slide01
مشروع أبراج زيد، بمدينة الشيخ زايد بالقـرب من مدينة اكتوبر والقاهرة الجديدة، مصر. المصدر: ZED
مجتمع

عن توسع الخطاب النيوليبرالي بمصر

النيوليبرالية تجعل الأفراد داخلها يصارعون أنفسهم بدلاً من مصارعة النظام
آية ياسر
إعداد آية ياسر

في أعقاب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ التي فشلت في تحقيق أهدافها المتمثلة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، بدأت خريطة المجتمع المصري في التغيير وهو ما أسفر عن تراجع وتقلص طبقات اجتماعية على مدار السنوات العشر الأخيرة، كان على رأسها الطبقة الوسطى، التي تكاد تنقرض تحت وطأة الضغوط الاقتصادية وارتفاع الأسعار وهبوط قيمة الجنيه المصري، وظهور شبكة جديدة من كبار رجال الأعمال وتراجع دور الوجوه القديمة التي كانت تتصدر المشهد في أواخر عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي أطاحت به الثورة، وتشكلت طبقات جديدة مثل: طبقة الأثرياء الجدد فاحشة الثراء التي يصفها البعض بالطفيلية، وكذلك الطبقة البرجوازية النيوليبرالية الجديدة، وكلاهما يعتبر المال معياراً للنجاح ويقوم بازدراء الفقراء والمهمشين، ويُقيّم الناس وفقاً لمعايير سطحية وشكلية قاسية، تعزز من الفجوات الطبقية ومشاعر الحقد الطبقي.

إعلان

وتشير النيوليبرالية لتعزيز رأسمالية السوق الحرّة وهيمنة قيمة السوق والخصخصة، وتعتبر النيوليبرالية المتوحشة أعلى مراحل الرأسمالية ويعد ميلتون فريدمان هو مؤسّسها، وهي تتلائم مع مصالح الرأسمالية المالية والنموذج الأميركي في عولمة الاقتصاد الافتراضي النيوليبرالي وعولمة التوحّش، وتعتمد على حريات السوق الدولية والرأسمال العابر للقارات والاستهلاك الرديء السيء، وتسببت تلك السياسات الاقتصادية في خلخلة بناء المجتمعات وانكماش قطاعات مهمة من الطبقات الوسطى.

شهدت السنوات الأخيرة شهدت انكماش الطبقة الوسطى والتي أصبحت تعاني اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً وتحيا مضغوطة بين الطبقة الثرية المخملية فوقها وتخشى السقوط إلى طبقة تعيش في فقر مدقع تحتها

وقبل تلك التغيرات العاصفة التي شهدتها مصر كان المجتمع المصري ينقسم إلى فئات، هي: اللاطبقية الكادحة المحرومة من فرص العمل الرسمية في الحكومة والقطاع الخاص، وإما  يعانون البطالة أو يحصلون على عمل مؤقت أو غير رسمي، والطبقة العاملة (فلاحية، وصناعية وتجارية)، الطبقة الوسطى الفقيرة ممن ينخرطون في أعمال صغيرة، ويعتمدون على الشراء بالأقساط، أو الاقتراض من الأفراد والبنوك، الطبقة الوسطى المستقرة التي تضم الحاصلين على تعليم أساسي وأصحاب المشاريع الوسطى، الطبقة الوسطى المتنفذة من المتعلمين الذين يتولون وظائف قيادية على مستوى أجهزة ومؤسسات الدولة وأصحاب رؤوس الأموال. تعيش هذه الطبقة حياة يغلب عليها الترف ولديهم القدرة على الادخار والاستثمار، ويطمحون دائماً للانتماء إلى الطبقة المركزية المتحكمة والتي لا تتجاوز 2% من السكان، ويشغل أفرادها الوظائف المركزية في جهاز الدولة، وتضم كبار الملاك ورجال الأعمال ورجال السلطة.

إعلان

إلاّ أن السنوات الأخيرة شهدت انكماش الطبقة الوسطى بفئاتها الثلاث، والتي أصبحت تعاني اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً وتحيا مضغوطة بين الطبقة الثرية المخملية فوقها وتخشى السقوط إلى طبقة تعيش في فقر مدقع تحتها، مما أدى لاتساع الفجوة الطبقية بالمجتمع المصري؛ حيث كشف تقرير صادر عن مؤسسة "هينلي أند بارتنرز"  17 ألف مصري يمتلكون أكثر من مليون دولار وأن عدد المصريين الذين يمتلكون أكثر من 10 ملايين دولار 880 شخصاً وتضم مصر أكبر عدد من المليارديرات في أفريقيا، بينما تبلغ معدلات الفقر في مصر 29.7%، وفق آخر بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الحكومي. وترجع خطورة تآكل الطبقة الوسطى لكونها صمام الأمان المجتمعي الذي يحافظ على التوازن، بجانب دورها المحوري في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإذا انقرضت تتعثر الدول وتحدث الاضطرابات.

تتضح لدى الكثير من البرجوازيين النيوليبراليين تلك النزعة الاستعلائية الانتقامية تجاه فئات أصحاب الحرف والعمال وسائقي الميكروباص والتوك توك، وعاملي النظافة

واللافت هو التغيير في منظومة القيم بالمجتمع المصري وظهور كل من طبقتي الأثرياء الجدد والبرجوازيين النيوليبراليين الجدد بمظهر الذي يعاني من حالة انفصال نفسي وجداني عن المجتمع المصري وكأنه لا يعرف شيئًا عما يدور به، فكلتا الطبقتين الجديدتين تتمحوران حول ذاتيهما، ويعد الرابط بينها هو شبكة المصالح وعلاقة براغماتية واضحة، وكعادة المجتمعات المخملية فإنها تشعر بالتهديد تجاه فكرة الدخلاء وتزدري الفقراء والمختلفون عنها شكلياً.

وغالباً ما تتحدث الطبقة النيوليبرالية عن التنوير وبعض القيم الحداثية كنوع من الوجاهة الاجتماعية ثم تلجأ إلى السخرية الطبقية من الفقراء ومن الفلاحين وتتنمر ببعض الفئات على أساس المظاهر والصفات الجسدية، وبالتالي نجد أن السخرية من الفقير والتنمر بأصحاب الوزن الزائد والبسطاء ممن ينزلون إلى الشواطئ وحمامات السباحة بملابسهم العادية وكذلك المحجبات اللواتي يرتدين البوركيني بدلاً من البيكيني، سلوكيات معتادة يقومون بها. وتتضح لدى الكثير من البرجوازيين النيوليبراليين تلك النزعة الاستعلائية الانتقامية تجاه فئات أصحاب الحرف والعمال وسائقي التاكسي والميكروباص والتوك توك، وعاملي النظافة وجليسات الأطفال والباعة الجائلون وحتى أطفال الشوارع والمتسولين.

إعلان

ويمكن تفسير تصرفات تلك الطبقة بأنها تحاول الحفاظ على مكتسباتها الاجتماعية والاقتصادية التي باتت تشعر بالتهديد من فكرة خسارتها في أعقاب ثورة يناير ثم سيطرة الإخوان على الحكم وأحداث 2013 التي أطاحت بحكمهم، وهي تشعر بالعدائية تجاه الكادحين والفقراء والمهمشين الذين يمكن أن يمثلوا تهدياً لهم في حال وقوع سيناريو ثورة الجياع.

فجوات طبقية واستفزاز للمشاعر
خلال السنوات الأخيرة بدا ملحوظاً حجم التناقضات الاجتماعية؛ حيث الثراء الفاحش في مواجهة الفقر المقدع والرفاهية في مواجهة الشقاء والإسراف في مواجهة الحرمان والمنتجعات في مواجهة العشش والنوم على الأرصفة.

وتتجلى والفجوات الطبقية الصارخة في أوضح صورها خلال الإعلانات التلفزيونية الفضائية أثناء شهر رمضان المبارك من كل عام، والتي انقسمت لإعلانات تطالب بالتبرع للفقراء والمرضى وسكان العشوائيات والعشش، وإعلانات أخرى تخاطب أصحاب الملايين وتدعوهم لشراء وحدات عقارية في المنتجعات، والكومباوندات المخملية المغلقة، وسط الحدائق والبحيرات الاصطناعية، بأسعار مليونية، في تجسيد واضح للنيوليبرالية المتوحّشة التي تمارس الاستعلاء الاقتصادي في وسائل الإعلام الجماهيرية، دون أي اعتبار لمشاعر القطاعات الأكبر من المجتمع وسط تجاهل تام لبقايا الطبقة الوسطى من المجتمع، وفي الوقت الذي يعاني فيه الشباب من أزمة الإسكان وتضاعف أسعار العقارات السكنية خلال السنوات الأخيرة.

السواد الأعظم من الأعمال الدرامية مؤخرا ً والتي أصبحت إما تتناول مجتمعات الكومباوندات المخملية أو العشوائيات وعوالم المجرمين

ولا يقتصر الأمر على الإعلانات الرمضانية بل امتدت إلى السواد الأعظم من الأعمال الدرامية مؤخرا ً والتي أصبحت إما تتناول مجتمعات الكومباوندات المخملية أو العشوائيات وعوالم المجرمين وأصحاب السوابق الجنائية. وإذا تفقدت قنوات الطهي على الفضائيات المصرية ستلاحظ بسهولة أن الطبقة الوسطى محدودة الدخل والطبقات الفقيرة وتلك التي تحت خط الفقر، ليست على خريطة اهتمامات مقدمي البرامج والطهاة الذين يقدمون طرق إعداد وجبات لا تهم سوى الأثرياء الجدد والنيوليبرالية الاستهلاكية بدءاً من أسمائها ومكوناتها الغريبة عن المجتمع المصري ومروراً بارتفاع الأسعار المبالغ فيه لمكونات تلك الوجبات.

إعلان

وإذا كنت من متابعي برامج التوك شو فستصدمك البرجوازية النيوليبرالية بتصريحات لبعض إعلاميها وضيوفها، كأن تقول الفنانة أن أزمة الاستيراد جعلتها تجد صعوبة في شراء ملابسها من ألمانيا، أو تقول الإعلامية إنها تفرش فساتينها الماركات على الأرض ليدوسها زوجها بحذائه، والأسوأ أن يظهر رجل أعمال شاب من العدم ليعلن أنه صاحب سلسلة الصيدليات الأشهر في مصر ويطلق تصريحاً يستفز القطاعات الأكبر من المجتمع زاعماً أن الشاب الذي يتجاوز الـ٣٥ من عمره وهو فقير يستحق البقاء فقيراً، وذلك ما يمكن اعتباره تجسيداً لوحشية النيوليبرالية.

هل ظهرت من العدم؟
ولكن من أي جاءت تلك الطبقة الاجتماعية؟ هل ظهرت من العدم؟ في الواقع إن المعطيات الاقتصادية والسياسية تظهر أن هناك سلسلة واسعة من التوجهات الاقتصادية النيوليبرالية التي شهدتها مصر في أواخر عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، أدت إلى نوع من الإفقار الاجتماعي، وتسببت بشكل أو بآخر في اندلاع ثورة يناير وتأججها بسبب زواج المال والسلطة والتوسع في الخصخصة.

تلك التوجهات الاقتصادية  والسياسية التي فشلت انتفاضة يناير في إجهاضها، مهدت على مدار السنوات الماضية لهبوط الطبقة الوسطى وظهور الطبقات الجديدة بشكل أكثر فاشية وتوحشاً مما كانت عليه قبل ٢٠١١، وهو ما حدث بإيقاع متسارع بالتزامن مع تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي عانت خلالها الطبقة الوسطى من تبعات خفض الدعم عن المواد الغذائية والكهرباء والبنزين وفرض ضرائب القيمة المضافة، في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية بشكل غير مسبوق.  

ظهر ما يمكن وصفه بالخطاب الإسلامي "الكيوت" وله دعاة بعينهم يوجهون خطابًا من التنمية البشرية الإسلامية، للشرائح العليا من الطبقة الوسطى

إعلان

ويمكن وصف طبقة البرجوازية النيوليبرالية بأنها قدمت لمجتمعنا المصري نمطاً سيئاً من الاستهلاك الرديء، بجانب كونها تقتطع أجزاء من فقرات عالم الاقتصاد الأمريكي الفائز بجائزة نوبل ومروج فكرة الاقتصاد الرأسمالي التنافسي، ميلتون فريدمان، والتي تسعى لتحقيق الربحية دونما اعتبار لغيرها من المعايير والقضايا الإنسانية، وهو ما يذكرنا بما يفعله الأصوليين حين يقرأون من كتب التراث على طريقة النقل لا العقل.

ومن أمثلة تلك المقولات: "الحد الأدنى للأجور إما لا يفعل شيئا ً أو يتسبب في التضخم والبطالة" "خفض الإنفاق الحكومي والتدخل الحكومي في الاقتصاد سيشملان مكاسب فورية للعديد من الآلام قصيرة الأجل للقلة والمكاسب طويلة الأجل للجميع، "لا يوجد شيء اسمه وجبة غداء مجانية"، "لا يمكن أن تتحمل الحكومة مسؤولية أكثر مما تتحمله الشركة. الكيانات الوحيدة التي يمكن أن يكون لها مسؤوليات هم الأشخاص."

خطاب إعلامي وديني يليق بالنيوليبرالية
منذ ظهرت البشائر الأولى لظهور الطبقة البرجوازية النيوليبرالية كان لابد من تصدير وجوه إعلامية ودعاة جدد يليقون بتلك الطبقة الجديدة ويستطيعون مغازلتها وإرضاء احتياجاتها، فظهر ما يمكن وصفه بالخطاب الإسلامي "الكيوت" وله دعاة بعينهم يوجهون خطابًا من التنمية البشرية الإسلامية، للشرائح العليا من الطبقة الوسطى الذين يسكنون الكومباوندات ولديهم عضويات في النوادي الراقية ويرسلون أولادهم إلى المدارس الانترناشيونال، ويفترض بهذا الخطاب أن يحارب الأيديولوجية السلفية والفكر الجهادي المتشدد وتأثيراتهما الاجتماعية، إلاّ أن هذا الخطاب الذي بينهم راج قبيل ثورة يناير لم يعد ذا شعبية بين أبناء تلك الطبقة الجديدة خلال السنوات الأخيرة.

إعلان

ويمكن القول أن هناك وجوهاً إعلامية بعينها توصف بأنها ضمن إعلاميي السلطة ويقدمون برامج توك شو شهيرة على الفضائيات، وجدوا لأنفسهم قاعدة كبيرة من جمهور الطبقة البرجوازية النيوليبرالية التي أصبحت تدافع عن مصالحها الاقتصادية والسياسية بشراسة، ورغم كون قطاعاً منها قد أيد ثورة يناير في بدايتها إلاّ أنهم قرروا أخذ جانب السلطة السياسية منذ إسقاط حكم جماعة الإخوان في مصر عام ٢٠١٣، وأصبحت لدى تلك الطبقة تهماً معلبة توجهها لأي شخص يجرؤ على الاعتراض أو الانتقاد، بوصفه اشتراكياً شعبوياً سوداوي كاره للإنجازات والتنوير.

وبحسب مراقبون وناشطون فإن الصحفيين والإعلاميين في مصر خلال السنوات الأخيرة باتوا ينقسمون إلى معسكرين، أحدهما يتبنى وجهة نظر السلطة وهم يتمتعون بالحماية، أما الآخر فهو معسكر المعارضين الذين يفند ما تقوله السلطات الحاكمة، ويهتمون بواقع عامة الناس وأحوالهم، وهؤلاء لا يحظون بأي حرية أو غطاء ومعرضون للوصم والاتهام بالعمالة والخيانة أو الملاحقة القضائية والأمنية.

مخاطر توسع النيوليبرالية بمصر
يحذّر الاقتصادي الكندي ميشيل تشوسودوفيسكي في كتابه "عولمة الفقر" من الخطاب النيوليبرالي الذي أدى إلى تفكيك مؤسسات بعض دول العالم الثالث وتمزيق حدودها الاقتصادية، وتدمير الاقتصاد المحلي وقطاع الزراعة والثروة الحيوانية وإفقار الملايين من الناس، وتسبب في العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية كالاضطرابات الاجتماعية وارتفاع نسب البطالة وتقويض الحريات وحقوق الإنسان والمرأة.

وبحسب الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ تشول هان، فإنّ النيوليبرالية تجعل الأفراد داخلها يصارعون أنفسهم بدلاً من مصارعة النظام الذي يُولِّد الإحباط والاكتئاب؛ حيث يُصيبهم الإحباط جراء الفشل في تحصيل الثروة أو الشهرة لأنفسهم فيصابون بالاكتئاب والتدمير الذاتي.

لا يجب الاستهانة بتوسع تأثير النيوليبرالية المتوحشة على المجتمع المصري، والذي يمكن أن تكون له عواقب وخيمة؛ وأن نتعظ مما تجربة الأرجنتين خلال العقد الأخير من القرن الماضي، والتي تسببت في تسريح مئات الآلاف من الموظفين، وتوسع الخصخصة ثم حدوث أكبر إفلاس مالي نتجت عنه آثاراً اجتماعية وإنسانية وخيمة. وتقع على الخبراء الاقتصاديون وأساتذة علم الاجتماع والمثقفون في المجتمع مهمة دق نواقيس الخطر وتوعية كل الشعب والسلطة بمخاطر توحش النيوليبرالية، كما تصبح الطبقة العاملة مضطرة للنضال والصمود في وجه توحش الرأسمالية والنيوليبرالية للحد من سيطرتها.