مقال رأي

لماذا يخذلنا المشاهير في المعارك الأخلاقية الكبرى؟

الأسباب كثيرة، وأولها بدون تفكير رأس المال
لماذا يخذلنا المشاهير في المعارك الأخلاقية الكبرى؟​
X/TWITTER - SCREENSHOT

في كتاب "Profit Over People"، يقول نعوم تشومسكي: "في النظام الديمقراطي، المحكومون يملكون الحق أن يوافقوا، لكن لا شيء أكثر من ذلك. وفي اصطلاحات الفكر التقدمي الحديث، الناس ربما يكونوا مشاهدين، لكنهم ليسوا مشاركين.. عامة السكان يجب إقصاؤهم من كل الواقع الاقتصادي، حيث أن ما يحدث في المجتمع محدد بشكل كبير. هذا يعني أن العامة لا دور لهم ضمن نظرية الديمقراطية السائدة." وفق هذه المقولة، قد نظن أن المشاهير في أحيان كثيرة ليسوا ضمن هذه النظرية أو هذا الواقع، لكن الماضي والحاضر يُعلمنا أنهم -ربما- أضعف من أن يكونوا حتى مشاهدين أو متأملين فيما يحدث حولهم، بل أحيانَا يصبحون داعمين للطرف الأقوى في أي معركة أخلاقية يتحدى الخير فيها وجوه الشر المتعددة. 

إعلان

خلال الحرب الشرسة على غزة خلال الأسبوعين الماضيين، وجدنا أنفسنا أمام موجات هائلة من المعلومات والتلاعب بالحقائق والمواقف الرمادية، حيث لا نعرف كيف يمكن للعامة أن يتخذوا موقفَا أخلاقيًا تجاه قضية واضحة وبديهية حول الحق الفلسطيني في الأرض منذ أكثر من سبعة عقود. وجدنا أن الحقيقة مُموهة ومائعة، سائلة سيولة الوجوه المختبئة وراء صفحات السوشيال ميديا. ولعل أبرز مثال أثار جدلًا على منصات التواصل الاجتماعي هو محمد صلاح، لاعب كرة القدم المصري، الذي تأخر رد فعله كثيرًا تجاه ما يحدث في فلسطين، وعندما خرج علينا بكلماته، تمنى الكثيرون أن يسكت "مو" بدلًا من هذا الحديث المائع. 

صلاح ليس هو الموضوع، لكنه مجرد مثال يجعلني أتساءل دومًا: لماذا خذلنا الكثير من المشاهير، ومازالوا يخذلوننا، رغم أن جزءًا كبيرًا من قيمتهم المجتمعية بُنيت على الدعم الجماهيري؟ الأسباب كثيرة، وربما معلومة لمعظمنا، وأولها بدون تفكير رأس المال. إن وحشية رأس المال لديها القدرة على طمس معالم الأخلاق، فتتحول البديهيات لأمور مشكوك فيها، والمشاهير هنا جزء أصيل من هذه الوحشية التي تأكلنا.

الفردية أو الفردانية 

في ظل عالم يسير نحو الفردانية بسرعته القصوى، وانتشار العديد من منصات السوشيال ميديا حول العالم، أصبحت المواقف الأخلاقية مرتبطة بالأفراد أكثر من ارتباطها بالجماعات. ولذلك، من الصعب الحكم على المواقف الأخلاقية الجماعية بناءً على ما نراه على الإنترنت. كما أنه من المستحيل القول إن هذا الموقف نهائي، لأن الأفراد أحرار في اختيار مواقفهم الأخلاقية، حتى لو كانت تتعارض مع مواقف الجماعة التي ينتمون إليها.

ويمكن مواجهة الضغط المجتمعي بضغطة زر واحدة عندما يبتعد هذا المؤثر أو ذلك النجم عن الإنترنت. بالطبع هناك تأثير جماعي للسوشيال ميديا وانخراط وتضامن ومشاركة من الجماعات وهذا هو الوجه الآخر-الإيجابي إن أمكن القول- لهذه المنصات. لكن مع المشاهير، فالمسألة إما أن يكون هذا الشخص المشهور بطلاً اجتماعيًا يُرفع على الرؤوس أو تدهسه التعليقات، الأقدام سابقًا. 

إعلان

علاقة المشاهير بالسلطة في المطلق

إذا رسمنا خطًا بيانيًا لمواقف المشاهير العرب السياسية المتخاذلة، فلن ينخفض الخط البياني أبدًا، بل سيظل في ارتفاع مستمر. ولعل مثال محمد رمضان مؤخرًا ونشره فيديو يدعم القضية الفلسطينية يبرهن على ذلك. فالفنان المصري الشهير نشر هذا المقطع بعد أن اتضح لنا أن الدولة المصرية تجهز أسلحتها الإعلامية لصنع رأي عام تجاه ما يحدث في غزة. وأرجح أن محمد رمضان لم يكن ليقدم لنا هذا الانفعال الكوميدي في الفيديو لولا أنه حصل على الضوء الأخضر للحديث.  

في الوقت نفسه، يمنح دعم المشاهير للسلطات حماية لهم وحصانة بلا حدود. مثال على ذلك تصريح جورج وسوف الشهير عن الرئيس السوري بشار الأسد، حيث قال إنه "صاحب القلب الطيب والحِنين.. ما بيحب الدم ومتعلم ولطيف." وكم من صحفيين ومثقفين عرب خذلونا أثناء أحداث الربيع العربي، وكنا نظن أنهم مَن سيقفون في الصفوف الأولى بصدورهم أمام رصاص السلطة. لكنهم تماهوا مع هذا الرصاص ووضعوه في بنادقهم وصوبوه نحونا. 

اختلاف الطبقة الاجتماعية

سيكون من السذاجة أن ننفي أهمية التحليل الطبقي في مواقف المشاهير، حتى لو كان المشاهير في بداياتهم من الطبقات الفقيرة. وهذا قد يثير تساؤلات حول مدى تضامن المقهورين والفقراء مع بعضهم البعض، وأن الفقير حتى لو اشتهر، لا ينسى أصله وبيئته وتضامنه مع أمثاله. وأشهر مثال على ذلك هو النجم الأرجنتيني الراحل مارادونا، الذي صرح بأن قلبه فلسطيني، رغم أن الحسابات المنطقية قد تقول لنا، ما علاقة مارادونا بقضية في الجانب الآخر من العالم؟ وكيف يُعقل أن النجوم العرب لم ينطقوا بكلمة واحدة يتعلق بتاريخ القضية الفلسطينية، وربما لم يكن لديهم أي اهتمام بها أصلًا؟

إعلان

كما يُظهر الواقع كذلك أن العديد من المشاهير يفقدون ارتباطهم ببيئتهم الأصلية، ويتحولون إلى كيان منفصل عن الجمهور. ونتيجة لذلك، يصبحون أنانيين، ويفقدون طبيعتهم البشرية، وتصبح تصرفاتهم متوقعة، كالروبوت.

"نحن لا نحب الحديث عن السياسة"

الكثير من المشاهير يعشقون ترديد عبارة "نحن لا نحب الحديث في السياسة"، وكأن السياسة منفصلة عن الواقع، ولا تدخل في كل تفاصيله، فكل ما هو شخصي سياسي في نهاية المطاف. والسياسة ليست حكرًا على الساسة وصناع القرار وأصحاب السلطة. لكن هذه المقولة هي مجرد ذريعة يلجأ إليها بعض المشاهير للهروب من المسؤولية التي تفرضها عليهم شهرتهم. فعندما يعبرون عن آرائهم بشكل صريح، فإنهم يخاطرون بالكشف عن سطحية أفكارهم وميلهم  إلى الفردية. لذلك، يلجأون إلى قول عبارات عامة وغامضة لا تعبر عن آرائهم الحقيقية. وبذلك، يحافظون على شهرتهم، ولكنهم يفقدون احترام الجماهير.

ما يزيد الأمور سخرية هو أن المشاهير يمكنهم أن يستخدموا كلمة الإنسانية ضمن لغة خطابهم المائع، فتصبح الإنسانية جامعة للقاتل والضحية في نفس السلة. وبهذا يصبح التحرش والاغتصاب مجرد نوع من الضعف الإنساني  والتطهير العرقي مسألة غير مؤكدة والعقاب الجماعي دفاع عن سيادة الدولة.

كل ما سبق يبرر تمامًا ردود الأفعال الجماعية الغاضبة تجاه المشاهير، لأنهم رسموا صورة ذهنية معينة عن هذا المؤثر ويتوقعون منه المبادرة والريادة في المعارك الأخلاقية لأنهم ظنوا أنه واحد منهم. وأن هذا المؤثر، في لحظة ما، يمثل قوة دافعة للجماعة التي تحتاج إلى بعضها البعض حتى تستطيع الاستمرار في المعركة. ولذلك فإن الأوضاع المائعة للمشاهير قد تهدد صلابة الجماعة وتجعلها مائعة على المدى الطويل. الحديث عن الحرية في هذا العصر يركز على حرية التعبير عن الرأي، ولكن هذا الجانب من الحرية لا يعكس حقيقة الأمر كاملة. فالحرية الحقيقية هي حرية التعبير عن أي رأي، بغض النظر عن مدى توافقه مع الأفكار النيوليبرالية. إذا لم تلتزم بهذا الخط، فسوف تُصنف على أنك من الرجعيين/الإرهابيين الذين لا يؤمنون بالأفكار الغربية البيضاء.

إن تأثير المشاهير لا يترك  للصدفة، بل هو جزء من حسابات واضحة للأنظمة الحاكمة الغربية. وهذه الأنظمة ليست بالضرورة حكومات، بل هي أنظمة اقتصادية وفكرية عابرة للحدود. وهكذا يتم إستخدام المشاهير كأدوات لخلق فقاعات رأي عام ذات تأثير لحظي، لكنها لا تغير الرواية الحاكمة في الغرب ضد الفلسطينيين، والتي تعتمد على تصويرهم كحيوانات بشرية إرهابية.