رسالة حب إلى "الدولمة"

تقوم أسيل العيسى بلف عدد من الأوراق الخضراء الطازجة على شكل سيجار رفيع، وتبيع منتجاتها للزبائن المتحمسين والتواقين لها. تَخصص العيسى هو عمل "الدولمة" أو أوراق العنب المحشية المفضلة في جميع أنحاء الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأبيض المتوسط. مشاهدة العيسى وهي تقوم بملء أوراق العنب بخليط الحشو ولفها باليد، يجعلني استرجع ذكرياتي حين كنت ما زلت طفلة أحبو على الأرض، حيث أن أمي كانت تفعل نفس الشيء بالضبط، وكان ينتابني شعور مماثل من الترقب والإثارة لما يعنيه كل هذا: إنه يوم الدولمة.

إذا لم يصدف أن تذوقت "الدولمة" فدعني أقول لك أنها عبارة عن قطعة من السعادة مكسوة بورقة عنب، محشوة بخليط من الأرز والطماطم والأعشاب واللحم المفروم - هناك اختلافات بسيطة في الحشوة من بلد لأخرى. يتم تقديم أوراق العنب المحشوة في بعض الدول بارداً، والبعض الآخر ساخناً، وهناك من يقوم بإستبدال الخضار باللحوم.

عمل الدولمة يحتاج الى الكثير من الوقت للتحضير، ولهذا تفضل والدتي الآن شراء الدولمة الجاهزة للطبخ بدلاً من قضاء ساعات في حشوها ولفها. نحن نحصل على أوراق العنب المحضرة من أسيل (تاجرة الدولمة الخاص بنا)، وهي أمّ لطفلين تعيش في جنوب غرب لندن، حيث تدير عملها الذي اختارت تسميته بـ "تبسي أي صحن" في مجال تقديم اطباق الطعام الشرق الأوسطي. وهل تعرفون ما هو طلبها الأكثر رواجاً؟ إنه الدولمة، بالطبع. "يطلب الكثيرين مني تحضير الدولمة لتقديمها في التجمعات والحفلات؛ ولأنه يستغرق وقتًا طويلاً لصنعه، فهو طبق مميز لتقديمه في الموائد للضيوف،" تقول أسيل.

قمت بزيارة أسيل في منزلها لمعرفة كيف تصنع الدولمة، فقد كانت تستعد لتحضير هذا الطبق لتسليمه لمنزل أحد الزبائن في ذلك المساء. مرت عدة ساعات وأنا بجوار أسيل، التي بدأت بالتحضير لهذه الطبخة في الليلة السابقة. الحشوة عبارة عن خليط من لحم الخروف المفروم والأرز والطماطم المخفوقة والبقدونس مع عصير الليمون والتمر الهندي ودبس الرمان. "تحتاج الحشوة إلى أن تمتص جميع العصائر؛ لذلك أتركها لمدة ليلة كاملة،" تخبرني أسيل. في حال أراد الزبون طبق من الدولمة باللحم، فسيتم اضافة قطع من لحم الضأن المقطعة أو المضلعة الى أوراق العنب المحشوّة وقشور البصل المحشوة - هذه هي الطريقة العراقية، كما تقول. "العراقيون يحبون البصل المحشي، ويسألون دائمًا، هل يمكننا الحصول على المزيد من البصل؟"

بعد الإنتهاء من التحضير، تضع أسيل اللحمة ومن ثم أوراق العنب في الطنجرة، وتشرح قائلة: "هذا يمنع الدولمة من الالتصاق في المقلاة." ومن ثم تقوم بصب صلصة الطماطم المحضرة في المنزل فوق أوراق العنب، وتقوم بطهوها لمدة ثلاث ساعات. هذه هي طريقة عمل الدولمة العراقية الكلاسيكية، ولكن هناك أشكال مختلفة لتحضير الدولمة تعتمد على البلد والمنطقة. لدى تركيا انواع متنوعة من المحاشي – واحد منها يطلق عليها اسم السارما (من الكلمة التركية سرمك sarmak التي تعني لفة)، حيث يتم لف أوراق العنب بشكل رقيق. في هاتاي، وهي إحدى محافظات تركيا، وعاصمتها مدينة أنطاكية تحظى لفائف ورق الكرنب بشعبية كبيرة، ويتم تقديمها مع اللبن الزبادي المعروف باسم لبن دولماسي ( lahana dolmasi).

وفي أشهر الشتاء بأذربيجان يمكنك الاستمتاع بدولمة الكرنب الملفوف Cabbage dolma أو kalam dolmasi. عمل الدولمة له طريقته وفنه وطقوسه، لهذا في عام 2017، تم الاعتراف بها كتراث ثقافي غير مادي للبشرية من قبل اليونسكو، وتم إصدار طابع بريدي عن هيئة البريد أذربيجان تحمل صورة طبق الدولمة. لديهم أيضاً نسخة خالية من اللحوم يتم تسميتها على سبيل المزاح باسم "الدولمة الزائفة fake dolma."

"الدولمة اليونانية، والقبرصية يتم لفها أكبر قليلاً من أبناء عمومتهم في الدول العربية،" يقول جون غريغوري سميث، الخبير والكاتب في مجال الطعام الشرق الأوسطي ويضيف: "هناك اختلافات طفيفة في طريقة تحضير الدولمة من بلد لأخرى، وهذا ما يجعل الدولمة طبقاً متنوعاً وجميلاً. البعض يستخدم الكوسا الصغيرة، أو الباذنجان، أو الفلفل؛ لأن أوراق العنب غير متوفرة على مدار السنة."

في بلدان عربية أخرى مثل سوريا ولبنان تتم تغطية الدولمة بزيت الزيتون ولا يتم تقديمه ساخناً، ويطلق عليه دولمة بزيت الزيتون. المزيج من أوراق العنب، واللحم المفروم، والنكهة الحمضية من عصير الليمون، وهو ما يجعل طعم الدولمة رائعاً. "الدولمة تمثل روح الشرق الأوسط، وقد انتشرت في مناطق أخرى .. إنه نشر الثقافة من خلال الطعام،" يضيف سميث.

كوني نشأت في عائلة عربية، كانت الدولمة بالنسبة لي حدثاً مهماً - كنت أعرف أن شيئًا كبيرًا يتم تحضيره من خلال الروائح والصخب القادم من المطبخ، وهذا هو ذات الشعور الذي يتذكره من طفولته الطباخ العراقي البريطاني فيليب جمعة، مؤسس نادي "مطبخ جمعة JUMA Kitchen الذي يتخذ من لندن مقرا له: "كنت أعلم أنه اذا سمعت أصوات الضحك والضوضاء قادمة من المطبخ، فهذا يعني أن أبي وعمّاتي يحضرون الدولمة."

تعلّم جمعة أن يصنع الدولمة من والده، ويحافظ على تقليد البصل المحشو (يدعي البعض أن البصل المحشو هو اختراع عراقي أصيل كما يقول جمعة). ولكن الاختلافات الإقليمية يمكن تُحدث تغييرات في الوصفة، وتسبب الكثير من الجدل. "عائلتي من الموصل؛ لذلك نصنع دولمة بطريقة مختلفة. لقد انتقدني بعض الزبائن لأنني لا أستخدم الطماطم،" يقول جمعة.

يميل هذا الطبق المحبوب إلى جعل الناس يحافظون بشدة على تقاليدهم في الطهو والثقافة، كما يشير سميث، الذي يقول ضاحكاً: "لقد تم انتقادي كثيراً من قبل الأمهات العربيات اللواتي اعتبرن أن أوراق العنب التي أقوم بحشوها كبيرة جداً."

يستخدم كل من سميث وجمعة نفس الكلمة لوصف تجربة أكل الدولمة: المأدبة. فهناك عنصر احتفالي بالطريقة التي يتم تحضير وتقديم أوراق العنب، مع قلب الوعاء رأساً على عقب على طبق كبير ورفعه ببطء ليكشف عن طبقات من قطع الدولمة المتبخرة، وغالبًا مع اللحم الطري الذي "يسقط حرفياً من العظام،" كما يقول جمعة. "كلما أقوم بقلب طنجرة الدولمة، يعيدني ذلك إلى ذكريات والدي في المطبخ الذي كان يطرق الطنجرة بملعقة خشبية كما لو كان يقول:" يلا، الطعام جاهز." يتابع جمعة: "بعد ساعات من التحضير، يتم أكل الدولمة خلال دقائق، وهذا يلخص تجربة تناول الطعام في الشرق الأوسط: أنت تقضي ساعات في إتقان وطهي الطعام، لينتهي الأمر كله في لحظة."

تتفق أسيل مع جمعة وتقول مازحة: "نحن نقتل أنفسنا خلال صنع هذه الأطباق.. لكن الأمر يستحق ذلك. سوف يظل طبق الدولمة دائماً له نكهة خاصة لأنه مرتبط بالمناسبات والجمعات العائلية، كنوع من الاحتفال بهذه اللقاء. يمكن لعشاق الدولمة في جميع أنحاء العالم أن يقرّوا بذلك: تناول هذا الطبق المتنوع يجعل بطنك وقلبك ممتلئًا."