فن

أول مصورة عربية.. فلسطين بعيون كريمة عبود قبل قيام إسرائيل

تؤكد أعمال كريمة عبود على أن فلسطين كانت منطقة نابضة بالحياة، حيث تظهر صورها الناس في أعمالهم واحتفالاتهم وتفاعلاتهم اليومية
أول مصورة عربية.. فلسطين بعيون كريمة عبود قبل قيام إسرائيل

(جميع الصور عبر الباحث أحمد مروات وعبر  www.artymag.ir/en/galleries/GZi6)

في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ التصوير الفوتوغرافي ينتشر حول العالم، وتم إدخاله إلى الدول العربية. في ذلك الوقت، كانت فلسطين مليئة ببعثات من المصورين الإنجليز والألمان والأرمن لتوثيق الأماكن المقدسة، بما في ذلك المكان الذي استقر فيه السيد المسيح، أو مواقع تعود إلى فترات تاريخية.

ولدت كريمة عبود في بيت لحم عام ١٨٩٣، وهي ابنة القس سعيد عبود، الذي كان لبنانيًا الأصل. كانت كريمة مفتونة بالكاميرا منذ صغرها، ذلك الجهاز الغريب الذي يمكنه حفظ الذكريات. تلقت كريمة تعليمها الابتدائي في مدرسة شميدت للبنات في القدس، ثم التحقت بالجامعة الأمريكية في بيروت، حيث درست الأدب العربي. في عام ١٩١٠، عندما كانت تبلغ من العمر ١٧ عامًا، أهداها والدها كاميرا تصوير. كانت هذه هدية غير متوقعة، لكنها كانت الدافع الذي دفع كريمة إلى تحقيق حلمها في أن تصبح مصورة.

إعلان

بدأت كريمة بالتقاط الصور في جميع أنحاء فلسطين. كانت تسافر إلى القرى والمدن، وتلتقط صورًا للناس والحياة اليومية. كانت صورها دقيقة وصادقة، وكانت تعكس جمال فلسطين وتنوعها. كانت كريمة رائدة في مجال التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي، وكانت أعمالها مصدر إلهام للنساء والفنانين الآخرين.

316213061_10159275114593321_7821626737640203768_n.jpg

صورة للمصورة الفلسطينية كريمة عبود

بدايات كريمة عبود 

كان والدها، سعيد عبود، كاهن بروتستانتي معروف خدّم في القدس وبيت لحم وحيفا والناصرة. وبحسب رفيق فرح، مرجع الكنائس البروتستانتية في فلسطين، فإن أصل العائلة من جنوب لبنان. وكان عبود واعظًا علمانيًا في شفاعمرو (١٨٩١-١٨٩٩)، ثم التحق بالكنيسة اللوثرية وأصبح قسًا وخدم في بيت جالا من عام ١٨٩٩ حتى عام ١٩٠٥، عندما تم نقله إلى بيت لحم. تنقلات عبود المستمرة في المدن والقرى الفلسطينية عرّفت كريمة منذ شبابها بالمناظر الطبيعية المتنوعة في البلاد، بعد أن استقرت في نهاية المطاف في بيت لحم. عملت كريمة من المنزل في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وبدأت في كسب المال من خلال التقاط صور للنساء والأطفال، ثم من خلال التقاط صور الزفاف والاحتفالات. كانت أول صورة موقعة لها بتاريخ أكتوبر ١٩١٩.

خلال الفترة ذاتها، حرصت كريمة على التقاط العديد من الصور للأماكن العامة في حيفا والناصرة وبيت لحم وطبريا، عندما كانت طالبة في بيروت، حتى أنها قامت برحلة خاصة إلى بعلبك لتصوير الأماكن الأثرية.

WhatsApp Image 2023-11-26 at 2.40.17 PM.jpeg

فلسطين كما رأتها كريمة عبود

حالف الحظ كريمة في بداية عملها كمصورة، بعد أن حصلت على كاميرا تصوير في عام ١٩١٠. ساعدها وقوع الانتداب البريطاني على فلسطين في عام ١٩٢٢ على تحقيق النجاح في مجال التصوير الفوتوغرافي. في ذلك الوقت، ألزمت السلطات البريطانية النساء بالحصول على شهادة التصوير الفوتوغرافي حتى يتمكن من الالتحاق بالمدارس والكليات. وقد أدى ذلك إلى زيادة الطلب على خدمات المصورين، مما أتاح لكريمة فرصة لتقديم خدماتها للنساء.

إعلان

كانت كريمة عبود من أوائل المصورين الذين قدموا خدماتهم للنساء، وكانت تسافر إلى القرى والمدن الفلسطينية، وتلتقط صورًا للنساء في حياتهن اليومية. كانت النساء في الماضي لا يظهرن في الصور إلا نادرًا، واقتصر ذلك على العائلات المرموقة، ما ساعد كريمة على توسيع قاعدة عملائها، وكانت العائلات حينما تستدعي كريمة للتصوير ترتدي أفضل الثياب، وتزيّن المنزل بأفضل الأثاث والديكورات، وتضع أجهزة حديثة مثل التليفون أو الفونوغراف بجانب الشخص حتى تتباهى به العائلة في الصورة التذكارية للعائلة.

17.jpg

استطاعت كريمة دخول بيوت عائلات فلسطينية، والتقطت حياة وجمال النساء الفلسطينيات. كما صورت الفلاحات في القرى والأسر في المنتزهات، وحياة الناس داخل وخارج المنازل. ما يميز صور كريمة أنها كانت فلسطينية واستطاعت التقاط صورًا بعيون امرأة فلسطينية تعرف بلدها جيدًا وتفهم جماله، بخلاف المصورين المستشرقين والأوروبيين. وتدريجيًا، توسعت مهنة كريمة لتشمل تصوير الأعراس والمناسبات الاجتماعية، وكان لها استوديو خاص في بيت لحم كان مخفيًا عن أعين التجار والمهنيين، وفقًا للعادات والتقاليد السائدة في تلك الحقبة.

حرصت كريمة على إبراز الحضارة في بيوت الناس وجمالياتهم وملابسهم التقليدية، وتوثيق المباني الجميلة وتنوع الحياة في تلك العصور.

18.jpg

رحلة الانطلاق

بحلول أوائل الثلاثينيات، أصبحت كريمة عبود مصورة محترفة وكان لديها استوديو تصوير خاص بها في الناصرة، وكان الطلب عليها مرتفعًا لالتقاط حفلات الزفاف والصور الشخصية. كانت تتمتع بموهبة فنية كبيرة، وكانت تضيف لمسة خاصة إلى صورها. كانت ترسم صور الاستوديو الخاصة بها يدويًا، مما كان يعطيها مظهرًا فريدًا. لم تقتصر كريمة على تصوير الأشخاص داخل الاستوديو، بل تجاوزت ذلك وركزت على تصوير الأماكن ذات الأهمية الدينية، مثل كفر كنا في الجليل، المرتبطة بقرية قانا، حيث تذكر قصص الكتاب المقدس أن لقد حول يسوع الماء إلى خمر. كما التقطت كريمة صورا لبئر مريم بالقرب من الناصرة أو "نبع مريم العذراء" المعروف بوجوده في الموقع الذي ظهر فيه الملاك جبرائيل لمريم وأعلن أنها ستلد ابنًا، وأسواق تزدحم بالفلسطينيين.

إعلان

كانت كريمة طموحة جدًا، وبدأت في الإعلان عن خدماتها في أماكن مختلفة. كما كانت تكتب في جريدتي الكرمل وفلسطين تحت اسم "كريمة عبود مصورة شمس وطنية." يعكس هذا الاسم شخصيتها ورؤيتها الفنية، فكانت كريمة تهوى ضوء الشمس وترى فيه عنصرًا أساسيًا في الصورة الفوتوغرافية. وكانت أيضًا وطنية، إذ كان عملها مشروعًا وطنيًا في مواجهة الاستعمار البريطاني.

WhatsApp Image 2023-11-26 at 2.39.24 PM.jpeg

أجمل صدفة: العثور على أرشيف مصورة الوطنية 

بقيت سيرة مصورة شمس الوطنية مختفية حتى تاجر إسرائيلي في جريدة فلسطينية في عام ٢٠٠٦ يستفسر عن كريمة عبود، وكتب في الإعلان: "من لديه أية معلومات عن المصورة التي كانت تعمل في الناصرة وعن عائلتها فليخابرني عنها على الرقم المرفق بالإعلان."

إعلان التاجر الإسرائيل كان مثيرًا للجدل، ما دفع أحمد مروات، الباحث في حفظ التراث الفلسطيني، وتواصل معه، وتبين أن التاجر حصل على عدد من صورها من أحد المنازل في حي القطمون بالقدس، والذي هجره أصحابه خلال الحرب. كان بحوزته حوالي ٤٠٠ صورة، وكانت العديد من الصور موقعة منها.

عكست صور كريمة عبود مجموعة ثرية من الثقافة الفلسطينية، وقدمت نظرة نقدية وأصيلة للمجتمع الفلسطيني خلال بداية القرن العشرين، حيث عملت على تصوير النساء بالزي التقليدي والمناظر الطبيعية الساكنة. وفي حديثه معنا، قال مروات أن كريمة عملت على توثيق الشعب الفلسطيني كما هو وذلك بخلاف نظرة المصورين المستشرقين التي اقتصرت على تصوير الأماكن الأثرية، وفضلت تصوير النساء والريف والحياة العادية.

أكد مروات أن كريمة عبود استطاعت سد فراغ كبير في تاريخ التصوير الفلسطيني، حيث كانت أول مصورة فلسطينية تركز على تصوير الحياة اليومية في فلسطين. كما أنها قدمت صورة جديدة للمرأة الفلسطينية، حيث صورتها وهي تعمل في مختلف المجالات. كانت كريمة عبود تحرص على إبراز الحضارة في بيوت الناس وجمالياتها، وتوثيق المباني الجميلة وتنوع الحياة. كما صورت كريمة الأسواق المزدحمة بالناس والمباني المليئة بالحياة، ودققت في النساء اللاتي يتجولن في الأسواق.

إعلان

في المقابل، كان معظم المصورين الأجانب الذين زاروا فلسطين في ذلك الوقت يهتمون بتصوير الأرض هاوية وخالية من البشر، وذلك تمهيدًا لمشروع "شعب بلا أرض" الذي سعى إلى تصوير فلسطين على أنها أرض بلا شعب.

WhatsApp Image 2023-11-26 at 2.40.35 PM.jpeg

وكشف مروات، والذي لديه أرشيف ضخم لكريمة عبود ومد VICE عربية ببعض منها لم تنشر من قبل، أن جزء من أرشيف كريمة والذي حصل عليه من عائلتها وبعدها كان يحتوي على صور بورتريه. لذلك لم يفضل نشرها لأنها لا تمثل أهمية للجمهور. أما الجزء الآخر والذي يحتوي على حياة الفلسطينيين فقد نشر بعضًا منها.

وقال خالد عوض، مدير جمعية سيباط إن كريمة طورت أدواتها في التصوير، وطبعت بطاقات سياحية أثناء ظهور النشاط السياحي عقب انتهاء الحكم العثماني. نجحت كريمة في إصدار ١١ بطاقة بريدية لمعالم تاريخية وأماكن مقدسة وكانت تستغلها في استوديو، واستخدمت كريمة عبود ختم مشابه للأختام الحكومية في ذلك الوقت.

لماذا تميز أرشيف كريمة عبود عن غيرها؟

تؤكد أعمال كريمة عبود على أن فلسطين كانت منطقة نابضة بالحياة، حيث تظهر صورها الناس في أعمالهم واحتفالاتهم وتفاعلاتهم اليومية. كما أنها تعكس الثقافة الفلسطينية الأصيلة، حيث تظهر صورها الأزياء التقليدية والحرف اليدوية الفلسطينية. كما أعادت تقديم صورة فلسطين إلى العالم، حيث أظهرت صورها فلسطين كما كانت بالفعل: منطقة نابضة بالحياة وغنية بالتراث الثقافي.

إعلان
6.jpg
WhatsApp Image 2023-11-26 at 2.40.04 PM.jpeg

ذكر المؤرخ الفلسطيني عصام نصار في كتابه "لقطات مغاييرة.. تاريخ التصوير المحلي المبكر في فلسطين" أن الأغلبية العظمى من المصورين في تلك الفترة صوروا مواقع تتصل بالتاريخ الإنجيلي، ومنها الكنائس الرئيسية في بيت لحم والقدس والناصرة، وحائط المبكى. لكن ما كان يثير الانتباه أن التعليق على الأماكن كان بالاسم التوراتي أو الإنجيلي عوضًا عن الأسماء التي استعملها سكان فلسطين في تلك الفترة، على سبيل المثال قرية "العيزرية أو نابلس" والتي ظهرت دومًا على أنها "شخيم"، بالإضافة إلى قبة الصخرة وإصرار المصورين على كتابة "موقع هيكل سليمان."

تأثر المصور السويدي إيريك ماتسون بالتراث المسيحي في فلسطين، فالتقط مجموعة صور بعنوان "منزل في يهودا." تعكس هذه الصور رؤية جديدة للتراث المسيحي، حيث تركز على الحياة اليومية للناس في فلسطين، بدلًا من تصوير المشاهد الدينية التقليدية. ومن بين الصور الثلاث التي التقطها ماتسون، هناك صورة لأم طفل في الناصرة ترتدي الزي الفلسطيني التقليدي، وتحمل طفلها بين ذراعيها. تشبه هذه الصورة مشهد مريم وطفلها يسوع، لكن ماتسون أراد أن يوضح أن هذه الصورة جزء من الحياة اليومية في فلسطين، وليست مجرد مشهد ديني.

المصور السويدي إيريك ماتسون (1).JPG

كريمة عبود: مصورة فلسطين التي كادت أن تُنسى

رحلت كريمة سنة ١٩٤٤، ولم نكتشف تراثها إلا بعد عقود عديدة وكادت تتوارى لولا وقوع أرشيفها في يد هاوي للتحف لم يجد في لقطاتها شيء ثمين يجعله يحتفظ به. كانت كريمة حاضرة في رواية "سيرة عين" للكاتب إبراهيم نصر الله، حيث وصفها بأنها كانت جميلة إلى درجة يصعب وصفها، وأحبت عائلتها وعشقت الكاميرا. تمنت لو أن الكاميرا رافقتها في قبرها، ولكن دون أن تدفن معها. دخلت كريمة مجال التصوير الفوتوغرافي في وقت كان احتكارًا للرجال، وحققت نجاحًا كبيرًا في هذا المجال. التقطت صورًا مميزة للحياة اليومية في فلسطين، وعكست هذه الصور جمال فلسطين وتنوع ثقافتها.

إلى الآن، لم يكتمل اكتشاف تراث كريمة عبود، حيث لا يزال هناك الكثير من الصور التي التقطتها لم يتم العثور عليها بعد.