيانات في تنقية المحتوى بما يتطابق مع اهتمامات الفئات التي ينتمي إليها المستخدم. يمكن إيجاد مثال عن هذا النوع في خوارزمية فيسبوك، حيث لا يكون لديهم  خلال المراحل الأولى من انضمام المستخدم بيانات عن نشاط استخدامه ويعتمدون بياناته الديموغرافية في تقديم اقتراحاتهم الأولية للمحتوى.

النوع الثالث: خوارزميات الاقتراح الهجينة Hybrid recommendation algorithms وهي خوارزميات تعتمد على خليط من النوعين الأول والثاني؛ التنقية التشاركية والتنقية المبنية على نوع المحتوى. ويمكن القول أن هذا النوع من الخوارزميات هو الأكثر شيوعًا، حيث تتبناها معظم المنصات بدرجات متفاوتة، وبينها من يمنح الأولية للتنقية المبنية على نوع المحتوى كما يوتيوب، بينما يوظف البعض الآخر التنقية التشاركية بشكل أكبر، كما سبوتيفاي.

بشكل مبسط، كيف تعمل خوارزميات الاقتراح؟
تختلف طرق عمل الخوارزميات بين منصة وأخرى، ولذا يصعب تعميم ميكانيكيات عملها. ولكن لتسهيل ذلك، يمكننا التفكير بالخوارزمية على أنها ساقي في بار؛ فحين تدخل البار  للمرة الأولى والساقي لا يعلم أي شيء عن تفضيلاتك بين المختلفة، فهو قد يعتمد على ما يمكن تخمينه عنك من مظهرك ولهجتك وما إلى ذلك. تمامًا مثل فيسبوك الذي يدرج الموقع الجغرافي لهاتفك كعامل أول في خوارزمية تخصيص المحتوى التي لا تعلم شيء عنك كمستخدم جديد.

بعد ذلك قد يباشر الساقي الحديث معك لتغذية معرفته بك وبتفضيلاتك. ومجددا،ً تقوم بذلك خوارزميات كثيرة من بينها خوارزميتي نتفليكس وسبوتيفاي اللتان تجريان معك نوعاً من المواعدة السريعة فور انضمامك  لمنصاتهم. إذ تجد في الصفحة الأولى -عندما تنشئ حساباً على إحدى المنصتين- استبيان تفاعلي  يهدف لتحديد الفنانين والأفلام المفضلة لديك لتحسين خطة المحتوى. ثم مع الزمن، إذا ما استمريت في التردد على البار ذاته، يصبح الساقي على علم بذوقك، لذا قد يبدأ باقتراح مشروبات جديدة ميقناً بأنها ستنال إعجابك. وذلك هو الحال مع معظم  خوارزميات الاقتراح التي تحسن مع استمرار فترة استخدامك من قدرتها على تخصيص المحتوى. وهي تقوم بذلك عبر تسجيل نشاطات استخدامك لمنصاتها على شكل "keywords" وبيانات عن مدّة متابعتك للمنشورات المختلفة.

إعلان

إلى أي مدى تعرف خوارزميات الاقتراح اهتماماتنا؟
نظراً للكمية الهائلة من البيانات التي تجمعها الخوارزميات عنا -لا سيما الهجينة منها- فهي تقوم بعمل جيد جداً في تنميطنا ومعرفة اهتماماتنا، أحياناً أكثر مما نعرفها نحن. الخوارزمية في جوهرها هي عملية تعلم لسلوك المستخدم وكلما قضى المستخدم وقت أكثر على منصة إلكترونية معينة، كلما ازدادت معرفة خوارزميتها به، وازدادت دقة نتائجها في توقع اهتماماته من خلال تحليل أنماط استخدامه. هناك قصة مشهورة عن مراهقة أمريكية بحثت عن مسكنات للألم والمغص على منصة "target" الرقمية، لتفاجئ  بإعلان عن اختبارات حمل في الوقت الذي لم تكن الفتاة قد أخبرت أحد فيه باحتمالية حملها.

وكون عملية الخوارزمية المنطقية مُحكمة، تصل قدرة بعض الخوارزميات -برأيي الشخصي- إلى تحديد اهتماماتنا المستقبلية، فلو تنبهت الخوارزمية على اهتمام المستخدم بموسيقى الجاز، على سبيل المثال، فهي ستبدأ باقتراح محتوى من أنماط موسيقية مقاربة، كالـ "soul" لتحفيز اهتمامه بها. والغرض من هذا النوع من التحفيز هو تسويقي في معظم الأحيان، إذ يهدف لترويج الفنانين أو المنتجات عبر إعلانات مخصصة تتوافق مع اهتمامات كل منا. ولكن مع ذلك، لا زالت خوارزميات الاقتراح غير قادرة على محاكاة تقلبات الإهتمامات البشرية بشكل تام، إذا أن اهتماماتنا تكون أحيانًا عشوائية ولا ترتبط دائمًا بمسببات أو اهتمامات تسبقها، كأن نقابل شخص جديد نكتسب من خلاله اهتمامات جديدة تغير توجهنا بشكل غير متوقع لا يمكن للخوارزميات تعقبه.

كيف تؤثر الخوارزمية على سلوكنا الإجتماعي ووعينا السياسي؟
تؤثر الخوارزمية على سلوكنا الإلكتروني والإجتماعي أيضًا بشكل كبير، ويعود ذلك لشدة إعتماد الكثيرين الأعمى على اقتراحاتها. يمكنني توضيح ذلك من تجربتي الشخصية، فلو كنت في رحلة سيارة مع أصدقاء وطلب مني أحدهم أن أتولى اختيار الموسيقى، قد أشعر بالضغط لاختيار أغنية تمثل ذوقي بشكل جيد، ولذا أتوجه إلى سبوتيفاي وأختار إحدى لوائح الأغاني المعدة مسبقًا. أقوم بذلك، وأنا متيقنة بأن الخوارزمية ستقوم باختيار موسيقى تمثل ذوقي بشكل ممتاز. ولأن سلوكي هذا لا يتوقف في سبوتيفاي -إذ تحدد الخوارزمية الكثير من المحتوى الذي أتعرض له على المنصات الأخرى.

هنا قد أجد نفسي أتساءل "هل أنا فعلاً أنقد وأًحلّل الواقع من منظور شخصي؟ أم أن منظوري الشخصي هو نتاج عمليات الخوارزمية  لتحفيزي؟ ففي النهاية، الخوارزمية تقترح فقط الأشياء التي تعجبني ومن السهل الإنغلاق في هذه القوقعة التي دون أدنى شك تخلق شيء من التطرف في توجهاتي وتمنع النضوج الفكري المرتبط بالتعرض لأفكار خارجة عن تفضيلاتي. المخيف في الأمر هو أن تجربتي تشابه واقع الكثيرين غيري، الأمر الذي يشكل مأساة في منحاه السياسي. إذ عندما تقام انتخابات في دولة ما، وتصبح منصات التواصل الإجتماعي الوجهة الأولى للمرشحين للتفاعل مع المنتخبين، يجد كل مستخدم محتوى مخصص عن الحزب أو الأيديولوجية السياسية التي يدعمها مسبقاً، دون التعرض لمحتوى حيادي من طرف سياسي آخر أو ربما جديد.

ماذا عن الخصوصية؟
لطالما سألني المتدربون في ورشات السلامة الرقمية التي أقدمها "هل يسمعوننا؟" مشيرين إلى التطبيقات وخوارزمياتها، ولطالما كانت إجابتي "بالتأكيد لا، هناك اتفاقيات تحمي خصوصيتنا، فهواتفنا ليست أدوات تجسس، هناك قوانين." ولكن -لأكون صريحة- معرفة هذه الخوارزميات المفرطة بإهتماماتي كان كافياً في الآونة الأخيرة لتحريك الشك في حول اختراق الخوارزميات لخصوصيتي. كما أن اتفاقيات الخصوصية التي تصرح للتطبيقات والمواقع بجمع البيانات، عادة ما تكون مبهمة وخالية من الشفافية، وقد تنص عن بيع البيانات لجهات ثالثة موثوقة دون ذكر تلك الجهات. حدث سابقاً وأن سجلت حالات لتطبيقات علاج نفسي قامت ببيع بيانات مستخدميها الشخصية لأطراف تجارية، الأمر الذي لم يكن المستخدمين ليوافقوا عليه لو كان لديهم علم مسبق.

هل بإمكاننا التلاعب بخوارزميات الاقتراح؟
بالتأكيد، فالخوارزمية تعمل وفقًا للمعطيات التي نقدمها نحن لها. الخطوة الأولى للتلاعب بها، هو تحفيز علاقة أكثر وعي معها لنكون بذلك نحن المسؤولون -بنسبة ما- عن عملية صناعة قرار الاقتراح. هناك جانبان للتلاعب بخوارزميات الاقتراح، الأول هو الحد من كمية البيانات التي نقدمها للتطبيقات والمواقع المختلفة قدر المستطاع، فلا نعطي الصلاحية للتطبيق أو الموقع المعني بجمع البيانات عبر تطبيقات أخرى على هاتفنا -الأمر المعروف بتعقب الأطراف الثالثة " third party tracking."

الخيار الثاني، فهو تحفيز الخوارزمية للخروج من قوقعة المحتوى المتطابق مع اهتماماتنا عبر تلقينها عوامل خارجة عن تفضيلاتنا الشخصية. أقوم بذلك مثلاً عبر طلب اصدقائي لمشاركتي روابط أغاني وأفلام ومحتوى يثير إعجابهم، كما أني أحاول أحياناً الخروج من المحتوى المقترح والبحث عن محتوى عشوائي بقصد "التلقين الواعي للخوارزمية." هواتفنا باتت المصدر الأساسي الذي نتلقى من خلاله المحتوى الذي يغذي فكرنا ويحفز نقاشاتنا ويجب علينا القيام بخيارات واعية إزاء تعاملنا مع الخوارزمية لأنها ليست حيادية بالمطلق.