مقال رأي

في الذكرى العاشرة للثورة السورية- مَن جلب الجرذان إلى بيوتنا

تعد عقوبة النفي من أكثر العقوبات قسوة لدرجة أنها كانت تستخدم وحتى القرن العشرين بدلاً عن عقوبة الإعدام
IMG_20210307_180727_933 copy
الصورة تعود لعام 2018، مأخوذة من الطريق لخان الشونة، أحد الأسواق القديمة بحلب، ومن المعالم التي تدمرت بشكل شبه كامل خلال الحرب.

يُعرّف المنفى بأنه الاقتلاع القسري لشخصٍ من وطنه، وتعد عقوبة النفي من أكثر العقوبات قسوة لدرجة أنها كانت تستخدم وحتى القرن العشرين بدلاً عن عقوبة الإعدام، فبمفهوم الديكتاتوريات الطاغي ليس بحاجة للقتل بل يلجأ لما هو أكثر تعذيباً، ولعل اجتثاث الإنسان من بيته، أهله، وطنه بقي أصعب ما يمكن أن يمرّ عليه، موت بطيء يعاني فيه من الفقد والوحشة ومرارة الاغتراب، وربما هذا ما جعلني أموت خجلاً عندما سألتني الخالة حسناء: كيف حال بيتكم بدير الزور؟

إعلان

كانت زيارتي الأولى إلى حمص بعد قيام الثورة بسنوات تسعة، فحمص قبل الثورة كانت المكان الهادئ البارد الذي نحلم به نحن سكان المنطقة الشرقية من البلاد، أمّا خلال الثورة طُبعت بذاكرتي كساحات واسعة للمتظاهرين والمتظاهرات، صارت حمص العديّة عاصمة الثورة، ولكن لم يمر كثير من الوقت قبل أن يتم معاقبتها على الحِلم، وتحولت حارات بأكملها إلى ركام.

أخذ مني قرار زيارة أقارب والدتي في حمص تسع سنوات، لتدعوني في يومي الأول هناك الخالة حسناء جارة قديمة لبيت جدي إلى فنجان قهوة في منزل متواضع نزحت إليه بعدما قُصف بيتها في حي الوعر، وهو أحد أحياء مدينة حمص، والذي بقي لسنوات الحي الوحيد الذي تسيطر عليه المعارضة في المدينة. لم تتردد لحظة الخالة حسناء قبل أن تصف لي كيف قُصف الوعر، وكيف تحول لساحة حرب. ومجرد كوني من دير الزور تعني لها بطاقة خضراء لتشتم النظام وتضمن أن أشتمه معها. تعود وتسألني: كيف حال بيتكم بدير الزور؟ كدتُ أموت خجلاً، فبيتنا لم يسقط منه حجراً، أردت الاعتذار منها ومن جميع المنفيين، وأردت البكاء، أنهيت قهوتي وعدتُ إلى دمشق حيث أسكن الآن.

في وسط دمشق المشهد كان مختلفاً، لقد تغيرت هويتها، بالأحرى تم نسف هذه الهوية تماماً، فالبلاد اليوم ثكنة عسكرية، لن تتمكن من ركن سيارتك مثلاً في شارع يسكن به أحد الضباط، شوراع بأكملها لن تستطيع العبور بها "لأسباب أمنية" ولن يقول لك أحدهم قابلني في شارع الملك العادل بل ستسمع عبارة عند "حاجز الملك" للتأكيد على بسط السجّان قوته على الأرض وغَير معالمها. ومع ذلك لا آثار واضحة للحرب في دمشق، وحده الحقد يذكرني بها.

وصلت إلى بيتي وكانت ياسمينة الجيران تكاد تخنقني برائحتها، فأنا لم أعد أحب زهر الياسمين، منذ أخبرتني صديقتي لبنى التي عادت إلى بيتها في حي الوعر صيف 2018: "الحياة هادئة لكننا لا نستطيع فتح الشباك رغم الطقس الخانق وانقطاع التيار الكهربائي فرائحة الجثث تتسلل من النوافذ، إكرام الميت دفنه، ونحن نعيش بلا كرامة فكيف لنا أن نحصّل كرامتنا ونحن أموات." رائحة الياسمين أصبحت تذكرني برائحة الموتى. ولبنى ليست الوحيدة، فالكثير من العائلات النازحة جُبرت على العودة إلى منازلها بعد عمليات التطهير والتحرير أو المصالحة كما أسماها النظام، وهي لم تكن إلّا احتلالاً.

إعلان

في حرستا مثلاً التي تبعد 5 كيلومترات عن مركز العاصمة يرمم السكان منازلهم للعودة إليها بعد سوء الوضع المعيشي في أماكن النزوح، وهنا لا أقصد الوضع الاقتصادي بل أقصد وضع الحياة أن تكون مغترباً وبيتك يبعد عنك بضع كيلومترات، تهجيرك القسري الذي تعيشه حين تكون مجبراً للعبور في حارة طفولتك وأنت ذاهب إلى عملك ولا يمكنك شرب كأس ماء من بيتك.

العودة إلى بيتك في حرستا، ريف حلب، دير الزور وغيرهم الكثير من المدن التي سُحقت وتحولت إلى أنقاض تعني أنك سمحت للقوراض أن تشاركك مؤونتك، تعني أنك سمحت للجرذان أن تنقل من الأمراض ما تشاء، وأن تستعد تماماً لحساسية الجلد، وللأوبئة الغريبة أن تصبح أقل غرابة فهنا تحت ظل ركام الديكتاتورية ستتعرف على الكثير.

أمّا العودة إلى بيتك في ريف الحسكة، فيعني أن تكون مستعداً للمرور على المعبر الحدودي الذي يفصلها عن باقي أوصال سوريا، فالحسكة اليوم هي الكعكة التي تقسمها سكاكين مستوردة من كل بقاع الأرض.

العودة إلى بيتك في الرقة تعني أن تعتاد السواد، أن تحمل أعلاماً على سقف منزلك كتب عليها اسم الله، وتخاف أن تضعها في بيتك فهي شبهة وتهمة لمن استخدموا اسمه بغية حرق الأرض، وتخاف أن تنظر إليها فتتذكر كيف نُحر أخاك أو صديق قديم لك.

في سوريا ستتعلم أن المثل الشائع "بالحجر ولا بالبشر" كذبة، فنحن نريد أن نعود إلى بيوتنا حتى لو كانت محض تراب، تكفينا جدران أربعة نعلّق عليها صور ضحايانا. نريد أن نعود لنرمم بيوتنا بالهزيمة، نسكن بداخلها لتشكل لنا سجوناً جديدة فالارتباط بالوطن لعنة السجن الكبير، والحنين لبقعة عشنا فيها كاد يقتل من رفضوا ترك منازلهم، لا بل قتل الكثير ممن فضّلوا عقوبة الإعدام والموت السريع، على انتظار موتهم في ساعة رملية اسمها النفي.

إعلان

مؤخراً انتشرت ظاهرة جديدة وكأنها مجرد سائل لاصق نضعه بين ذكريات طفولتنا وصورة الوطن المشتهى، يكفي أن تمشي بأي سوق من الأسواق لتجد الكنزات البيضاء، الأكواب، فناجين القهوة، اللوحات الخشبية وقد رُسم عليها بخط عربي أسماء مدننا، لنقتنيها ونحتفظ بذكرى الوطن الذي كان.

في البدء ظننته مجرد تريند سيختفي مع ظهور تريند جديد، حتى أدركت أن كل ما بقي لنا من الوطن هو مجرد أسماء وصور تتراءى لنا في مخيلتنا عند الانهيار، وربما هذا ما دفع حبيبة صديقي أن تهديه قلادة فضية تحمل رسماً لجسر معلق - بالإشارة إلى الجسر المعلق فوق نهر الفرات في دير الزور، والذي تم تدميره خلال الحرب. لم يعد الجسر معلقاً بدير الزور بل بات معلقاً على صدورنا.

مرّ عقد كامل على ذكرى الثورة السورية التي قامت من أجل الحرية والكرامة، نتذكرها مثلما نتذكر شوارعنا، هناك كانت مظاهرة، وهذا الشارع كان صاخباً بالحياة وأصوات الأطفال، وهذه الزاوية كانت مكاناً للقبلات المسروقة، وهنا في القلب غضب عميق على خساراتنا واندثار حكاياتنا.

نعود إلى أنفسنا كل ليلة ولا تغيب الثورة عن ذاكرتنا، حين قلنا للعالم كله من بيوتنا ومن ساحاتنا أننا نريد الحرية والكرامة، كل ليلة نعود ونتذكر من غيّب وجه البلاد، من جلب الجرذان إلى بيوتنا ومن جعل من مدننا مجرد أسماء مرسومة على مقتنياتنا.

الكاتبة اختارت اسماً مستعاراً.