يقال أن "للمدن أرواح" وبالنسبة لدبي في الإمارات العربية المتحدة، تظهر روح هذه المدينة بأهم حدث فني بها "آرت دبي" الذي انطلق بنسخته الـ 13 في العشرين من هذا الشهر واستمر لمدة ثلاث أيام (20-23 مارس) بمشاركة 500 فنان من 80 دولة.
منذ بداية جولتي في قاعات المعرض، واروقته الخارجية والداخلية، كانت هذه الروح واضحة بترتيب قاعاته وبالهالة المحيطة بالحضور والأعمال المعروضة. فدبي كونها بقعة قُدر لها أن تحتضن ثقافات وجنسيات متنوعة بشكل كبير، وباعتبارها أيضاً مركزاً للتجارة والأعمال بالمنطقة، فروحها تأتي كخليط من هاتين العاملين، مع الكثير من الرفاهية والكثير من الحداثة والنظرة "المستقبلية،" فيما تأتي الثقافة المحلية الإماراتية كزينة لكل هذا الخليط. ومن هنا تأتي تفاصيل المعرض، منطقية جداً، فـ آرت دبي الذي يضم 4 أقسام هي (المعاصر، والحديث، وبوابة، والفنانين المقيمين)، كان التركيز الأكبر بالمعرض لصالح قسم الفن المعاصر، والذي ضم هذا العام 59 عملاً من 34 دولة.
إعلان
والفن المعاصر، أو فن ما بعد الحداثة، يضم اتجاهات الفنون في الفترة من 1960 وحتى وقتنا الحالي. ومدارس الفن المعاصر تتقبل كل شيء للتعبير عن الأفكار، وهي مستقبلية وحداثية بشكل كبير، بعيداً عن الفن التصويري أو الانطباعي أو التيارات الأخرى التي كانت ترى أن على الفن الإلتزام بإرشادات وخطوط تأطيرية معينة ليعتبر "فناً لائقاً." وبشفافية وبدون تجميل للحقائق، فمن ناحية يرى البعض أن الفن المعاصر يأتي بكل من "هب ودب" على الفن، وهو ما قد يعتبر سلبياً بعض الشيء، خاصة لشخص تعنيه الانتقائية بشكل كبير. ولكن من ناحية أخرى، يزيل الفن المعاصر النخبوية عن الحركة الفنية، فلا تعود حصراً على فئة معينة.
وباعتباري شخص ناقد بطبعه، ابتداءً من الطعام إلى الأفلام وحتى الموسيقى، لا بد أن يكون لدي رأيي النقدي في الفن عموماً، وفي المعرض خصوصاً. ورجوعاً للفن المعاصر، وهو كما يستدل من اسمه فهو يعاصرنا، ويستمد مادته من زمننا، وبالتالي فمن الطبيعي أن تصبح التكنولوجيا من أدواته. وقد جاءت بالطبع أعمال بعض الشباب من جيل الألفية للتعبير عن هذا العصر. ولكن لم يكن سهلاً التواصل مع الفنانون من جيل الألفية العرب، فكان جزء ليس بالقليل منهم مشغول "باللعب" حرفياً، ففي بعض الأجزاء من المعرض، شعرت بأني في "فُرصة" مدرسة. وبينما صورة الفنان في رأسي – تنميط للأسف – بالشخص الهادئ والمتزن والمتأمل، كان هؤلاء مشغولون بهواتفهم وبصورهم. وعبثاً أقنعتهم بالتحدث باللغة العربية، وكما قالت لي إحداهن "نحن الـ millennial واللغة العربية لا نتفق كثيراً." وهو ما وجدته مؤسفاً، كونهم يعرضون أعمالهم في محفل هام جداً بالمنطقة، وأقل ما يقدموه هو أن يتمكنوا من شرح أعمالهم باللغة العربية.
إعلان
وبالحديث عن جيل الألفية، الذي كان حاضراً بالمعرض بإيجابياته وحداثته ونظرته المستقبلية. وبجوانبه الأخرى أيضاً، الرفاهية كذلك كانت حاضرة بجوانبها المختلفة. وهذا ما آراه منطقيا كذلك، فحينما تفكر بدبي، فلا بد أن تخطر الرفاهية بتفاصيلها في بالك. وبالتالي وجود قاعة مخصصة لشركة "بي ام دبليو" للسيارات في معرض فني، لم يكن مستغرباً بالنسبة لي. القاعة خصصتها الشركة لعرض سياراتها "الفنية" والقصة كما قيلت لي، أن هذه السيارات الخاصة بالسباق تم الرسم عليها من قبل فنانين مختلفين في العالم، وأن المشروع لم يبدأ كفكرة تسويقية "جهنمية" كما افترضت، وإنما كان بطلب خاص لأحد المتسابقين في 1975، والذي أراد من أصدقائه الفنانين الرسم على سيارته، ليخلق بذلك تقليد استمرت الشركة باتباعه على مدى عقود. وعرضت القاعة مجموعة من النماذج الصغيرة لسيارات BMW التي تم الرسم عليها من فنانين تشكيليين من حول العالم. وبرأيي تمثل القاعة نموذج لا بأس به للتصالح بين الشركات العابرة للقارات، وهي صميم الرأسمالية، مع الفنون والألوان والفردية بعيداً عن الاستهلاك فقط. السيارات الفارهة لم تكن وحيدة في آرت دبي، فشاركتها الحضور قاعة مخصصة للمجوهرات والساعات الثمينة.
عودة للفن كما أعرفه، بعيداً عن السيارات والمجوهرات. في قسم "بوابة" في آرت دبي عرضت مشاريع فنية فردية لعشرة فنانين ينتمون هم أو تنتمي أعمالهم لمناطق أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا الوسطى والجنوبية. وكانت تتمحور مواضيع الأعمال حول الاستعمار والتجارب المعاصرة. هذا القسم كان من أقسامي المفضلة بالمعرض. وبالأخص كان من أجمل الأعمال برأيي مجموعة صور لـ هوزيه شامبل، المصور الذي يعيش ويعمل في البرتغال، وتعكس أعماله أصوله الإفريقية بطريقة توثيقية.
إعلان
كذلك، كان من جماليات التسكع في "آرت دبي" الحضور النسوي المتواجد بشكل متكامل، بدءاً من الأعمال التي ناقشت النسوية بطريقة أو بأخرى. وحتى الفنانات المشاركات بأعمال متنوعة، ومسؤولات الأقسام وحتى الحضور الذي كان الحس الأنثوي به حاضراً بشكل جميل جداً، وخاصة وجود الفنانة التشكيلية الفلسطينية المقيمة في نيويورك سامية حلبي التي نالت لوحاتها الكثير من الانتباه.
أيضاً ومن أقسامي المفضلة بالمعرض، كان جزءا يستعرض صور خاصة من مجموعة الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي. هذه الصور التي أتى معظمها من الستينيات، ووصفها القائمون على القاعة بالنادرة، تستعرض جوانب من الحياة اليومية بالإمارات قديماً، من التعليم إلى نقل المياه وغيرها.
آرت دبي يمثل كمعرض جزء من حركة فنية وثقافية متنامية بالإمارات، وإن كانت حديثة إلا أنها تحظى بدعم واهتمام. ويشهد شهري مارس وأبريل 2019 موسم دبي الفني، الذي يمتد على بقعة جغرافية واسعة ومتنوعة في دبي. وككل حركة فنية وثقافية ناشئة لا تكتمل إلا بنضوج حركة النقد الفني المقابلة لها، وهو الجزء الذي يحتاج لتسريع نموه للحاق بركب هذه الحركة الثقافية المتنامية بسرعة.مزيد من الصور من آرت دبي:
جميع الصور مقدمة من Photo Solutions