FYI.

This story is over 5 years old.

مجتمع

لا أتخيّل نفسي اليوم بدون وحمة، قد لا أتعرّف على نفسي بدونها

شباب عرب يتحدثون عن تعاملهم مع أمراضهم الجلدية ونظرة المجتمع لهم

إلهام، 25 عاماً، شابة مغربية لم تكن تتوقع أن البقع البيضاء التي إنتشرت على جسدها نتيجة اضطراب في صبغة الميلانين أو ما يسمى بالبهاق، وتعودت معها على تجاهل التعليقات والانتقادات القاسية، ستعرّضها لموقف "قلّب عليها المواجع مرة أخرى" لمجرّد أنها تطوعت لإعداد قهوة الصباح لمديرها. "أخبروها ألا تُحضّر له القهوة مرة أخرى، إنه يشعر بالقرف منها،" بهذه العبارة وجهت زوجة المدير أوامرها لزملاء إلهام بالعمل. سماع هذه الكلمات كان قاسياً، ولكن إلهام تعودت على نظرة المجتمع المحدودة والجاهلة بالبهاق، فقد كان أيضاً سبباً في إلغاء مشروع زواجها، فوالدة الشاب تدخلت في علاقتهما ورفضت أن يتزوج ابنها إلهام بسبب ما وصفته بـ "مرضها."

إعلان

البهاق (Vitiligo) هو واحد من الأمراض الجلدية المنتشرة عبر العالم ويصيب حوالي 1-2% من سكان العالم أي ما يقدر 40 الى 50 مليون شخص، ويتسبب به نقص صبغة الميلانين في الجلد، وهو يؤدي إلى زوال اللون الطبيعي للجلد يظهر على شكل بقع بيضاء قد تكون على مستوى الوجه أو الجسم أو الشعر. السبب الرئيسي للإصابة به يبقى غير محدد لدى العلماء، إذ يُعتقد أن هناك عوامل وراثية وعصبية ومناعية تلعب دوراً في الإصابة به. على الرغم من انتشار هذا المرض الجلدي الغير مؤذي، إلا أن بعض المفاهيم الخاطئة حول البهاق (ينتقل عبر التلامس مثلاً) لا تزال متواجدة في المجتمعات العربية، مما يعمّق لدى الكثير من المصابين عزلتهم داخل المجتمع، وبالتالي عدم قدرتهم على التخلص من الإحراج الذي تسببه بقع البهاق في مظهرهم الخارجي. بالنسبة لإلهام التي أصيبت بالبهاق في سنّ مبكرة، فهي لازالت تعاني من نظرات الناس التي تطوقها أينما حلّت وممن يحذرون من لمسها أو التعامل معها، سواء كان ذلك في أماكن عامة أو خاصة.

أصبت بالبهاق في المرحلة الابتدائية، كنت سعيدة بتلك البقع، كنت أقول لأمي أريد أن أصبح بيضاء البشرة

"أصبت بالبهاق في المرحلة الابتدائية، وكانت والدتي هي من انتبهت للأمر. في طفولتي كنت سعيدة بتلك البقع، كنت أقول لأمي "أريد أن أصبح بيضاء البشرة،" تقول إلهام وتضيف: "ولكن بعدما كبرت أصبحت أشعر أن الناس ينظرون إليّ بشكل مختلف أو يحذرون من التعامل معي، سواء في الشارع، في التجمعات أو في مقابلات العمل." ولتفادي هذه النظرات والعبارات القاسية، تحرص إلهام على أن تتقيّد بعدد من الأمور كما تقول: "أحاول قدر الإمكان تجنب نظرات الناس، عبر ارتداء ملابس بأكمام طويلة حتى في فصل الصيف، وتجنب السباحة في البحر لأن بقع البهاق منتشرة بكثرة في جسمي ولكن ليس على وجهي، لذا أكتفي بالتجول على الشاطئ فقط."

إعلان

مهدي- الصورة مقدمة منه.

حالة مهدي، الشاب السعودي ذو الـ 28 عاماً، لا تختلف كثيراً عن إلهام، فهو بدوره أُصيب بالبهاق في سن مبكرة، ويقول متذكراً: "أصبت به في سنّ الـ 14، ظهرت البقع في جفون عينيّ. كان الأمر قاسياً وصعباً ولم أتقبّله في البداية، لكنني تمكنت من التغلب عليه مع مرور السنين." انتقال مهدي للسفر إلى الخارج وتكريس وقته وطاقته لهوايته المفضلة: التصوير الفوتوغرافي، مكّنه إلى حدّ كبير من التأقلم وتقبل وضعيته الصحية، كما يقول "فرّغت طاقتي واهتمامي كلّه عبر التصوير الفوتوغرافي، كان أمراً ساعدني كثيراً وعزّز ثقتي بنفسي، كما أن دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية واندماجي داخل المجتمع هناك جعلني أكثر ثقة بنفسي."

حنين، 25 عاماً، نشأت داخل أسرة لبنانية تقيم في أستراليا، تفسّر مسألة الاختلاف في المظهر الخارجي بالقول بأن "الجميع يشتركون في امتلاكهم لعيوب ما، إلا أن الفرق بيننا هو أن الله شاء أن يأتي ذلك على هيئة علامة ظاهرة وواضحة في الوجه أو الجسم، ربما لأنه يرى أننا الأكثر قدرة على إظهارها للآخرين." أما عن النّظرة للمجتمع نحو الآخر "المختلف" فتؤكد حنين أن الحياة تكون أشقّ وأصعب لفتاة وُلدت بوحمة حمراء بارزة على الوجه، ثم تضيف: "الشائع أن الجمال يوجد في الوجه أكثر من أيّ مكان آخر، لكن أن تولدي بوحمة على الوجه فإن الأمر يجعلكِ تلقائياً أقل جمالاً من غيرك، اللهم إن حاولت إخفائها بطريقة ما عبر مساحيق التجميل."

وجدت في العالم الافتراضي أشخاصا أشترك معهم في حصولنا على وحمة، وبفضلهم أصبحت أكثر قوة وثقة بنفسي

حنين- الصور مقدمة منها.

والوحمة (Nevus) عبارة عن علامة ملونة تظهر على البشرة عند الولادة أو بعد الولادة بفترة قصيرة وقد تظهر بألوان مختلفة، كما قد تختفي الوحمة تلقائياً مع التقدم في العمر أو تصبح أكثر سماكة وأكثر قتامة في اللون. وخوفاً من حدوث هذه المضاعفات في المستقبل، لم يتردّد والدا حنين في إخضاع ابنتهم لأي عملية من شأنها تخفيف لون الوحمة، إذ أجرت حنين أكثر من 30 عملية ليزر ناجحة قبل بلوغها سن الـ 16.

إعلان

تمكنت حنين من الوصول إلى مرحلة مهمة من التصالح مع الذات، أكدت في حوارها معي، فهي اليوم لا تتخيل وجهها بدون وحمة "قد يكون من الغريب أن أقول هذا، لكنني لا أتخيّل نفسي اليوم بدون وحمة على وجهي، قد لا أتعرّف على نفسي بدونها،" وتضيف: "وجدت في العالم الافتراضي أشخاصا أشترك معهم في حصولنا على وحمة، وبفضلهم أصبحت أكثر قوة وثقة بنفسي. إنني فخورة بأن شيئاً ما يجمعني بهم، أحبهم من خالص أعماقي وأتمنى أن ألتقي بهم يوما على أرض الواقع."

أما يوليانا يوسف، 25 عاماً، التي تتقاسم مع حنين نفس الأصول اللبنانية، وتعيش منذ ولادتها مع وحماتها البارزة التي اكتست لونا أسود وترامت على معظم جسدها، فقد تحدثت معي أيضاً عن معاناتها مع "كلام الناس" الذي رافقها طويلاً وجعلها تهرب لسنوات من نظرات الناس وتتجنب الخروج إلى الشارع. "عانيت في جميع مراحل حياتي من كلام الناس وأحكامهم، كان يُقال عني مريضة وأن مرضي مُعدي، وكلمة imperfect أو غير مثالية هي كلّ ما كنت أسمعه حول بشرتي،" تقول يوليانا التي تنشر اليوم صورها عبر صفحتها انستغرام لأكثر من 90 ألف متابع: "كنت أتجنب الخروج لأنني أعلم أن الكثيرين سينظرون إليّ باشمئزاز وربما بتقزز، وقد يتفوهون بكلمات جارحة، وكأن وحمتي ستؤذيهم في شيء، كثيراً ما تكون ردود أفعال الناس غريبة بل مضحكة أحياناً."

تصيب الوحمة الخلقية الصبغية (congenital melanocytic nevus) كتلك التي تملك يوليانا، الرضع أساساً. أما سبب الإصابة به فيعود إلى اختلال في خلايا الجسم أثناء التطور الجنيني، وهذه الوحمات شائعة جدًا، وترجع الأسباب وراء ظهورها إلى النمو الزائد للخلايا الصبغية في البشرة، فمعظم الوحمات الخُلقية ميلانينية الخلايا تصبح أصغر وأقل ملاحظة نسبيًا مع الوقت. ولعلّ ندرة هذا الصنف من الوحمات وجهل المجتمع بوجوده جعل هذه الفتاة، التي تحمل في عروقها دماء لبنانية وأوكرانية، تقتحم عالم السوشيال ميديا وتنشر صورها الشخصية: "قبل سنوات قليلة فقط، قرّرت أن أواجه العالم من خلال عالم السوشيال ميديا وأنشر صوري دون أي خجل أو عقد من خلال هاشتاغ انتشر وقتها هو #bareyourbirthmark أي "اكشف وحمتك" وأظهر للعالم أننا سواء ولا نختلف عن بعضنا في شيء."

إعلان

وتضيف يوليانا: "اكتشفت من خلال هذا الهاشتاغ أن هناك أشخاصاً آخرين يعانون من أمراض جلدية مختلفة ويشعرون بالخجل من إظهارها، لذلك غيّرت الهاشتاغ إلى #perfectionofmyskin أو مثالية بشرتي، وأردت من خلاله أن يكون موجها للجميع. هدفي من هذه -"الحملة" إن صحّ التعبير- هو حث الناس على مواجهة ما يعتبرونه نقصاً أو عيباً ببشرتهم، وألا يبحثوا عن رضى الناس بل أن يمارسوا حياتهم بشكل طبيعي داخل المجتمع بدون أي عُقد."

قصة فاطمة الزهراء، 26 عاماً، تختلف قصتها كثيراً عن الآخرين. فالأمر هنا لا يتعلّق فقط بنظرة المجتمع، إنه أكثر تعقيدا بالنسبة لهذه الفتاة التي كُتب لها أن تصاب بمرض التقرح الجلدي الاصطباغي أو ما يطلق عليهم "أطفال القمر" ليحرمها من طفولتها، من مقاعد الدراسة ومن عيش حياة طبيعية تعانق فيها نور الشمس. ويعدّ التقرح الجلدي الاصطباغي مرضاً وراثياً نادراً وغير معدٍ، يعاني المصابون به من حساسية جلدية شديدة لأشعة الشمس، تنتج عنها تقرحات جلدية والتهابات بصرية.

تقول فاطمة الزهراء إنها أصيبت بالمرض في سنّ مبكرة وتحديدا في عمر السنتين. "اضطررت الى ترك المدرسة خلال المرحلة الابتدائية، لأنها كانت بعيدة عن منزلنا كيلومترين، وفي طريقي إليها كنت أتعرض لأشعة الشمس، التي سببت لي تسلخات جلدية، كادت أن تتطوّر إلى تقرحات سرطانية قد تفقدني حياتي." هذا الوضع لم يؤثر فقط على حياة فاطمة الزهراء بل ألقى بظلاله حتى على أسرتها، إذ اضطر والدها إلى مغادرة وظيفته كي يعتني بابنته، كما عاش معها تفاصيل أكثر من 47 عملية جراحية أجرتها هذه الشابة حتى الآن.

هناك من يصرخ ويجزع عند رؤيتي، وهناك من قالوا لي "لو كنت مكانك لما تجرأنا على الخروج بهذا الوجه" فيما يظن آخرون أنني تعرضت لحروق جلدية

فاطمة الزهراء وكغيرها من أطفال القمر داخل المغرب وعلى امتداد الوطن العربي، تعاني من غياب التعويض على المرض، ونقص الأدوية ووسائل الحماية من الأشعة، فضلاً عن تعرضها لعدة مواقف محرجة وقاسية: "هناك من يصرخ ويجزع عند رؤيتي، وهناك من قالوا لي "لو كنت مكانك لما تجرأنا على الخروج بهذا الوجه" فيما يظن آخرون أنني تعرضت لحروق جلدية." بالنسبة لفاطمة الزهراء فإن هذه العبارات أصبحت عادية ولم تعد تعني لها شيئاً، لكن ما يثير قلقها اليوم هم الأطفال الصغار: "يؤلمني التمييز والتجريح الذي يتعرض له الأطفال المصابون بجفاف الجلد، فصغر سنهم لا يسمح لهم باستيعاب مرضهم واختلافهم. أجزم أن ذلك سيؤثر على نفسيتهم في المستقبل، خصوصا أننا نعيش في مجتمع لا يرحم."

هذا المجتمع ونظرته اللذان يؤرقان بفاطمة الزهراء، في ظل تواجد عدد كبير من الحالات التي وصلت إلى مراحل خطيرة بسبب الجهل بهذا المرض، جعلها تفكّر جدياً في تغيير هذا الوضع من خلال استخدام مواقع التواصل الاجتماعي: "شجعني قريب على فتح قناة على اليوتيوب وصفحة على فيسبوك بعنوان بنت القمر، لأعرّف من خلالها بأطفال القمر ومعاناتهم، ويكون أيضاً فضاءً يسمح للمرضى بالتواصل فيما بينهم وتقديم المساعدة الممكنة. أعتقد أن الطريق لازال طويلاً أمامنا، وعلى الجهود أن تتكاثف في هذا الاتجاه."

يعتقد مهدي أن المجتمع العربي ينقصه الكثير من الوعي وثقافة الاختلاف، وهو الأمر الذي سيجعلنا كأفراد ومجموعات قادرين تلقائياً على احتواء جميع المرضى وعدم عزلهم عن محيطهم. "من خلال دراستي في الولايات المتحدة وجدت أن المجتمع هناك يتقبلّون المصابين بالبهاق ولا يعتبروننا مختلفين عنهم، عكس مجتمعنا العربي الذي ينقصه الوعي واحتواء المرضى وعدم عزلهم عن المجتمع. عليهم أن يعلموا أن البهاق مجرد تغير في لون البشرة وأنه غير مُعدٍ بالمرّة. كما أقول للمصابين بالبهاق: "لا تخجلوا من مظهركم إنه ابتلاء وإمتحان، ولكم أجر الصبر."

أما إلهام فقد ختمت كلامها بكلام مفعم بالثقة والأمل:"أنا مؤمنة بما أصابني، ومقتنعة بأنه اختبار من الله، لقد منحني هذا المرض وعوضني بأشياء أخرى. من يحبك سيقبل بك كما أنت وليس كما يريدك المجتمع،" مؤكدة أنها تخطّت منذ زمن حاجز الخجل والخوف من المجتمع، بل وأقدمت على نشر صورها في مواقع أجنبية متخصصة لدعم مرضى البهاق.