مقابلة

مقابلة مع المغنية المصرية دنيا مسعود: لهذه الأسباب لن أعود إلى مصر

لا اهتم بالعودة لجمهور يراني "عاهرة"
DSC05760

دنيا

"الإخوان المسلمين رحلوا ولكن سقف الحريات في مصر أصبح في الأرض. ربما أعود وعمري 70 سنة، لما الجيل اللي عندي أمل فيه (ينضف) المشهد في مصر، وحتى يحدث ذلك الشارع المصري لايصلح أن أمشي فيه كمواطنة ولا أُغُني كـ(أرتيست)" . كان هذا ملخص إجابة سؤالي للمغنية المصرية دنيا مسعود، عن الأسباب التي دفعتها لمغادرة مصر بعد أن حققت نجاحًا كبيرًا في لون غنائي مختلف، أعادت فيه تقديم أغنيات تنتمي إلى الفولكلور التراثي المصري.

إعلان

دنيا مسعود (43 عامًا) مغنية وممثلة وباحثة موسيقية، بدأت رحلتها في البحث عن التراث والأغاني الفولكلورية المصرية منذ عام 2000، لتبدأ مشروعها الغنائي " فيونكات دُنيا" بأشهر أغانيها "بتناديني تاني ليه"، "نعناع الجنينة"، و "يالالي". وشاركت في عدة أفلام ومسلسلات منها أفلام، "شقة مصر الجديدة"، "جعلتني مجرمًا"، "جنينة الأسماك"، بالإضافة إلى مسلسل "أهل كايرو". تميزت دنيا بإعادة تقديم التراث من دون إضافات معاصرة حفاظًا على الشكل الأصلي للفولكلور، ومن خلال بحثها الذي استغرق عشر سنوات لجمع هذا التراث الموسيقي، طرحت ألبومها الأول "محطة مصر" 2009، لتقوم بجولة واسعة من الحفلات في معظم دول العالم العربي وأوروبا، ثم غادرت مصر عام 2012 لتستقر في باريس، وخاضت تجارب تمثيل للمسرح بالإضافة إلى تقديم مجموعة من الأغاني الفولكلورية الجديدة منها؛ "ليلي طال"، و"ليلة الأربعين" لمحمود شكوكو، و"يا سمباتيك أوي يا مهندم" لرتيبة أحمد، و"المسحراتي" لفؤاد حداد.

قابلت "دنيا" في صدفة غريبة لعبور الطريق في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية، ولم أعلم إن سبب تواجدنا في تونس واحد، وهو حضور مهرجان قرطاج للرقص المعاصر أواخر الشهر الماضي. لنرتب فيما بعد لإجراء هذه اللقاء المُطول التي تحكي فيه بصراحة شديدة ممزوجة بالغضب عن أسباب هجرتها من مصر، ومجموعتها الجديدة للأغاني الفولكلورية، ومشروعها المسرحي المُقبل.

VICE عربية: بداية.. ماسبب تواجدك في أيام قرطاج الكوريغرافية؟
دنيا مسعود: تلقيت دعوة للمشاركة في لقاء مفتوح مع عدد من الراقصين والباحثين في الرقص المعاصرمن مختلف أنحاء العالم، وكان هدفه تفكيك التابوهات المسكوت عنها فيما يتعلق بتاريخ الرقص والأداء العربي، وتعود دعوتنا والزميل الباحث المسرحي المصري أدهم حافظ ، نظرًا لتجهيزنا الآن لمشروع مسرحي حول جسد المرأة في الشرق ونظرة المُستشرقين لها وعلى رأسهم "فلوبير". وأنا وسعيدة بهذه المشاركة لأهمية وجود مهرجان مدعوم من حكومة عربية رسميًا ويعترف بالرقص كمهنة، وإن كانت ستظل معاناة ونضال إدارة المهرجان رغم حصولها على تصاريح وزارة الثقافة التونسية هو تغيير التصورات الاجتماعية السائدة في عالمنا العربي عن الرقص والتي تنظر للجسد كـ"تابوه" وخاصة عندما يتعلق بالنساء. لكن يبقى المهرجان الوليد في عامه الثاني بداية مُشجعة لعودة الجمهور العادي لمشاهدة الرقص والعروض الكوريغرافية دون محاكمة أخلاقية، وهو مالمسته من خلال حضوري لمعظم العروض، وإقبال جماهير ليست محسوبة على الوسط الثقافي أو المسرحي تتابع بفضول وشغف. وهو نجاح في حد ذاته لتونس.

إعلان

لو تحدثنا عن التحديات التي تواجه الراقصين وخاصة النساء في مصر.. ما أبرز ملامحها في رأيك؟
التحدي الأول هو القانون الذي يتعامل مع جسد المرأة باعتباره جريمة متحركة لابد من تغطيتها، وحتى عندما تتعرض للأذى وقبل محاكمة المسؤول عن إيذائها، يتم محاكمتك كأنثى أوًلا وتتوالى الاتهامات (كنت لابسة إيه، وماشية فين والساعة كام؟)، وهذا لا ينطبق على الفنانين والراقصين فقط ولكن على السيدات بشكل عام، والفن والرقص انعكاس للواقع بشكل ما، ومن ثَم تقدُمه أو تخلفُه هو انعكاس للمجتمع حوله وكيف ينظر له. والثاني هي منظومة الأخلاق "الميديوكر" وكأنه "مؤدب"، لدينا ازدواجية ودرجة من الوسطية التي لا تصل بنا إلى شيء. لا تجرؤ مصر على منع الرقص الشرقي، لأنها بلد سياحي، ولكن منظومة الأخلاق الميديوكر تجعل شرطة الآداب تقف للراقصة وتسألها "هل ترتدي شورت أسفل بدلة الرقص أم لا؟!"، وتدفع نقابة الموسيقين لملاحقة الفنانات عندما يرتدين فساتين شفافة أو عارية من وجهة نظرهم. ونتَج عن تلك القيود تراجُع مستوى الراقصات المصريات القادمات من بلد الفن الأصلي مقارنة مع الراقصات اللائي أقابلهن في باريس، وهن لسن عرب من الأساس ولكن يصلن لمرحلة متقدمة من الاحترافية والشطارة في الرقص الشرقي، بالإضافة إلى عمق المعرفة والبحث في تطوير مستوى التابلوهات الراقصة وجماليتها.

على ذكر الفن انعكاس للمجتمع.. صرحت سابقًا أن الجمهور المصري ينظر للفنانة أو الأرتيست بأنها عاهرة. ألم يكن رأيك مجحفًا لبلد عرفت الفن والرقص منذ ما قبل الميلاد؟
طبعًا عاهرة، لأن الدولة وضعت عاملة الجنس والأرتيست في قانون واحد، حتى الآن لو رغبت في الغناء بملهى ليلي أو مطعم سياحي، لابد من فتح ملف في شرطة الآداب للحصول على تصاريح بالغناء. الدولة حافظت على هذا القانون الصادر منذ عصر نابليون، عندما كانت الدعارة مقننة، وعندما ألغت تقنينها عام 1949 ظلت تعتبر كل المهن الأخري كالغناء والرقص مثل الدعارة، ومن ثم نستطيع استنتاج نظرة المجتمع السلبية للراقصة أو المغنية ومحاكمتها أخلاقيًا تأتي من أين، واستمراريته في ازدواجية مقيتة؛ حيث يُشاهد الفن لكن يرفض امتهان بناته له. المجتمع المصري أصبح "مونوتون" كما نقول بلغة المسرح.

إعلان

بأي معنى؟
بعد سقوط الملكية وسيطرة الضباط الأحرار على الحكم في عام 1952، أصبح هناك حركة لتوحيد لون المجتمع من دستور وتشريع يخدم مجموعة واحدة فقط هي المسلمين السُنة ودون غيرهم أقليات، بات وجودها مرفوض بالمجتمع سواء مسيحيين، طليان، يونانين، يهود وأرمن. ورغم تأثير هذه الفئات المدهش على السينما والمسرح والغناء، حتى علب الليل وكباريهات عماد الدين - التي شهدت ظهور فنانين مثل شكوكو، إسماعيل ياسين، تحية كاريوكا وسيد درويش الذي لم يكن معروفًا إلا عندما دعمته صالة بديعة مصابني- كل هذا التنوع اختفي ولم يبق سوى المحاكمة الأخلاقية للفن الآن.

بعد 7 سنوات من مغادرتك لمصر.. كيف أثرت الغربة على مشروعك الفني؟
خُضت عدة تجارب فنية بجانب الغناء وهي التمثيل بمسرح "Foraat" بالسويد، وهو مسرح وثائقي تسجيلي عن ظاهرة ختان الإناث، ومؤخرًا شاركت في مسرحية تسجيلية "she-he- me" عن مجتمع الميم - LGBT، تأليف الكاتبة الأردنية/ الألمانية آمال الخوري، تم عرضها في ميونخ. كما ساعدني زوجي ومدير أعمالي (لوكا) على طرح الألبوم الثاني باسم "Live in Paris" 2015" على الإنترنت، لإيماني بمجانية الحصول على المعلومات والموسيقي، وهو مثل تجربة البوم "محطه مصر"، من حيث الإنتاج الذاتي ومُسجَل من الحفلات اللايف، التي قدمتها في عدة بلدان حول العالم وأماكن مثل؛ المعهد العربي بأسبانيا، ومعهد العالم العربي في باريس. وحاليًا أستكمل دراستي للمسرح في جامعة السوربون، لأن هناك فرق سنين ضوئية بين ما تعلمته في مصر وباريس، من حيث ظهور أشكال جديدة من المسرح.

يتردد معظم الممثلين العرب في تقديم شخصيات تنتمي إلى مجتمع الميم، ألم تتخوفي من قبول المشاركة بالمسرحية؟
بالعكس، كنت فخورة باختياري ضمن فريق عمل المسرحية، خاصة وأنها مستوحاة من قصص حقيقية في الوطن العربي ولعبت عدة أدوار؛ عن مثلي يعيش في الأردن، وترانس جزائرية (متحولة جنسيًا). وهنا يأتي أهمية دور القانون؛ فالفنان يشعر بالحرية عندما يكون المعيار هو "القانون" سواء بالتجريم أو السماح، تكوني مثل ماتكوني في شمال المتوسط، فالناس تُحبك أو تَكرهك لكن لن تضعك في السجن. هذه المسرحية لا يمكن تقديمها في مصر وإلا خرجنا من المسرح لنجد عربية الشرطة تنتظر الفنانين، مثلما قبضت من قبل على الكاتب أحمد ناجي لمجرد فصل أيروتيكى من من إحدى رواياته، ما يحدث فضيحة لا يمكن تخيلها. ومع ذلك واجهنا مناقشات عنيفة من جمهور العرض وكان معظمهم من المهاجرين، لمجرد استدلالنا فى النقاش بشخصية "أبو نواس"، كونه مثلي الجنس. واظن أن المشكلة ستظل قائمة، لأن معظم الناس لديها فهم مسطح للهوية.

إعلان

وماذا عن فهمك للهوية كمهاجرة عربية لمجتمع جديد مثل باريس؟
أصبحت هويتي هى القضية التي أحُارب من أجلها بإرادتي، وكان مُرشدي في ذلك كتاب "الهويات القاتلة" لأمين معلوف، المُهلم لكل مهاجر. أصبحت دُنيا بنت كوكب الأرض، وأكبر من هويتي المصرية والعربية. يُولد الإنسان ومُحمل على كتفه هويات إجبارية كاللغة، الدين، الجنس والجنسية، ويحارب من أجلها دون إرادته. عندما أسقطت كل هذه الهويات الكاذبة تخلصت وقتها من فخ كيفية التعامل مع مجتمع جديد. معركتي الآن هي الحفاظ على الأكسجين والمياه النقية في هذا العالم، والدفاع عن نساء آخرين ضد ما يتعرضن له من عنف كالختان مثلًا.

نعود للغناء.. نسمع الفولكلور بصوتك ومن محمد بشير، دينا الوديدي وآخرين والجميع له بصمته الخاصة ( السيرة الهلالية ) نموذجًا.. كيف يتحقق ذلك؟
الفولكلور أشبه بامرأة جسمها حلو، لو ارتدت أي شيء ستكون جميلة، فأغاني الفولكلور مادة ثرية جدًا تعطي كل فنان قماشة واسعة لتقديمها بطرق مختلفة، مثل قطعة الكريستال لها أبعاد وزوايا ألوان متعددة، لذا ستظل أصوات كثيرة تغني الفولكلور وتشعُري في كل مرة بأنك تسمعيه لأول مرة.

هل اعتمادك على الآت تقليدية فقط (ناي- إيقاع) خوفًا من تشويه الفولكلور حيال تقديمه بصورة معاصرة؟
لم يكن مقصودًا فقط الحفاظ على الشكل الفولكلوري الأصلي، ولكن للحفاظ على الشكل المسرحي للأغنية، نستخدم الموسيقى في حدها الأدني حتى يستمع الجمهور أكثر لكلام الأغاني، وهو يتناسب مع رؤيتي لملامح مشروعي الفني؛ فأنا لست مغنية أو مطربة، وغرامي الأساسي هو تمثيل حواديت الأغاني على المسرح أمام الجمهور. عكس مشروع الفنان "محمد بشير" مثًلا، فهو يقدم الفولكلور بتوزيع موسيقي مختلف يصلح ريجي أو جاز. وهذا لا يمنعني أحيانًا من إدخال هذا التجديد Modernization، ولكن لا اشعر كثيرًا بالراحة أثناء لعبه.

إعلان

"بحب الأغاني الفولكلورية لأن معندهاش تابوهات وعُقد الطبقة المتوسطة"، ماذا قصدت بهذا التصريح؟
لأن ابن الطبقة المتوسطة القاطن بالمدينة تعليمه وثقافته "نص نص"؛ سيجرم القتل ولكن لن يجد إجابة عندما أساله لماذا القتل في جرائم الشرف مشرع قانونًا؟، سوف يتحايل ويهرب من الرد، بينما رجل الجنوب لن يتبرأ من القتل وسيرفض توصيفها بأنها جريمة أصلا، حتى التابوه في الريف والصعيد له أسباب حقيقية وغير مزيفة حتى لو نتائجها عنيفة ونرفضها. في المقابل الفولكلور يضج بأغاني حول الجسد والنصوص الإيروتيكية الصريحة والجريئة جدًا، فمثًلا مربعات الغزل في "نعناع الجنينة" الشاعر مفتون بجسد حبيبته الممتلىء قائلاً: "عضامك لينة لتين على التنيات، تانية واتنين تلاتة واربع خمس تنيات"، وكذلك السيرة الهلالية والانتقال بين مشاهدها بالحرب والحب، سنجد شىء مذهل وجرىء، ليس هناك أي خجل من جسد المرأة ، ولا من التعبير عن الحب والطيف الواسع من مقاييس الجمال المختلفة وكذلك أغاني رتيبة أحمد وهي تغنى" وأنا لسه نونو فى الحب بونو".

هل هذا ما دفعك لتقديم أحدث أغانيك "يا سمباتيك خالص يامهندم " لرتيبة أحمد؟
بالطبع، لإن هذا التراث هو شخصيتنا، جزء من غنائنا الأصيل ويسعدني جدًا تقديمه. فلماذا نتبرأ من هذا التراث الغني، كتلك المحاكمات القائمة حتى الآن لأم كلثوم عند تغني بطقطوقة "الخلاعة والدلاعة مذهبي"، كما لو ارتكبت خطيئة لأنها قدمت أغنية أيروتيكية، رغم أن هذه الأغاني كان يسمعها سكان المدينة في المقاهي من عبد اللطيف البنا، رتيبة احمد، سيد درويش بجانب أغانية الوطنية ولم يكن يقول "عيب"!

ولكن أم كلثوم نفسها تبرأت من هذه الأغنية وسحبت اسطوانتها من السوق؟
لأن أم كلثوم عندما دخلت القصر، أرادت تقديم الفن الرسمي الذي يليق بالباشا العثماني و المستعمر الإنجليزي الذي كان يري كل ما يتعلق بالجسد رخيص، فمثًلا يشرعن الدعارة في مصر باستثناء أن تمارسها سيدات الجالية الإنجليزية، ومن ثم بدأ هذا التعالي والعُقدة لدينا من هذا التراث الغني الأصيل، ثم تُكرث لهذه النظرة لاحقًا الطبقة المتوسطة بعد ثورة يوليو الذي أصبح كل طموحها تقليد الطبقة التي ثارت ضدها وهي القصر والإنجليز؟!، وأصبحت مقاييس الرُقي لديهم بجانب الأكل بالشوكة والسكينة كالأمراء والتحدث بالإنجليزية أو الفرنسية، هي سماع الموسيقى والأغاني الرصينة، ورفض الأغاني الفولكلورية ومايحتويه بعضها على نصوص إيروتيكية، لأنها ليست أغاني " شيك".

إعلان

أغاني الفولكلور أيضًا مليئة بالنصوص الذكورية.. كيف تتعاملي معها كنسوية دائمًا تتحدثين عن حقوق المرأة؟
(تضحك) جسمي ليس ضد نسويتي، لن أُصُبح مثل شخص يرفض تعُلم الانجليزية لأنها لغة المحتل. "أنا واحدة سِت وبحب جسمي وأراه حاجة حلوة وبحب الحياة، ومحظوظة أكثر من الرجال لأني أمتلك جسم أحلى. لماذا أرفُض غناء كلمات تحتفل بالجسد ومصاحبتها بالرقص؟. وهنا فرق كبير بين الاحتفاء بجسدي وتسليعه، لو نظرنا للصعيد وأسوان هناك بعض الرقصات فولكلورية فيها احتفاء بكامل الجسد الأنثوي، حيث ترقص السيدات وهن فخورات بالأرداف والصدر، وهنا يختلف الرقص كتسليع وبين الاحتفاء بجسد المرأة الذي لا يجب أن تخجل منه. وأحُاول دائمًا كسر الصورة النمطية المأخوذة عن الرقص بأن المرأة يجب أن تكون Sensual و Sexuality، ورغم أنني لا أتبرأ من كلا الصفتين الملازمتين للرقص، لكن لايجب أن يكونا هما الأساس فقط. أما أغاني مثل؛ "بتنادينى تاني ليه" و"دنيا يادنيا ماكفايا اللى جرا.. راجل وملو هدومه فى البيت حاكماه مرة" كلها نصوص ذكورية لكن بمثلها كمشاهد من مسرحية لا تمثل دُنيا في الواقع.

صرحت بأنك هاجرت إلى فرنسا لخوفك على حياتك بعد صعود الإخوان المسلمين في مصر. هل كان هناك أسباب لهذا الخوف؟
(تقاطعنى بغضب) ليس قصة خوف أو صعود للإخوان، ولكن كان لدي تصورات بسبب الثورة والانتخابات، واكتشفت أنها وهم كبير وأنني (لوحدي فى المركب)، في حين الحركات اليسارية والمدنية تدعم الإخوان، بل وترى أن الثورة ليس أولويتها الآن حقوق المرأة وحرية الفن، وأن مطالبنا فئوية. أظن بعد هذه الجمل كانت سبب كافٍ ليس للهجرة من مصر فقط ولكن من كوكب الأرض.

ولكن هذا لم يكن اكتشاف جديد بل أمر متوقع في السياسة؟
اتفق معكِ، ولم أكن أعيش في فلوريدا قبل الثورة، وأُدرك الجحيم الذي يعنيه نزول فتاة إلى الشارع في مصر، كونها مغامرة بحياتها بسبب التحرش. لم يكن ما يحدث جديدًا. ولكن ما كان يزيد قدرتي على الاحتمال هو الاعتقاد بوجود آخرين يؤمنوا بنفس مبادئك وأنه عندما تحدث ثورة سنتحرك مع بعض، وليس عكس بعض. اليسار والعلمانيين تعاملوا بمنطق (عدو عدوي صديقي).. فقرروا التحالف مع الإخوان من أجل إقصاء العسكريين. أتذكر أن أحدهم قال لي: "إيه المشكلة، إلبسى الحجاب سنتين لحد ما نخلص من العسكر!". تحالفوا مع الإخوان وهم يعلمون أن عقيدة هذه الجماعة عند الوصول للحكم هي ذبح المخالفين؟! وهو ماحدث. الإخوان لن ينتظروا الشرطة تأتي للقبض عليَ كفنانة، ولكن هيصعدوا ليذبحوني في منزلي.

إعلان

هل تقصدين أن القوى المدنية استخدمت النساء كـ"كارت سياسي" أيضًا؟
نعم ، القوى المدنية خذلت كل الستات في مصر بعد الثورة. اليسار الذي كان يحتمي بمنازل النساء هربًا من الأمن، عندما يتم اغتصاب هؤلاء النساء والتحرش الجماعي بهن في ميدان التحرير، يُطالبُهن بالصمت من أجل عدم تشوية سمعة الميدان والثورة. ولو تحدثنا عن التحرش يُطالبوننا باتهام الإخوان؟!، لاستغلال القضية سياسيًا ضدهم. وهو أمر مرفوض أن الإخوان يكونوا متهمين بمفردهم بالتحرش في الميدان لأن التحرش أسلوب الشعب المصري طوال الوقت وهو قضية اجتماعية وليست سياسية.

ربما يرى البعض هجرتك أيضًا هروبًا وخوفا بدًلا من دورك كفنانة للدفاع عن الحريات ؟
آسفة، هناك فرق بين النضال والحماقة. أنا ناضلت وعمري 19 سنة، عندما جئت من الإسكندرية للقاهرة من أجل حلم التمثيل والغناء، كان نومي في أحد مقاهي وسط البلد بالشارع، لأن القانون يمنع صاحب الفنادي من تأجير غرفة لفتاة مصرية (دون ولي أمر)، ولكن يسمح لفتاة في سنها طالما كانت "بلونداية" أجنبية. وهو ما كان ينتهي بي للجلوس مستيقظة طوال الليل فى القهوة. ناضلت بطريقتي، وتركت مصر عندما كنت اقتربت أن أتحول لهاشتاج مثل " كلنا دنيا مسعود".. "أنا هنا لسه بغني، لكن في مصر هكون في السجن أو اتقتلت!

ولكن الإخوان رحلوا والنظام السياسى تغير فى مصر الآن.. ربما الفرصة مواتية الآن لعودتك؟

الإخوان رحلوا ولكن سقف الحريات في مصر أصبح في الأرض (سيء جدً)، أنا هاجرت عندما تأكدت أن مصر "خِلصت" والأمل لن يكون حاضرًا مع هذا الجيل المزيف المسيس نصف سياسية، جيل يُبرم تحالفات غير شريفة مع الأعداء لتصورهم في لحظة أنهم أصدقاء. مش عايزة أرجع لأني فقدت الأمل في الناس الموجودة دلوقتي. ربما أعود وعمري 70 سنة لما الجيل اللي عندي أمل فيه ينظف المشهد في مصر". أصبحت مؤمنة أن "الحل سيكون على يد جيل جديد طالع من أرض نظيفة يطرح نظرية جديدة، وحتى يظهر هذا الجيل ويأخذ مكانه في السينما، القانون، الاقتصاد و السياسة؛ الشارع المصري لايصلح أن أمشي فيه كمواطنة ولا أغنى كـ"أرتيست". هناك جرائد من الخليج للمحيط لم يكن لديها شىء لتكتبه لمدة 3 سنوات الإ الحديث عن "تاتو"(وشم) دنيا وحياتها الخاصة، هل هذا أكثر شيء يؤرق ذهن الصحافة العربية؟!

ولكن هذه الأزمة لم تُغير من جماهيريتك، وهناك مئات التعليقات تُطالبك بتقديم حفلة في مصر؟
وماذا فعلت هذه الجماهير عندما هاجمتني الصحف، مارست أحكامها الأخلاقي ضدي أيضًا على السوشيال ميديا، بصراحة غير مهتمه بالعودة، لست مهتمه بالغناء لجمهور يُقيمني مثلما يُقيِم عاهرة، ولديه ازدواجية ، لماذا لم تهتز مشاعر هذه الجماهير ولم يتأثر إيمانها المُرهف ضد "تاتو" عمرو دياب وغيره من النجوم الأجانب؟

ربما هذه الصراحة المشحونة بالغضب تخسرين بها هذا الجمهور؟
حقيقي لدي حالة غضب وخُذلان من الجمهور، الذي انهال عليَ بالسُباب بعدما طالبته بالوقوف دقيقة حداد في إحدى الحفلات بعد "مذبحة ماسبيرو" عام 2011، لاعتقادهم أنني مسيحية وأطالب بدعم الأقباط بعد الحادث الذي راح ضحيته عشرات الأقباط. هل هذا جمهوري الذي يكتب لي متسائلاً "انتِ بطلتي تمثيل وغناء بعد سفرك؟! ولكن الحقيقة أنِ بشتغل أكثر، ولكن هذا يُعبر عن جهل وغرور هذا الجمهور وتخيل أن الحياة تبدأ وتنتهي عند حدود جمهوريته!. بصراحة I don't care بهذا الجمهور، أنا بغني وبمثل عشان انبسط بالُغنا وبحب الشغلانة دي، الجمهور انبسط معايا فيها أقوله "ميرسي"، لم يسعد بها فأنا لست مهتمة!

"أيوب المصري" مالفرق بين النسخة الجديدة وأول مرة لغنائك لها عام 2010؟
حكاية أيوب وناعسة من الحكايات المُلهمة عن قوة وتحمل النساء، لم يصبر أيوب بمفرده ولكن بفضل دعم زوجته، لذا رغبت في تقديمها مرة ثانية كتحية لكل ست بمصاحبة الناي والإيقاع، بينما قدمتها لأول مرة مع فرقة "كزا مدى" مع زيد حمدان ومحمود الردايدة وتامر أبو غزالة، والاختلاف كان في التوزيع الموسيقي فقط.

إحيائك لفن "العَديد" كأحد كنوز الفولكلور المفقودة للبوح النسائي في الصعيد والريف.. حدثينا عنه؟
للأسف، العديد فن نادر جدً، واختفى في ظل الأفكار المتشددة التى تراه مخالفا للدين، ولكنه سيظل فن مهم في تراثنا، حتى أن الباحث الفرنسى "غاستون ماسبيرو" كتب فصل كامل في إحدى كتبه عن العدودات المختلفة، فرثاء طفل صغير مُتوفى يختلف عن شيخ عجوز أو امرأة أو فتاة صغيرة، وحرصت على تقديم الـ"عدودة" أثناء حفلتي بمعهد العالم العربي في باريس.

ما هو مشروعك القادم؟
أعمل حاليًا على مشروع ينتمي للمسرح الوثائقي الاستقصائي عن حفر قناة السويس يجمع بين الحكي، الرقص والغناء، بالتعاون مع الباحث المسرحي أدهم حافظ. نرصد فيه القصص والحكايات المحظورة والتاريخ غير الرسمي لحفر القناة وسوف يُعرض عام 2020. بينما اُسافر على عمَان للمشاركة في مهرجان الشومان للموسيقى أغسطس المقبل. وأخيرًا التمثيل باللغة الفرنسية في مسرحية "غمض عينيك" تتحدث عن الغربة في سبتمبر 2019، للمؤلفة اللبنانية نانسي ناعوس.