FYI.

This story is over 5 years old.

مرأة

فيلم "مولادي": صرخة السينما بوجه ختان الإناث

المواجهة الصعبة تبدأ بين النساء أنفسهن، هن يحافظن على هذا العرف إلى جانب الرجال
ختان
من فيلم مولادي

ضربة حادة بالشفرة، بين فخذي طفلة في الخامسة من العمر، يرافقها سيل من الدماء وصرخات مؤلمة. إلى جوارها أم تُطلق الزغاريد معلنة نجاحها في حماية شرف ابنتها بقطع بظرها. بهذا المشهد بدأ أب السينما الأفريقية، المخرج السينغالي عثمان سمبين فيلمه الأخير "مولادي" (2004). من هذا المشهد الأول نسمع صرخة الفتاة الصغيرة معها صرخة سمبين الجريئة ضد ختان الإناث.

في اليوم العالمي لرفض تشويه الأعضاء التناسلية للإناث "الختان" "مولادي" الفائز في مسابقة "نظرة ما" في مهرجان كانّ العام 2004، هو العمل الفني المنشود الذي نقل هذه المعاناة بابداع إلى الشاشة. جريمةٌ لازالت تعاني منها نساء في أفريقيا وأجزاءٍ من آسيا حتى الآن."الفن السابع الأفريقي مدرسة مسائية لمحو الأمية السياسية والاجتماعية" يقول المخرج الأبرز في سينما أفريقيا الحديثة. فيلمه بيان نسائي بصوت رجلٍ أفريقي بارز، بيانٌ عالي الصوت وحاد اللهجة في شجب وإدانة أحد أقسى الطقوس المجتمعية بحقّ المرأة.

إعلان

ويشمل تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية جميع الممارسات التي تنطوي على إزالة الأعضاء التناسلية الخارجية إزالة جزئية أو كلية، أو إلحاق أضرار أخرى بتلك الأعضاء بدواع لا تستهدف العلاج. تنتهك هذه الممارسة حق الفتيات والنساء في الصحة والأمن وحقهن في تجنب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وحقهن في الحياة إذ ما أدت هذه الممارسة إلى الوفاة. وحسب إحصائيات صادرة عن اليونسيف تخص نسبة الفتيات والنساء في الفترة العمرية ما بين 15 و 49 اللائي تعرضن لتشويه أعضائهن التناسلية حتى حدود 2015، فالصومال يتربع على العرش العالمي بنسبة تصل إلى 98٪ تليها على المستوى العربي مصر والسودان بـ87% لكلا منهما، وموريتانيا بـ69٪. غير أن اليونسيف استنتجت في أرقام أخرى تخص الفتيات أقل من 15 عاماً، أن الظاهرة تتراجع في عديد من الدول بسبب تطبيق قوانين رادعة.

الختان هو مثل كلّ آليات السيطرة والهيمنة، هو شكل من أشكال "تطهير" المرأة، بينما تُعاقب النساء اللاتي لم يخضن هذه الطقوس، عبر عدم تقدّم أيّ أحدٍ لزواجهنّ

قصة صغيرة يخبرنا بها سمبين في "مولادي" قصة أمل، من مكان لا إسم له في قلب القارة السمراء. هناك لا زال السكان يعتاشون على محاصيل أراضيهم، يمارسون طقوساً تقليدية جميلة وأخرى همجية تعنّف النساء جسدا وروحا. في هذه القرية ست فتيات يهربن من مراسيم الختان، أربعة منهن يلتجئن إلى بيت كولي (فاتوماتا كوليبالي)، في حين تختبئ اثنتان في بئر. في هذه القرية ختان الإناث لا مفرّ منه، هو تقليد ثقافي ديني يمارس منذ عدة سنوات. الفتيات الصغيرات يهربن عند كولي طلباً للحماية، وهي التي عُرِفت برفض إخضاع ابنتها للختان.

تعلو مدخل منزل كولي، قطعة قماش ملونة تطلق عليها اسم "مولادي" الحماية السحرية. كل شخص سيدخل منزلها يدخل دائرة الحماية، بينما كلّ من سيحاول الدخول لإيذاء الفتيات، سيلاحقه الحظ السيء. كولي فقط تستطيع إنهاء "السحر" عندما تنطق بالكلمات الصحيحة. كولي "مختونة"، تتذكر معاناتها وتريد تجنيب الفتيات وبينهنّ ابنتها هذه التجربة الدموية. الألم لم تنسه، يرافقها منذ ذلك اليوم، وهي ستواجه اهل قريتها حماية للصغيرات. باتت هذه المرأة تهديداً على المجتمع فهي تتحدّى بمفردها المجتمع، الزوج، والنساء اللواتي يقمن بالعملية. المواجهة الصعبة تبدأ بين النساء أنفسهن، هن يحافظن على هذا العرف إلى جانب الرجال الذين لن يتزوجوا امرأة "غير نقية." هن يدرن العملية من الألف الى الياء.

إعلان

تفشل النساء في المواجهة مع كولي وعندها سيستنجدن بالرجل للتدخل في محاولة قتل هذه الثورة في مهدها ليحاول فرض جبروته بلا رحمة. لكن الثورة بدأت وستنتشر. مع الوقت تنضم إليها أمهات أخريات ثمّ سينضمّ رجالٌ، أولهم إبن زعيم القرية الذي درس في الغرب وأخيرا سينضمّ إليها زوجها. "يريدون إخراسنا وإغلاق عقولنا، ولكن مهما حاول الرجال لن يتمكّنوا من ذلك" تقول امرأة غاضبة بعدما قرر رجال القرية مصادرة وحرق جميع أجهزة الراديو، بحجة أنها تلعب بعقول النساء، تحرّضهن على الرجال وتشجعهن على رفض الأعراف والمطالبة بالمساواة. يومها سمعت كولي في الراديو أن ختان الاناث ليس موجوداً في القرآن على الإطلاق. تجتمع هذه النقاط، مع وجهات نظر عدة، وتتجّه أصابع الاتهام إلى نساء ورجال على حدٍّ سواء.

1549277924581-moolade

بدأ سمبين حياته العملية ككاتب، وبصفته مؤلفًا معنيًا بالتغيير الإجتماعي، تمنى سيمبين أن يلمس جمهورًا واسعًا. هو أدرك أن أعماله المكتوبة لن تصل إلا إلى النخب الثقافية في أفريقيا، أمّا الأفلام فستصل إلى جمهور أفريقي وعالمي أوسع بكثير. بدأ يخطُّ دربه السينمائي بمواضيع إجتماعية تعنيه ويريد إلقاء الضوء عليها: تاريخ الاستعمار، فشل الدين، انتقاد البورجوازية الأفريقية الجديدة، قوة النساء الأفريقيات.. فأنتج أفلاماً مثل "بلاك غيرل" (1966) و"كزالا" (1975) وغيرها الكثير. روح فيلم "مولادي" لا تختلف عن روح أفلامه السابقة، فهو فيلم أفريقي، عن مجتمع أفريقي، عن سوق العمل الأفريقي، داخل المنازل الأفريقية في مطابخهم وعلى موائد طعامهم وصولاً إلى الأزواج وعلاقتهم وأسرّتهم. إذاً المخرج السينغالي يحرص في البداية على عرض جوانب الحياة اليومية لعدد من العائلات الأفريقية كي نلمس بوضوح التركيب الاجتماعي المعقّد لهذه المجتمعات بمؤسساتها وقوانينها. ويدخل من ما سبق إلى عمق القضية الأساس، ظلم الختان، ثِقل التقاليد ونضال المرأة الأفريقية لتغيير علاقات الهيمنة التي يفرضها الرجال. وهنا الختان هو مثل كلّ آليات السيطرة والهيمنة. الختان هو شكل من أشكال "تطهير" المرأة، بينما تُعاقب النساء اللاتي لم يخضن هذه الطقوس، عبر عدم تقدّم أيّ أحدٍ لزواجهنّ.

لم يحد سمبين عن الجدية الهائلة التي يكتنفها موضوعه، هو يريد لنا أن نشعر بالشفرة، أن نرى شخصيات حقيقية، أن نشعر بالصدق والواقعية. ما يحدث ليس من نسج الخيال إنه صراع من أجل التغيير، من أجل إنهاء عرفٍ قاسٍ، صراعُ حركة نسائية ضد السلطة الذكورية العنيفة

لا يتوقف الفيلم عند هذا الموضوع. مع أنه الموضوع الأساس لكنه نافذة نطلّ منها إلى معضلات إجتماعية قديمة حديثة الدين والأعراف والحداثة. سمبين ليس ضدّ التقاليد، هو يعادي شقّها المهين والعنيف، ويؤيّد التي تشكّل إرثاً ثقافياً مع التغيرات التي تفرضها الحداثة. في نهاية الفيلم تبقى المئذنة وإلى جانبها هوائي التلفزيون (ANTENNE).الهوائي في هذه النهاية، تؤشر إلى أنّ أفريقيا المغلقة يجب أن تفتح هواءها للانفتاح، يجب أن تؤسس لمستقبل أفضل، يجب أن تقصي السلوكيات المتخلّفة. ولكن في خضمّ ذلك يجب أن تصنع تقدّمها دون تقليد الغرب، مع الحفاظ على خصوصياته الثقافية التي تساعده على التقدّم نحو حياة أفضل. وهنا يفتح الباب على كفاح نساء أفريقيا لإحداث تغيير لتحسين حياتهن وظروف نشأتهنّ ولكن باستغلال التقاليد: كولي في محاولتها للثورة والتغيير استعملت "مولادي" الحماية السحرية وهي إحدى السُنن التقليدية في منطقتها والتي تُترجم اليوم بحق اللجوء. هي تقليد أو أسطورة تناقلتها الأجيال شفهياً من خلال القصص. فباتت "مولادي" ميثاقاً شفهياً ذو مصداقية قانونية واجتماعية يسلّم بها الجميع أمّا تجاهلها فسيجلب حتماً لعنةً وعاراً كبيرين. كولي بدهاءٍ وفطنة فرضت التغيير بمساعدة العرف والتقليد. إنّه التغيير الذي يريده سمبين دون الانسلاخ عن الثقافة بالكامل.

"مولادي" فيلم نابض بالحياة والألوان والدم والصراخ والغضب ولكن أيضاً بالأمل. فيلمٌ عن الثورة الإجتماعية عن مقاومة التقاليد الجائرة وقدرة التغيير. فيلم إنساني، سياسي، إجتماعي غني. سمبين عوّدنا على ضرباته السينمائية، وها هو يضرب بقوة هائلة، بذكاءٍ لامع وبسرد واضح المآل، عملية الختان، حججها، نقدها ونقضها وصولاً إلى رفضها القاطع. يبني الفيلم بطريقة آسرة، بتفاصيل صغيرة ومؤثرة لا يمكن الا للسينما نقلها. لم يحد سمبين عن الجدية الهائلة التي يكتنفها موضوعه، هو يريد لنا أن نشعر بالشفرة، أن نرى شخصيات حقيقية، أن نشعر بالصدق والواقعية. ما يحدث ليس من نسج الخيال إنه صراع من أجل التغيير، من أجل إنهاء عرفٍ قاسٍ، صراعُ حركة نسائية ضد السلطة الذكورية العنيفة، صراع من أجل محو هذه العادة من حاضر الأجيال، صراع من أجل تقدّم شعب ومكان وزمان. إنها أقلية ثائرة ولكن ذكية ومُدرِكة، قادرة على خلق مستقبل مختلف مطابقٍ لأمنيات عثمان سمبين قبل الموت، فكانت نهاية حياته ومشواره بفيلمٍ انتهى بالأمل تاركاً تأثيراً عالمياً خالداً وتأثيراً داخلياً ستلمسه أفريقيا جيلاً بعد جيل.