مقال رأي

كيف شوَّهت الروايات والأفلام الرومانسية مفهومنا عن العلاقات؟

الخطر الأكبر من هذه الأفلام والروايات الرومانسية المشوهة، هي أنها تنتهي نهاية سعيدة، ومهما كان طعم السم المدسوس في العسل، فمشاعرنا تتخدر ببهجة المشهد الختامي
MV5BMTMxODE3NDQwNl5BMl5BanBnXkFtZTcwMjUxMTg0NA@@

في سهرتنا النسائية الأسبوعية، حكت لنا صديقتنا كيف كان "الكراش" يعاملها بقسوة، ويتجاهلها تمامًا لأيام، ثم يظهر ليداعبها ويضحكان معًا لساعاتٍ تنسى خلالها قسوته وغيابه، وحين يهيأ لها أن كل شيء على ما يرام يختفي مجددًا. قطعت صديقتي علاقتها بهذا الشاب قبل شهور بنصيحة منا، لكنها ما زالت تندبه وتردد علينا: "لو تحملته لفترةٍ أطول لتأكَّد من صدق حبي، ولتغيَّر، لكن هذا يحدث في الروايات الرومانسية فقط، وليس في الواقع."

إعلان

ذكَّرتني عبارة صديقتي كيف كنتُ حتى سنواتٍ قليلةٍ مضت، وكيف تحملت شركاء غير متاحين عاطفيًّا، سامين ومختلين، لأن ذاكرتي كانت ممتلئة بنماذج مشوهة عن الحب والعلاقات، غرستها فيَّ الأفلام والروايات التي تربيت عليها، والتي حاصرتني -أنا وكل النساء- بأفكار لا تمت للرومانسية بصلة، لكنها أصبحت بالنسبة لنا هي الحب الحقيقي، الذي يجب أن نبذل في سبيله كل ما نملك، ونتحمل من أجله كل المتاعب.

السقوط عن الحصان الأبيض 
إذا كنت فتاةً من مواليد الثمانينيات أو التسعينيات، فلا شك أنكِ تعرفين سلسلة روايات عبير وأحلام، التي كانت أشهر الروايات الرومانسية الرائجة في الوطن العربي، ولم تنج فتاة من قراءة أحدها على الأقل. كرهت روايات عبير وأحلام طوال مراهقتي، رغم غرام صديقاتي المفرط بها، وتبادلهن أعدادها بولعٍ. رأيتها تسوّق لنموذج ثابت من العلاقات المسيئة (رغم عدم وعيي بهذا المصطلح آنذاك)، علاقة يحوز فيها الرجل كل القوة والسلطة، ويتصرف بمزاجية تامة ليدلل أو يعنف متى شاء، بينما تبقى المرأة في أسره بانتظار أن يتعطف عليها ويختطفها على حصانه الأبيض. لم يعجبني هذا العجز الذي تصاغ به شخصية المرأة دائمًا، وانصرفت إلى عالم (روايات مصرية للجيب).

كانت (روايات مصرية للجيب) أشهر الروايات الترفيهية في الوطن العربي في جيلنا، وغزت حياتنا بسلاسل مختلفة، أشهرها روايات نبيل فاروق وخصوصًا سلسلتي رجل المستحيل وملف المستقبل، وروايات أحمد خالد توفيق في سلاسل (ما وراء الطبيعة)، و(سافاري)، و(فانتازيا). لم تكن هذه الروايات رومانسية في الأساس، ومع هذا عاشت شخصياتها علاقات عاطفية مختلفة، كانت بالنسبة لنا قمة الرومانسية وتجسيد الحب الحقيقي.. بعد سنوات طويلة من نضجي، أدركت أن تلك الروايات لم تكن أيضًا باستثناء، وكانت حافلة بقصص حب مؤذية للغاية.

إعلان

قدّمت روايات مصرية للجيب علاقات رومانسية سامة بلا حصر، لعل أشهرها قصة الحب السقيمة بين أدهم صبري ومنى توفيق في سلسلة رجل المستحيل. عبر أكثر من 150 عددًا (توقفت عند هذا الرقم ولم أتحمل أكثر) كان أدهم ومنى يتبادلان الحب دون تصريح به، وكلما حاول التقرب منها تهرّبت منه، وكلما قررت الاستسلام لحبها اختطفه شرير ما، أو فقد ذاكرته أو وقع في غيبوبة. كانت حجة منى هي أنها لا تريد أن تتزوج أدهم بجسدٍ مشوه كجسدها، الذي تلقى عشرات الرصاصات والطعنات والإصابات خلال عملها كضابطة مخابرات، رغم أن أدهم يحمل نفس الإصابات عادي، أمَّا أدهم، فلم يفسر قط سبب إحجامه عن التصريح بالحب ورغبته في الزواج بها. ببساطة ترك العمر يمضي بهما وهما عالقين بلا نهاية في مرحلة "الاستعباط."

غباء مماثل عشناه مع رفعت إسماعيل في روايات "ما وراء الطبيعة" بعدما وقع في حب صديقته الاسكتلندية ماجي، ومع ذلك حصر نفسه في منطقة الفريندزون للأبد بحجة أن ماجي تمثل له معنى مجردًا، مثل الحب والحرية والعدالة، والإنسان لا يتزوج المعاني المجردة وإلا قضى الزواج ومسؤولية البيت والأطفال على روعة الحب، ثم وجد في نفسه البجاحة الكافية ليشعر بالحزن عندما خُطبت ماجي لرجل غيره! ماذا كنت تنتظر بحق السماء!

في روايات (سافاري) نبلغ ذروة السخافة، مع قصة الحب العجيبة بين الطبيب المصري علاء، وزميلته الكندية برناديت -ولع أحمد خالد توفيق بالعلاقات مع أجانب يحتاج مقالاً منفصلاً-، وتنعكس فيها خصائص الرجل المصري الأصيل الذي يتطلع لزوجة أجنبية جميلة رقيقة راقية، من ثقافة مختلفة وتعمل في وظيفة مهمة، وتشكل شريكةً رائعة يتباهى بها، لكنه يريدها راعيةً له مثل أمه وأكثر، ويعاتبها لأنها لم تخيط جواربه الممزقة، ويتشاجر معها لأنها لم تنجز مهام عملها المنزلية، ويخبرها أن الثقافة الغربية خربت مفهوم الأسرة الجميل الذي تتولى فيه المرأة كل شؤون البيت بينما يعمل الرجل بالخارج كما حدث مع أبيه وأمه، ويوشك على تحطيم رأسها حين تتهمه بأنه ميسوجينست (مُعادٍ للمرأة).. أوكي، لماذا تزوجتها في المقام الأول يا حبيبي؟ لماذا لم تبحث عن أخرى تلبي لك رغباتك بدلاً من إجبار شريكتك المختلفة تمامًا عنك على العيش وفقًا لثقافتك؟

إعلان

لم أدرك كل هذا خلال سنوات تشبعي بتلك الروايات، كانت بالنسبة إليَّ رائعة، وربما ما زالت كذلك بالنسبة للكثيرين والكثيرات (وهذا أخطر). في سهرتنا النسائية الأسبوعية، تذكرت صديقتي قصة حب أدهم ومنى، باعتبارها مثلها الأعلى في الحب، لكنني أخبرتها بأنها كانت علاقة سامة غبية، لتتذكر قصة أخرى، وأخرى، وتتحول جلستنا لتذكر كل القصص التي شكّلت فهمنا للحب، لنكتشف معًا هول المأساة التي عشناها.

على الشاشة.. ذلك أسوأ أيضًا
الأفلام السينمائية بدورها لم تتورع عن تقديم المزيد من نماذج العلاقات المسيئة في قالب رومانسي.. فلنتذكر معًا فيلم "تيمور وشفيقة" مثلاً، الذي يحكي عن قصة حب منذ الطفولة بين البطلين، ثم يكبران ليتحول تيمور إلى رجل شرقي متحكم متسلط، يكتم أنفاس حبيبته ويضيق عليها تحركاتها، وعندما يضطرها للكذب لتستمتع مع صاحباتها بأجازة، ينفصل عنها لأنها خانت ثقته. خلال انفصالهما تترقى شفيقة إلى رتبة وزيرة ويُكلف بحراستها لتصبح رئيسته في العمل، وحين تعود علاقتهما العاطفية يطلب منها أن تترك منصبها لأنه لا يستطيع أن يتزوجها وهي رئيسته. ترفض شفيقة، لكن مع تطور الأحداث تتنازل في النهاية عن طموحاتها وتستقيل من الوزارة لتتزوج من سبع البرومبة، وينتهي الفيلم نهاية سعيدة.

لعل الخطر الأكبر من هذه الأفلام والروايات الرومانسية المشوهة، هي أنها تنتهي نهاية سعيدة، ومهما كان طعم السم المدسوس في العسل، فمشاعرنا تتخدر ببهجة المشهد الختامي، ولا نتوقف لنتساءل: كيف ستكون الحياة لاحقًا مع هذه الشخصية السامة؟ على أرض الواقع نجد إجابة لهذا السؤال، في عشرات العلاقات التي تقوم على أساس غير صحي، وتستمر رغم أنف العقل والمنطق، ليعذب طرفاها بعضهما بلا نهاية بدعوى الحب.

إعلان

كم مرة سوقت الأفلام لشخصية الباد بوي باعتباره فارس الأحلام الرائع؟ رأينا هذا في فيلم مثل "أولاد رزق" والذي ألقى فيه الممثل أحمد عز مونولوجًا مطوَّلاً يهدد فيه شارعًا كاملاً لو تجرأ أحد على طلب يد حبيبته، والتي هي ملكه وملكه وحده وسيمزق من يقترب منها، بينما تتأوه حبيبته هذه بإعجاب وتنظر لها صاحباتها بحسد.

كم مرة سوقت الأفلام لفكرة "التمسك بالحب" رغم رفض الحبيبة، ليعود الرجل ويكرر عرضه بالحب والارتباط على امرأة لا تريده؟ في العالم الواقعي نسمي هذا تحرشًا، وتتبعًا ومطاردة. في العالم الواقعي قد يقدم أمثال هؤلاء الرجال على قتلنا كما حدث في قضية نيرة أشرف، لكن الأفلام الرومانسية تقدمهم أحيانًا في صورة الشهداء، والذين ينجحون في تغيير رأي محبوبتهم في نهاية الأمر.. فيلم "أمير البحار" و"عن العشق والهوى" يضم نموذجين لهذا الرجل. 

هذا جزء آخر من الخطورة، فالأفلام التي تربينا كنساء على أن نكون عاشقات طيبات مطيعات تحت رحمة الرجل، وننتظر عاطفته وتغير مشاعره نحونا، تربي الرجال أيضًا على العكس.. تعلمهم أن يحبوا بخشونة و"غشومية" أن يكونوا بخلاء بعواطفهم وإلا كانوا ضعافًا، وتعلمهم ألا يقبلوا بكلمة لا، وتعلمهم أن يفرضوا رأيهم وقراراتهم على العلاقة، وتعلمهم العنف أيضًا ضدنا، وتغذي فيهم الشعور بالاستحقاقية ليتصرفوا على أرض الواقع وكأننا ملكهم، وتمنحهم شعورًا خادعًا بأن كل أفعالهم المؤذية، مثل القسوة والكذب والخيانة وبخل العاطفة، كلها مغفورة، لو كانوا يعلمون بداخلهم أنهم يحبوننا حقًّا.. الروايات والأفلام لا تفرق بين الحب والإساءة، وقد علمتنا هذا بدورنا، نساءً ورجالاً.

هل تنقذنا الصوابية السياسية؟
الرومانسية جزء أساسي من حياتنا كنساء، فرغم تابوه الحب والخوف منه ونصح الفتيات الصغيرات بأن يحترسن من الغرام والرجال (الذين يريدون منا شيئًا واحدًا يجب أن نحافظ عليه ولو بحياتنا)، تنال المرأة الرومانسية حظوة من نوعٍ ما، باعتبار تلك الرومانسية مؤشرًا لرقتها وأنوثتها.. على النقيض يُنظر للمرأة غير الرومانسية نظرة استنكار وكأنها روبوت بلا قلب، رغم أن الرجال غير الرومانسيين حولنا في كل مكان، يتباهون بهذا دون خجل.

هذا التناقض يجعلني أفكر أن الرومانسية كانت أحد أساليب المجتمع لوضعنا في قالب معين، قالب رقيق لطيف مكسور الجناح، ينتظر عاطفة الرجل وحميميته، وفقًا لشروطه ووقته وفهمه للعالم، ومن هنا ولدت تلك الروايات الرومانسية التي تُعد النساء للدور المطلوب منهن، وأن يصبرن على أي شيء في مقابل الحب، وإلا كن غير رومانسيات، قاسيات القلب، أو غير صادقات العاطفة. يضاف هذا إلى رصيد الإنسانية من تمجيد المعاناة في الحب، وإضفاء الرومانسية على قصص الحب من طرف واحد، وانتظار الحبيب إلى الأبد، لنجد أن المجتمع حمّلنا أكثر مما يجب في مسألة الحب والغرام هذه.

في السنوات الأخيرة تغولت الصوابية السياسية في حياتنا، وفي جزء منها كان الانتباه لما يقدم على الشاشة، ومعالجته من منظور نسوي، وهكذا بدأت النسوة تكتسب القوة على الشاشة، بدأت العلاقات تزداد توازنًا في كثير من الأعمال الدرامية، وبدأنا نسمع عبارات مثل "التشويش الإدراكي" والتلاعب والريد فلاجز، للإشارة إلى العلاقات المسيئة.. بالطبع لم تظهر هذه العلامات المبشرة على شاشاتنا السينمائية والدرامية الحافلة بالعنف ضد المرأة، والتمييز ضدها، والتقليل من شأنها، واستخدامها كوسيلة للإهانة، لكن مع صعود الصوت النسوي العربي ربما نأمل في أن يعتدل الحال قليلاً مستقبلاً، ونرى علاقات حب حقيقية.

الرومانسية موضوع جميل للكتابة، والقصص الرومانسية طالما كانت، وستظل أبدًا، مصدرًا من مصادر البهجة والسعادة في عالمٍ قاسٍ يحتاج إلى الكثير من الحب، لهذا علينا الانتباه بعناية لما نقرأه ونشاهده منها، لأن من الحب ما قتل، والعنف ضدنا كنساء في كل مكانٍ، يشجع عليه متطرفون ورجال دين وقوانين ظالمة.. لسنا بحاجة لروايات وأفلام رومانسية مشوهة، تجعلنا مهيئات أكثر لدور الضحية. شبعنا من هذا الدور، وحان الوقت لحبٍ حقيقي، في الواقع والخيال معًا.