تحقيقات

بعد 5 أيام من العدوان الإسرائيلي... ما الذي حدث في غزة، وما آثاره على المواطنين؟

"تم قصف منزلنا بصاروخ واحد. صاروخ واحد كان بكفي لتدمير مأوانا إللي بنيناه من سنين"
آثار استهداف مبنى سكني من ثلاث طوابق والأشجار المحيطة به

آثار استهداف مبنى سكني من ثلاث طوابق والأشجار المحيطة به - جميع الصور من تصوير سالم الريس

كنت أجلس مع أصدقائي مساء الاثنين، ٨ مايو من الشهر الحالي، في سهرة تخللها الجد والمزاح، في منزل صديقي بالقرب من الحدود الشرقية لمدينة غزة. تمحورت الجلسة حول تصعيدات إسرائيلية سابقة على القطاع، ومشاهد رأيناها وتابعناها خلال عملنا الصحفي في السنوات الماضية. لكننا لم نكن نعلم أنّ ساعة الصفر لدى الاحتلال قد حانت لجولة عسكرية جديدة ستبدأ بعد عودتنا لمنازلنا بدقائق، وفي الساعات الأولى من اليوم التالي.

وصلت إلى منزلي وسط المدينة الساعة الثانية فجر الثلاثاء ٩ مايو. لم تمر سوى بضع دقائق عندما سمعت صوت سقوط صاروخ وانفجار بالقرب من منزلي. هرعت نحو شباك المنزل المطل على الشارع محاولاً تحديد مكان الانفجار. التقطت الهاتف وفتحت المجموعات الإخبارية الخاصة بنا كصحفيين نتواصل من خلالها في أوقات الحروب والأزمات في قطاع غزة، ورأيت كتلة دخان معاكسة، على مسافة لا تزيد عن ١٠٠ إلى ١٣٠ مترًا من مكاني.

إعلان

كان الانفجار ناجم عن صاروخ إسرائيلي استهدف شقة في مبنى سكني وسط المدينة، ما أدى إلى اقتلاع الشقة والشقق المحيطة بها، والتي يسكنها مواطنون فلسطينيون وأطفالهم وزوجاتهم. وصلت في اللحظات الأولى في المنطقة المستهدفة وسمعت صرخات من على شبابيك المباني المجاورة، وكان الأسفلت مغطى ببقايا زجاج مهشم وأتربة والكتل أسمنتية. كما اشتعلت النيران في الطابقين الأخيرين من المبنى السكني.

استهداف شقة في بناية سكنية تم اغتيال فيها قيادي بسرايا القدس.jpg

استهداف شقة في بناية سكنية تم اغتيال فيها قيادي بسرايا القدس

باشر الدفاع المدني عمله بمساعدة الطواقم الطبية في البحث عن المدنيين الذين أصيبوا أو فقدوا أرواحهم. شاهدت عدة أجساد لنساء وأطفال، على الأغلب فقدت الروح وتبقى الجسد، تم وضعها في سيارات الإسعاف التي هرعت بهم إلى المستشفى. حاولت التواصل مع زملاء، إلا أن شبكة الهاتف الخلوي كانت قد تضررت فعل الحدث.

خلال تواجدي أمام المبنى المستهدف وبعد وصول سيل من الصحفيين والصحفيات، التقيت بزميل أكد لي أن هذا الاستهداف الأول، وهناك استهداف ثاني في المنطقة الشرقية، بالقرب من المكان الذي كنا نسهر فيه، وآخر في مدينة خان يونس جنوب القطاع، وجميعها منازل سكنية. تأكدنا من أننا أمام عدوان إسرائيلي جديد، ولا نعلم ما الذي سيحدث، وإلى متى سيمتد.

كانت الاستهدافات الثلاث الأولى التي ذكرتها، عمليات اغتيال لثلاثة من قيادات سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة. تم اغتيال بعضهم برفقة زوجاتهم وبعض من أبنائهم، كما قتل بعض من السكان المجاورين لمنازلهم. أسفرت عملية الاغتيال عن مقتل ١١ فلسطينيًا، بينهم ٤ أطفال و٣ نساء.

استمر التصعيد الإسرائيلي ٥ أيام، بعد أن أطلقت سرايا القدس عشرات الصواريخ محلية الصنع من قطاع غزة باتجاه المستوطنات الإسرائيلية المحاذية للقطاع، وصواريخ أخرى بعيدة المدى وصلت إلى مشارف تل أبيب والقدس خلال عمليات الرد. كما استهدف الجيش الاحتلال الإسرائيلي عشرات المنازل من مختلف مناطق القطاع.

إعلان

استمر عملي وزملاء وزميلات المهنة في تغطية الأحداث طوال الفترة لمدة خمسة أيام بلياليها. اعتلينا الأبراج المرتفعة لتغطية الأحداث، كما ذهبنا لتغطية استهداف المنازل والوحدات السكنية.

استهداف إسرائيلي لأحد البنايات من أعلى البرج.jpg

استهداف إسرائيلي لأحد البنايات من أعلى البرج

تضررت ٢٠٤١ وحدة سكنية، منها ٩٣ وحدة سكنية دمار كلي، و١٢٨ لا تصلح للسكن، نتيحة للعدوان الإسرائيلي، بحسب ما أعلن المكتب الإعلامي الحكومي بغزة. فيما قالت وزارة التنمية الاجتماعية: "إن ٤٥٩ أسرة أصبحت بلا مأوى، ويمثلون ٢٥١٦ فرد، منهم ١١٨٠ طفل و ٦٨٨ من النساء."

كانت تسكن أم إبراهيم أبو خاطر، ٥٣ عامًا، مع زوجها وأبنائها في منزلهم المكون من ثلاثة طوابق سكنية في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة. في مساء يوم الخميس، ثالث أيام العدوان، كانت العائلة مجتمعة في منزلهم، ينتظرون استقرار الأوضاع في غزة لإتمام عقد قران نجلها الثاني، حيث كان من المقرر في اليوم التالي أن يتم ذلك.

"اطلعوا من البيت، الجيش كلمنا وبلغنا بدهم يقصفوا بيتكم الآن." كانت هذه هي الجملة التي سمعتها عائلة أبو خاطر من عدة جيران في اللحظات الأخيرة ما قبل استهدافهم. وكان الجيش الإسرائيلي قد اتصل بالعديد من سكان الحي وطالبهم بإبلاغ جميع السكان بمغادرة منازلهم والابتعاد عن منزل عائلة أبو خاطر.

إعلان
ام إبراهيم ابو خاطر على ركام منزلها.jpg

أم إبراهيم أبو خاطر على ركام منزلها

تحكي أبو خاطر: "ما بعرف كيف طلعنا، بدون تفكير، بدون ما نقدر نحمل اشي بايدنا. تركنا كل مالنا وحالنا وعفش البيت، وفقط تأكدنا إنه كل أفراد العائلة صارت خارج منزلنا. وبالفعل بعد ساعة من الإخلاء، تم قصف منزلنا بصاروخ واحد. صاروخ واحد كان بكفي لتدمير مأوانا إللي بنيناه من سنين، في كل طابق شقتان." وكان يسكن البناية ثمانية أشقاء مع أبنائهم وزوجاتهم، وشقيقاتهم من ذوات الإعاقة.

"خواتي ٥ عندهم إعاقات مختلفة بين عقلية وذهنية، و٤ من أشقائي بعانوا من إعاقات أيضًا، وكلنا عنا أطفال. في البناية نسكن أكثر من ٥٠ فرد. دمروها بشكل كامل. فيها مالنا وأدويتنا وملابسنا. واليوم احنا مشردين بين بيوت أقاربنا"، يقول خالد نبهان، ٣٧ عامًا.

قبل عملية استهداف المنزل، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد اتصل على خالد الذي لم يكن متواجدًا في المنزل. هرع خالد إلي المنزل فور المكالمة وصرخ من بعيد "اطلعوا من البيت بدهم يقصفوه." يروي خالد شعوره بعد تلك الحادثة: "حاسس حالي بصدمة أو حلم، ما بقدر أنام. كل ما بحاول أنام بالليل بتذكر لحظة ما كلمني الجيش وما أعطاني وقت كبير لإخلاء البيت. كنت بتخيل لو تم استهداف بيتنا قبل ما نقدر انطلع خواتي وزوجاتنا وأطفالنا."

آثار الدمار التي لحقت بمنزل أبو خاطر والمنازل المجاورة.jpg

آثار الدمار التي لحقت بمنزل أبو خاطر والمنازل المجاورة

لا تختلف الطريقة التي تم فيها إخلاء منزل عائلة أبو خاطر ومنزل عائلة نبهان عن غيرهم من عشرات المنازل والعائلات التي كانت تسكنها. إلا في حال كان هناك هدف ثمين، مثل عملية اغتيال، لا يتم الاتصال بأحد. وتكون عملية القصف بشكل مباشر ودون سابق إنذار. تسبب الهجوم في مقتل ٣٣ فلسطينيًا، بينهم ٦ أطفال و٣ نساء، خلال فترة العدوان، بحسب ما أعلنت وزارة الصحة في غزة.

وعلى جانبٍ آخر، استهدفت الصواريخ الإسرائيلية عشرات الدونمات الزراعية والتي كان ينتظر أصحابها المزارعين جني ثمار الموسم الذي يعتاشون من عائده طوال العام. 

إعلان

قابلت بدر صبح، وهو مزارع يبلغ من العمر ٣٣ عامًا، ويعمل مزارعًا منذ سنوات، حيث كان يزرع ٣٠ دونم بفاكهة البطيخ، التي حان موسمها في الفترة الحالية.

يقول بدر أنه لم يتمكن من زيارة أرضه الزراعية، وهي قريبة من الحدود الشرقية لمدينة خان يونس. ويضيف: "ما قدرت أروح الأرض وأسقي البطيخ خلال الـ٥ أيام. ولما انتهى العدوان الإسرائيلي، وزرت الأرض، شعرت بالصدمة لما عرفت أنهم مستهدفين أرضي بصاروخ حربي دمر الأرض وغالبية ثمار البطيخ الذي كان من المفترض أن أبيع منه في هذا الموسم من العام."

هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تدمير مزروعات صبح، الأمر الذي تسبب في تراكم الديون عليه خلال السنوات الأخيرة. 

يتابع بدر: "صار عمري ٣٣ سنة ومش قادر أتزوج ولا ابني بيت. وأصحاب الديون بهددوني يقدموا فيا شكوى للشرطة لأنني لا أستطيع سداد الشيكات المتراكمة دون قدرتي على السداد." يشعر بدر بخيبة أمل واحباط كونه يواجه الخسائر دون أن يتمكن أحد من تعويضه عن الخسائر التي لحقت به.

وأكدت وزارة الزراعة أن عدد الخسائر التي تكبدها القطاع الزراعي خلال عدوان شهر مايو الحالي بلغت نحو ٣ مليون دولار، حيث تضررت قرابة ٦٠٠ دونم مزروعة بالخضار والفواكه. وبلغت خسائر مزارع الدواجن والمواشي ومربي النحل قرابة ٢٢٥ ألف دولار.

ولم يتمكن المزارعين والصيادين في قطاع غزة من عمليات التصدير للخارج بسبب القرار الإسرائيلي خلال فترة العدوان بإغلاق البحر أمام حركة الصيد، وإغلاق معبر كرم أبو سالم التجاري، وهو المعبر الوحيد الذي يُسمح من خلاله بالتصدير إلى خارج قطاع غزة.

وكانت قد أعلنت مصر عن التوصل إلى تهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل في القاهرة، مساء السبت ١٣ مايو الماضي، بعد الاتفاق على وقف استهداف المدنيين، فيما لم يلتفت أحد للحدث عن عمليات تعويض مادية أو نفسية لحقت بأكثر من ٢ مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة رهينة القتل والدمار.