صحة

صحافيون عرب يروون تأثير تغطيتهم للحروب على صحتهم النفسية

"رأيت طفلة تبكي وتصرخ وقد بُترت أقدامها والدم يتدفق منها. بعدها لم أستطع النوم لأيام"
صحافيون عرب يروون تأثير تغطيتهم للحروب على صحتهم النفسية

صورة تم التقاطها في٢٩ سبتمبر٢٠٠ تظهر المراسل الأمريكي المستقل جيمس فولي (على اليسار) على الطريق السريع بين المطار والبوابة الغربية في سرت، ليبيا.  ARIS MESSINIS/AFP via Getty Images

"الحرب غيرتنا فلم نعد نحن، أصبحنا نسخة من وجع بلادنا." هكذا تصف الصحافية اليمنية أمل منصور وضعها بعد سنوات من تغطية النزاع وآثاره في بلد وصلت الحرب إلى كل مدنه وقراه.

منذ عام ٢٠١١، شهدت العديد من البلدان العربية احتجاجات شعبية طالبت بتغيير الأنظمة وإسقاط الحكام في تلك البلدان، لتتطور الأحداث وتصل حد النزاع المسلح والاقتتال والانقسام الطائفي. وفي ظل تلك الأحداث كان يقع العبء الأكبر على الصحافيين في تغطية تلك النزاعات ومناصرة ضحايا الحرب ومنها اليمن.

إعلان

اليمن

بدأت الحرب في اليمن منذ تسع سنوات، ونتيجة لهذه الحرب، أغلقت الطرقات، وانقطعت الخدمات والرواتب، كما شهدت البلاد واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم وفقًا لتقارير الأمم المتحدة. وكان من الضروري للصحافيين، وخاصة المستقلين منهم، تغطية الحرب والقصص العديدة التي أنتجتها تلك الحرب.

أمل منصور هي واحدة من أولئك الصحافيين الذين يغطون القصص الإنسانية مع العديد من المنصات الدولية. تقول أمل: "منذ بدء الحرب، وأنا أعمل في الميدان، رأيت ما تخلفه الحرب، أشلاء ودمار وأسلحة وانفجارات ومسلحين. سمعت قصص ضحايا، وأصوات الغارات الجوية، والرصاص. كل ذلك كان كفيلا بأن يؤثر عليً ولا تزال صور وقصص الضحايا عالقة في ذهني، باعتقادي من الصعب محوها."

وتضيف أمل أن تغطيتها لهذه القصص وسط دمار وأهوال الحرب أثرت على صحتها  النفسية، ما أجبرها على مغادرة البلد حيث وجدت نفسها  في مجتمع مختلف بعيدة عن الأهل والأصدقاء ووطنها. 

وتقول إنها تلقت دعمًا نفسيًا من عدة منظمات  لتجاوز الأزمات النفسية التي مرت بها خلال الفترة الماضية، بما في ذلك جلسات عدة مع شبكة "ماري كولفن"، وهي عبارة عن مجموعة إلكترونية من الصحفيات العربيات لدعم الصحفيات في مناطق النزاع، للتعافي من الأزمات النفسية التي ظلت تلاحقها.

ومع ذلك تقول أمل: "لا زلت أقاوم مثل الكثيرين، ومعي قلمي الذي أطمح أن يكون له جزءًا من التأثير الإيجابي على اليمن، ربما يساعدني ذلك على تجاوز ولو القليل مما دمرته الحرب فينا."

سوريا

بالنسبة إلى سوريا، تنوعت أطراف الحرب في البلاد حيث شهدت حربًا أهلية طاحنة قبل اليمن بعدة سنوات. وليد النوفل هو أحد الصحافيين الذين عملوا على تغطية الحرب في سوريا ابتداءً من الاحتجاجات ثم مرورًا بالانتهاكات التي صاحبت تلك الاحتجاجات، حتى به المطاف بالمغادرة إلى أوروبا. 

إعلان

يقول وليد:" لكل مرحلة من المراحل الثلاث أثر نفسي مختلف إلى حد ما، وبعد ١٢ عاماً من العمل في تغطية الحرب السورية، يمكن القول إن الأمر يصبح أيضاً تراكميًا وقاسيًا نفسيًا."

يتابع وليد أنه يعاني أحيانًا منذ عدة سنوات من الأرق والتوتر والخمول والشعور بالعجز والخوف، وأن هذه الضغوط والمشاكل النفسية تؤثر على حياته وعلاقاته الشخصية بالإضافة إلى إنتاجه الصحفي والبحثي.

ويضيف: "لا يمكن أن نفصل حياتنا الشخصية عن عملنا كصحفيين، حتى لو أردنا ذلك. ومع انتهاء ساعات العمل الرسمية، تنتقل الضغوط النفسية معنا إلى منازلنا وعائلتنا وإلى الأشخاص المقربين منا."

غادر وليد إلى فرنسا بعد سنوات من تغطية الحرب في سوريا والعمل في الأردن، لكن بعد وصوله إلى فرنسا، وخلال الأشهر الثلاثة الأولى، يقول إنه حاول استكشاف البلد والحياة العامة والسياسة فيه، إلا انه أصيب بحالة نفسية جديدة هي "عقدة الناجي" كما يصفها وليد.

"الآثار النفسية التي تركتها وتتركها الحرب لن تتوقف وتمحى إلا بتحقيق العدالة وحرية التعبير في بلدي، فهي مرتبطة باستمرار المشكلة وما يعانيه الناس في وطني"، يروي وليد.

وعلى عكس أمل، لم يخضع وليد لأي جلسات علاج نفسي، إذ يؤكد قائلًا: "أحاول بين الحين والآخر السيطرة على هذه الأزمات والمشاكل وإعادة شحن طاقتي مرة أخرى لمتابعة المسير في هذا الطريق، من خلال مجموعة من الأنشطة التي تساعدني على تغيير الحالة النفسية والتي أحبها، من قبيل ممارسة الرياضة والمشي، والخروج مع الأصدقاء وغيرها."

ويقول الدكتور خالد ناصر، استشاري ومحاضر متخصص في التواصل الأسري ومتخصص في معالجة آثار الصدمات النفسية في بيروت، أن الصحفي في الوطن العربي هو جزء لا يتجزأ من الوضع الاجتماعية في البلد، حيث تتطلب طبيعة عمله التفاعل مع المجتمع الخارجي، والذي هو بالفعل غير مستقر سياسيًا واجتماعيًا- وقد يصل عدم الاستقرار هنا حتى مرحلة التهديدات الأمنية لوجوده. بالاضافة إلى ذلك، قد يصل الأمر إلى تهديد القيم التي يؤمن بها الصحافي والتي قد تختلف حتى مع قيم الأسرة ما يجعل الصحافي يعيش صدمة دائمة قد لا تذهب مع مرور الزمن.

إعلان

 ويضيف الدكتور أن هناك توترات خاصة بعمل الصحافي خصوصًا إذا ما كان يقوم بتغطية حروب أو تغطية أزمات إنسانية او مواد مرهقة نفسيا عليه كتغطية الضحايا والقتلى والعنف.

وليد النوفل .jpeg

وليد نوفل

العراق

الصحافي الاستقصائي العراقي أسعد الزلزي، مراسل قناة الحرة في العراق والذي أنتج العديد من التحقيقات الاستقصائية حول قضايا حقوق الإنسان والفساد والبيئة، يقول أن الصحفي الذي يولد في منطقة بها صراعات وحروب داخلية يكون متأزمًا ويعيش الكثير من الأزمات النفسية حتى قبل أن يكون صحافيًا. ويقول أسعد أنه عاش عدة أزمات في العراق بدءا من الحرب الإيرانية ومن ثم حرب الكويت والحصار واحتلال العراق في العام ٢٠٠٣، ما جعله يعيش حالة نفسية بسيطة أو كان يظنها كذلك.

ويشرح أسعد أن عمله الصحفي لاحقًا جعل أزماته النفسية تظهر على السطح بسبب ما كان يراه ويعايشه ويغطيه، لا سيما أن بداية عمله كانت في منطقة المنصور في بغداد وأنه كان يرى الجثث منتشرة في كل مكان. ويقول أسعد:" إن عملي الصحفي كله بين الجثث والجرحى والسلاح وبالقرب من الجماعات المسلحة ومناظر الدماء التي لا تريد ان تمحى من ذاكرتي."

ويضيف أسعد انه مع وصول "داعش" إلى العراق، كان من الضروري له كمراسل تغطية الحروب في مختلف مناطق العراق.

ومع عمل أسعد لاحقًا في التحقيقات الاستقصائية، انتقل من حالة نفسية إلى أخرى، على حد وصفه، وهي مرحلة التهديد، وإطلاق النار عليه عدة مرات، وتهديده بإيذاء أسرته عدة مرات، مما أدى إلى عيشه في حالة من الخوف والتوتر المستمر.

اسعد الزلزلي .jpg

أسعد الزلزلي

ليبيا

على جانب أخر،  لم يكن الصحافيين في ليبيا بمنأى من التغطية الإعلامية الصعبة لصراعات شهدتها البلد منذ العام ٢٠١١، والتي وصلت ذروتها مع سيطرة "داعش" على مناطق واسعة من البلاد. يقول الصحفي عمرو فتح الله إن تغطيته للحرب هناك كان لها الأثر الكبير عليه، ويضيف أن الصحافي يرى مباشرة الضحايا والدماء وهو أشد وقعًا من مشاهدتها على التلفاز أو وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يكون التأثير مباشرًا.

إعلان

ويحكي عمرو إن من أصعب الليالي التي مرت عليه كانت حينما سقط صاروخ غراد على أحد الأحياء السكنية في مدينة طرابلس وأصاب المنازل بشكل مباشر ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين بينهم أطفال ونساء. ويقول عمرو: "عند مشاهدتي للمادة المصورة أثناء المونتاج، رأيت طفلة تبكي وتصرخ  وقد بُترت أقدامها والدم يتدفق منها. بعدها لم أستطع النوم لأيام وكل ما نمت كانت تأتي صورة تلك الطفلة حتى أنها تتكرر حتى اليوم، وانعكس ذلك على صحتي الجسدية والنفسية."

انتهت الحرب بشكل نسبي في ليبيا إلا أن تأثير تلك المشاهد لا يزال جاثمًا على عمرو وتفكيره حتى هذه اللحظة. ومع ذلك يقول عمرو أن المؤسسات الإعلامية في ليبيا لم تهتم بالصحة النفسية لموظفيها، خصوصًا مع إصابة العديد من كانوا في الميدان بأزمات نفسية واضحة عليهم وعلى تصرفاتهم.

في ظل غياب دعم المؤسسات الإعلامية في ليبيا، كان هناك في اليمن مشروع عيادات الدعم النفسي للصحافيين اليمنيين والذي أطلقه مركز الإعلام الاقتصادي ٢٠٢١، والذي يهدف بشكل رئيسي إلى دعم الصحافيين وتفريغ الشحنات السلبية التي تعرضوا لها بسبب الحرب في اليمن. 

Amr Fathalla s.jpg

عمرو فتح الله

ويقول محمد إسماعيل، المدير التنفيذي لمركز الإعلام الاقتصادي في اليمن: "كنا نعي أهمية وجود دعم من هذا النوع للصحافيين لأسباب مرتبطة بالصراع والضغوط التي يتعرضون لها." ويضيف أنه خلال فترة وجيزة فقط من افتتاح عيادة الدعم النفسي للصحفيين، وصل إليهم ما يزيد عن ١٨٠ طلب من صحافيين وصحافيات من مختلف المحافظات، بمن فيهم صحافيون يمنيون يتواجدون خارج اليمن.

ويعلق إسماعيل إن هذا مؤشر لشيئين رئيسين: الأول التأثير السلبي الكبير للحرب على حياة الصحافيين النفسية، والثاني يمكن القول إنه مؤشر على زيادة الوعي لدى الصحافيين بأهمية تلقي الرعاية النفسية، خاصة في مجتمع يُعيب الافصاح أو حتى الحديث عن الحاجة إلى زيارة طبيب نفسي.