كل تلك التفاصيل التي أحبها في عاشوراء

عندما نتحدث عن الإحتفال بذكرى عاشوراء، فالصورة التي قد تأتي على بالكم قد تكون عبارة عن رجال يضربون رأسهم بآلة حادة حتى يخرج الدم فيما ما يسمى بالتطبير تعبيراً عن حزنهم على مقتل الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، وعائلته. ولكن في الضاحية الجنوبية لبيروت في لبنان، حيث عشت لـ23 عاماً، الصورة مختلفة تماماً. في الواقع، نسبة قليلة جداً تمارس "التطبير" فعاشوراء ليست مناسبة دينية فقط، بل هي مرتبطة أيضاً بالتضامن والمحبة والشجاعة -وبالطبع الكثير من الطعام.

خلال عاشوراء يحيي المسلمون وبالأخص التابعين للمذهب الشيعي ذكرى معركة كربلاء سنة 61 هجريًا التي قتل فيها حفيد النبي محمد "الحسين" وعائلته وأصحابه وسبيت نسائه، وهذا بعد أن تمت محاصرتهم ومنع المياه عنهم لعشرة أيام. تبدأ الإحتفالات بهذه المناسبة في أوّل شهر محرّم والذي صادف 31 أغسطس من هذا العام، حيث يتذكر المؤمنون الحادثة من خلال إقامة مجالس العزاء، وارتداء الملابس السوداء وسرد القصة كما حدثت كل يوم بيومه، ويستمر هذا الحزن لمدة أربعين يوم، أي حتى "أربعين الحسين." من الطبيعي أن ترى جميع أهالي الضاحية يرتدون الأسود، مع شال أخضر أحياناً، حيث يعتبر الأخضر لون الملابس في الجنّة بحسب بعض الروايات الدينية.

خلال عاشوراء تنتشر بعض الخيم السوداء تزينها آيات قرآنية وأدعية يُحضر فيها بعض الشباب طعاماً للناس من دون أي مقابل -كعادات مجالس العزاء في العالم العربي، ولكن بشكل أكبر. يخبرني المشرف على خيمة الطعام أنّهم يحضرون طبخة كل يوم لمدة أربعين يوماً: "اليوم بازيلا ورز، والبارحة كان هناك بطاطا حرّة، وغداً بيض ولحمة… نحن نقوم كل ما بوسعنا لنطعم الجميع." ويشير المشرف إلى أن التمويل يأتي من خلال صناديق التبرع والتي توزّع الأموال منها على مجالس العزاء، والخيم، والفقراء: "كله عن روح الحسين" كما يقول.

الماء هو بلا شك أهم عنصر في هذه المناسبة. فخلال معركة كربلاء، حُرم الحسين وأهله وأصحابه من المياه، وخاضوا المعركة من دونه، ولذلك، فتوزيع المياه هو أمر مهم جداً، كما يتم توزيع الشاي بالإضافة إلى البونجيسة اللبنانية الشهيرة المعروفة بالـ"هرم" وهي عبارة عن عصير في علبة مثلثة، يوزّع بالعدة في المناسبات ومجالس العزاء.

وطبعاً، الجزء المفضل في هذه المناسبة هو الطعام. لا تكتمل عاشوراء بدون "كعك أبو فضل العباس" والذي يحضّره الأهالي من الطحين والسكر واليانسون والزيت، والتي توزّع حُباً بشقيق الحسين "أبو فضل العبّاس" والذي استشهد في اليوم السابع من المعركة. وشخصية العبّاس مهمة جداً عند المؤمنين لأنّه استشهد حينما ذهب لجلب المياه لعائلته وأصحابه، وبالنسبة للكثيرين يمثّل الشجاعة والقوة.

الأكلة الثانية هي الهريسة التي تحضر من القمح والدجاج واللحوم، وهي تعتبر من أقدم الأطباق اللبنانية، بحسب بعض الروايات، حيث كانت تحضّر بسبب كثرة القمح في المنطقة. وتحضَّر الهريسة بشكل جماعي في مكان مكشوف، ويتشارك الجميع في طهيها حيث يتم تحضيرها بكميات كبيرة في اليوم العاشر من عاشوراء لتوزّع على الناس على الطرقات وفي المجالس والمنازل. وبحسب الروايات، تحضّر الهريسة لأنّ زينب بنت علي، أخت الحسين، كانت قد أعدّتها للأولاد والنساء بعد انتهاء المعركة، وبهذا أصبحت هذه الطبخة من أساسيات عاشوراء.

وأخيراً، اعتاد اللبنانيون على توزيع البكسويت وراحة الحلقوم، وهي عادة اجتماعية وليست دينية، لا نعرف من وكيف بدأت، فأنا أتذكرها منذ الطفولة، حيث تقوم جدتّي بتحضيرها من الصباح الباكر. وكما في كل عام، حضرت لي جدتي tupperware مليء "بالبسكوت والراحة" وطلبت منّي أن أوزعها لزملائي في العمل عن روح الحسين.

من العادات الدينية الأخرى، هي مجالس العزاء، والتي تُروى بها قصة كربلاء كاملة، ويصطحبها الدعاء والبكاء واللطم، والتي غالباً ما تتم على أناشيد خاصة المعروفة بالـ"ندبيات" أو "اللطميات" وهذه العادة تكون للنساء والرجال منفصلين- واللطم هو الضرب على الصدر تعبيراً عن الحزن.

في اليوم الأخير أي اليوم العاشر حينما تنتهي المعركة باستشهاد الحسين، تُنظم مسيرات كبرى تُذاع فيها قصة استشهاده مع رثائيات وتتبعها لطميات. وأذكر جيداً كم كان أساسياً الاستيقاظ باكراً في اليوم العاشر، لنتمكن من مشاهدة المارة من الشرفات، ترافقهم الأناشيد عبر مكبرات الصوت. ودخلت منذ بضع سنوات عادة جديدة وهي التبرع بالدم بمناسبة عاشوراء، وهي حملات تنظمها جمعية Who Is Hussain حيث جاءت العادة بهدف محاربة عادات التطبير.

سواء كنت متديناً أم لا، تمثل عاشوراء نوعاً من "النوستالجيا" لكل من عاش في هذا المحيط. ومهما تغيرت نظرتك للأمور، ستبقى لهذه المناسبة لها أهمية ثقافية بالإضافة إلى الدينية وسيبقى هناك سعادة خاصة حينما يوقفك صبي صغير ليقدّم لك الماء والهريسة والشاي وستشعر بـ"vibes" الحب حينما ترى الخيم التي توزّع الأكل والماء على المارين.